قضايا
أنا كورنبلوه: المباشرة أو أسلوب الرأسمالية المتاخرة جدا
كتاب: أنا كورنبلوه
مراجعة: الكسندر ايرتس.
ترجمة: علي حمدان
***
يميل راس المال بشكل عام إلى دمج كل شيء في شبكة تداول تتوسع باستمرار، الملكية، السلع ووسائل الإنتاج. تظهر الحركة الموضوعية لرأس المال – تراكمه وتحققه-كيف ان جوهره الإنتاجي، الذي يتجلى بشكل افضل في التصنيع، لايمكن ان يكون فعالا الا بفضل الجانب الآخر من عملية التقييم: الشكل النقدي في مجال التداول. ان تكثيف التدفقات من خلال اعتماد المجتمع على النقد هو ما يبدو انه يميز المجتمع التجاري المعاصر.
تقوم آنا كورنبلوه في كتابها ، المباشرة أو "الفورية، أو أسلوب الرأسمالية المتأخرة" ، بالبناء على وتفكيك هذا التصور الاقتصادي نقديا: لقد أصبح مجال التداول هو العامل المهيمن في عملية تحقيق القيمة للرأس المال. لقد حدد المخطط الماركسي لعملية تحقيق راس المال وسيلتين لتراكم رأس المال، الإنتاج والتداول، ولكن من الناحية الاقتصادية، لا يعملان دائمًا بالتساوي عبر الزمن. ووفقاً لكورنبوه، فإننا نعيش في فترة من الركود المزمن الذي يتسم بأزمة تراكم تتكشف ببطء. وقد حدث عدم تناسق بين الوسيلتين بسبب تباطؤ الإنتاج، مما خلق الحاجة إلى تكثيف التداول للتعويض عن خسارة رأس المال. ويعتمد تراكم رأس المال الآن بشكل متزايد على الاستغناء عن الوسطاء، ودمج التكنولوجيات، وإنشاء المنصات. ترجع هذه الزيادة إلى انخفاض معدل الربح: يحتاج رأس المال الإضافي إلى عدد أقل من العمال، في حين يظل العمل هو المصدر النهائي لارباح رأس المال.
إن غياب الوساطة المتأصل في التداول يصل إلى آفاق جديدة في عصر الركود المزمن الذي نعيشه. تتكثف تدفقات السلع والممتلكات والعمالة وأدوات الإنتاج وتصبح سطوحها مسطحة مما يؤدي إلى تسريع عملية تثمينها. لم يصبح التدفق القيمة الأساسية لاقتصاد القرن العشرين فحسب، بل أصبح أيضًا القيمة الأساسية لأسلوب "المباشرة" الذي يميز ثقافتنا المعاصرة. ولذلك تذكر كورنبلوه أن " التقسيم السريع للاقتصاد المعلوماتي يحدد طريقة اللاوساطة في الإنتاج الجمالي المعاصر". بالنسبة لكورنبلو، تعتبر المباشرة والفورية هي المحصلة الرئيسية لفهم السوق وأسلوبنا الثقافي المعاصر.
الهدف الرئيسي لكتاب كورنبلوه هو نقد هذا النمط الثقافي المهيمن المتمثل في "الفورية" من خلال تطوير خصائصه الشكلية وتحديدها في وسائط محددة: الكتابة والفيديو والنظرية. يُنظر إلى المباشرة هنا على أنها نقيض الوساطة. في النظرية الجمالية، تشير هذه الوساطة إلى العملية النشطة للربط: صنع المعنى عن طريق غرسه في وسط وبالتالي خلق مفاهيم مجردة غير متاحة لحواسنا مثل “العدالة” أو “القيمة”. يمكن للفن أن يحفز الفكر ويجعلنا ندرك الظواهر بطرق جديدة عن طريق إلابتعاد عن التواصل العادي. تحاول المباشرة سحق وظيفة الوساطة الخاصة بالثقافة المعاصرة.
مستلهمة بشكل كبير من أعمال فريدريك جيمسون، تربط كورنبلوه هذا الأسلوب بمفهوم “راسمالية متاخرة". في أيامنا هذه، هناك شعور بأن الأوان قد فات لعكس التطورات الكارثية لرأس المال. في حين أن فكرة جيمسون عن ما بعد الحداثة كأسلوب للرأسمالية المتأخرة لا تزال تتصور مستقبلًا رأسماليًا أو كارثيًا، فإن هذه المنظورات القاتمة قد انغلقت الآن على نفسها في الرأسمالية المتأخرة جدًا. لقد قوضت الفورية قدرتنا على إبراز أنفسنا في المستقبل وحصرتنا في حاضر خانق.
تذكر كورنبلوه أن المباشرة تحتوي على نواة من الحقيقة. هذا الحاضر والشعور بالإلحاح يعبران عن الأزمات الملحة الي نعيشها، مثل كارثة المناخ، وتصاعد الحروب، والركود الاقتصادي. إحدى الحجج الأساسية لكورنبلوه هي أن “ المباشرة أو الفورية هي رد فعل على الأزمة التي تفشل في اختبأر الاستراتيجية، وهو رد فعل يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار الأزمة” . تعمل الفورية على إضفاء الطابع النسبي على نمط الإنتاج من خلال تعزيز التداول.
تريد الفورية تصميم أسلوب التداول ولا توجد وسيلة أخرى قادرة على الانتشار بشكل أسرع من الصورة. من خلال الاعتماد على التحليل النفسي اللاكاني، تحاول كورنبلوه فهم كيف يؤثر التداول المنمق، مثل التدفق المستمر للصور، على النفس وينتج عنه موضوع نرجسي يحتاج إلى تأكيد مستمر للآخر. تم تصميم هذه المرآة النرجسية صناعيًا في اقتصاد يثمن تداول الصور، وأفضل مثال على ذلك هو الاعتراف الزائف بالإعجاب بالصور الذاتية (السلفي). يميل الأفراد إلى إنتاج صورهم الخاصة. وكما تقول كورنبلوه فإن «جاذبية الفورية أو المباشرة تكمن في التعويض النقدي للاتصال المتخيل مع واقع متخيل» . يتم تجاهل الوساطة من خلال الآخر الحقيقي من خلال مباشرة ملكية الهوية الخاصة بالفرد. يؤدي الشغف بالواقع المتخيل في النهاية إلى تراجع المجال الرمزي للمجتمع. وبعبارة أخرى، فإن السلطة التي كانت تدعم المعايير والقيم الثقافية أو اللغة المقبولة اجتماعيا قد تبددت، مما يفسح المجال أمام الواقع المصغر الخاص بالفرد.
إن الوسيلة الأولى التي تحدد فيها كورنبلوه سيطرة الآنية هي في صعود الكتابات الذاتية السردية. يُظهر العمل الروائي الطويل المؤلف من 3600 صفحة لكارل كناوسجارد، بعنوان "كفاحي"، والذي تُرجم إلى 36 لغة، الشعبية المتزايدة للرواية الذاتية. "كفاحي" هو وصف شبه خال من الشكل لحياة كناوسجارد اثناء كتابة الكتاب. الحياة الفردية للمؤلف هي محور العمل. بالنسبة لكورنبلو، فإن هذا يجسد هيمنة السرد بضمير المتكلم في الكتابات المعاصرة. أظهر البحث التجريبي الذي أجراه خبير التحليلات الحسابية تيد أندروورد، والذي استشهدت به كورنبلوه، أنه منذ سبعينيات القرن العشرين تعرض السرد بضمير الغائب لمنافسة من قبل السرد بضمير المتكلم في الروايات. إن سخرية صناعة الثقافة جعلت من رفع صوت المرء أهم المشاريع الأدبية وأكثرها ربحا. عليك أن تمتلك قصتك الخاصة.
كتاب "كفاحي" لكناوسيغارد، هو وصف لحياة المؤلف تم تطويره بدون فصول وبنية نصية قليلة جدا. تؤكد كورنبلوه أن الافتقار إلى التمييز وإضفاء الطابع الرسمي هو أمر نموذجي للرغبة الفورية في جعل الكتابة تتدفق. من خلال تفكيك هيكلة النص، يتم تسطيح سرد الكتاب. يمكن للقارئ الآن أن ينغمس بالكامل في السرد الوصفي. كما هو الحال في تركيز "كفاحي" على الحياة اليومية للمؤلف أثناء كتابة الكتاب، أصبح "هنا والآن" هو الإطار الزمني للرواية الذاتية. يتم استبدال السرديات المستقبلية الواسعة أو التحليلات التاريخية بالحاضرية الفورية. لقد قادت مقولة "اكتب ما تعرفه" أدى بالكتاب إلى تطوير واقعية خام : وصف للواقع بضمير المتكلم.
اليوم، أصبحت المنصات المتعددة لتدفق الفيديو، مثل موقع يوتيوب، تجعل المباشرة السمة الأساسية للصورة المتحركة. زمنية هذه الفيديوهات هي مدة بسيطة: الزمن الحقيقي للحاضر المستمر. لقد أدى انتشار المحتوى المتدفق إلى كسر الحواجز بين الأنواع، وأغرقتنا المشاهدة المفرطة في تدفق مستمر من الصور، وأصبحت وجهة نظر الشخص الأول هي المنظور السائد لمقاطع الفيديو.
أخيرًا، تطور كورنبلوه نقدًا للنظرية المعاصرة، وخاصة النظرية الذاتية، كتعبير عن رغبة الآنية في "حل الوسط والصيغة والحدود سعيًا وراء الحضور والتعرض المفرط". تتم كتابة الأعمال النظرية الذاتية مثل "عيش حياة نسوية" لسارة أحمد أو "التشاؤم الأفريقي" لفرانك ويلدرسون من منظور الشخص الأول حول تجارب حياتهم الحقيقية واستخلاص الاستنتاجات "النظرية" من هذه التجربة المعاشة. وفقًا لكورنبلو، فإن النظرية الذاتية بطبيعتها مناهضة للتمثيل لأن منظور الشخص الأول يحل المفارقة الديمقراطية المتمثلة في تمثيل مجموعة من الناس. إنها تتخلص من الاستراتيجيات السياسية لصياغة ذاتية جماعية من خلال جعل الممارسة العملية تتمحور حول "الأنا" الانانية.
تدعي هذه الكتب النظرية الذاتية أنها تضع نظرية للفورية غير الوسيطة، أي الفهم البديهي والمباشر لحياتهم. إن علاقة المنظر بكيانه كناشط نسوي أو أمريكي من أصل أفريقي تتجاهل هدف المنظر النقدي المتمثل في التعبير عن العلاقات من خلال وساطة موقفهم النظري للمجتمع بشكل عام. بعبارة أخرى، ترى كورنبلوه أن النظرية النقدية يجب أن تجرد من "الأنا" من أجل الاستقصاء والاعتراف بـ "النسيج نفسه الذي يجعل الفلسفة ممكنة: البنية الاجتماعية التي تخصص الطعام والمأوى والوقت لتعلم القراءة والكتابة والتأمل". في النهاية، تربط كورنبلوه الميل المناهض للنظرية في النظرية الذاتية المجردة من المواقف الاجتماعية المناهض للنظرية وتعزي ذلك إلى الظروف الاقتصادية المتمثلة في التهويل وعدم الاستقرار في الحياة الأكاديمية. إن التعبير عن صوت الفرد "النظري" ضروري لتمييز نفسه عن الآخرين في سوق عمل شديد التنافسية، ومن الأسهل كتابته بعقد تدريس قصير الأجل.
الفورية أو أسلوب الرأسمالية المتأخرة للغاية تأمل في دفع الجدلية التاريخية نحو تركيب إيجابي للأساليب الثقافية من خلال تحديد الخيوط الثقافية المضادة التي تحاول التوسط في المشكلات الاجتماعية. يتم تقديم العديد من الكتابات والمسلسلات والنظريات مثل Harlem Shuffle لكولسون وايتهيد، وQueen Sugar للكاتبة آفا دوفيرناي، واليوتوبيا الأمريكية لفريدريك جيمسون، ضد الأشكال الثقافية المباشرة من خلال إظهار رؤى جماعية للممارسة السياسية. هذه الأعمال مجردة وتتجاوز وجهة نظرها الفردية لإشكالية أسلوب الإنتاج الحالي لدينا.
انتقد البعض تصنيف كورنبلوه للرواية الذاتية، والفيديو، والنظرية الذاتية تحت راية واحدة من الفورية لكونها عامة للغاية. هنا تستسلم كورنبلوه لنفس الاتجاه الذي تحاول انتقاده في جميع أنحاء الكتاب: ازدراء الآنية للتمييز وإضفاء الطابع الرسمي. علينا أن ننظر إلى منهجية كورنبلوه في التعميم باعتبارها نقطة قوة ونقطة ضعف منهجية. ومع تقدم الكتاب، يتم إدراج المزيد والمزيد من الأشكال الثقافية المعاصرة ضمن فئة الآنية، مما يؤدي إلى نسف المفهوم وتقليل معناه. ومع ذلك، من خلال تعميم خصائص الكتابات الروائية الذاتية ومقاطع الفيديو والنظرية المضادة وربطها بالركود الدائم وتكثيف التداول، يمكننا أن نرى كيف أن أسلوب الآنية هو جزء من مرحلة ما وراء التاريخ من الرأسمالية.
وبعيدًا عن منهجية كورنبلوه، تظل مشكلة أعمق تتعلق بتأثير الرأسمالية على المجال الرمزي للمجتمع دون إلحصول على إجابات شافية من الكتاب. بأي طريقة لا يعد الأسلوب الثقافي للفورية تعبيرًا عن مرحلة حالية في نمط الإنتاج فحسب، بل أيضًا تعبير عن ديناميكية جوهرية للرأسمالية ذاتها؟ تثير كورنبلوه هذه المشكلة عندما تتحدث عن ماركس: “إن التداول باعتباره تدفقًا لا نهائيًا فوريًا هو […] دائمًا جزء لا يتجزأ من عملية تثمين، ولا يقل أهمية عن الإنتاج” (٢٩). إن الاستغناء عن الوساطة هو المحرك الأساسي للرأسمالية، كما يتجلى على أفضل وجه في فكرة القيمة ذات القيمة الذاتية: المال يعيد إنتاج المزيد من المال دون إنتاج السلع. ألم تحاول الرأسمالية إحباط الوساطة الرمزية طوال وجودها؟
على الرغم من انتقاد جوهرية دولوز في كتاب كورنبلوه باعتبارها تعبيرًا عن جمالية التدفق، إلا أن دولوز وجواتاري في كتابهما ضد أوديب صاغوا ادعاءً مهمًا: الكتابة لم تكن أبدًا من اهتمامات الرأسمالية. المال، كوحدة قيمة عامة هو في الوقت نفسه وسيلة لتوسيط التبادل وبالتالي تسهيل الدورة الاقتصادية، ولكنه أيضًا طريقة لإدراج الوساطة الرمزية لأنها تعبر بشكل مباشر عن العلاقات الاجتماعية للتجارة والاستهلاك. وبعبارة أخرى، فإن المال هو دالة يمكنها تجاوز الوساطة اللغوية من خلال التعبير الرقمي عن هذه العلاقات. وفقا لهما، فان الرأسمالية هي بالتالي بطبيعتها أمية لأنها تتخلص من التفاسير والوساطات الرمزية من خلال فك شفرة الرموز عبر المسلمات السوقية. لسوء الحظ، لا تنظر كورنيلا في كيفية ان يكون لدي الرأسمالية دافع داخلي لفك شفرة العلامات وتجاوز الوساطة الرمزية بما يتماشى مع ضرورات السوق. ربما ذلك قد يكون ساعدنا على فهم افضل لسبب انتشار المباشرة في الثقافة المعاصرة.
***
.....................
*Ann Kornbluh Immediacy Or, The Style of Too Late Capitalism
Reviewed by Alexander Aerts.
Marx & Philosophy, Review of Books.