قضايا
مجيدة محمدي: الصفحات الإلكترونية الوهمية.. إسفين الفرقة في قلب الشعوب العربية

ملخص: في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الفضاء الرقمي، باتت الصفحات الإلكترونية الوهمية أداةً مركزية في بث الانقسامات داخل المجتمعات العربية. إذ تستخدم أطراف متعددة هذه الصفحات لزرع خطاب الكراهية وتأجيج النعرات الطائفية والمذهبية والثقافية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الظاهرة من منظور سوسيولوجي وإعلامي، مبيّنةً آليات عمل هذه الصفحات، والجهات التي تقف وراءها، وآثارها على الهوية العربية الجامعة، ومقترحةً مجموعة من السبل الممكنة لمواجهتها.
مقدمة
في عالم تتسارع فيه حركة المعلومات بما يفوق حركة الجيوش، وتتبدل فيه جبهات الصراع من الميدان إلى الشاشات، أصبح الفضاء الرقمي منصةً لحروب ناعمة لكن عميقة التأثير. من أبرز تجليات هذه الحروب ظهور ما يُعرف بالصفحات الإلكترونية الوهمية، التي تستهدف الشعوب العربية بخطاب يستبطن الكراهية ويعيد إنتاج الانقسام الثقافي والطائفي، ضمن ما يُعرف بحروب الجيل الرابع. فما طبيعة هذه الصفحات؟ وكيف تؤثر على النسيج الاجتماعي العربي؟
أولاً: تعريف الظاهرة وآليات عملها
الصفحات الوهمية هي حسابات أو مواقع إلكترونية تُدار من قبل أفراد أو جماعات أو أجهزة، غالبًا ما تتخفى خلف هويات زائفة تدّعي تمثيل مكوّن اجتماعي أو ثقافي أو ديني معيّن. تُستخدم هذه الصفحات لنشر محتوى موجّه، يتم تصميمه بعناية اعتمادًا على تقنيات تحليل البيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، بغرض التأثير في الوعي الجمعي وتحفيز ردود فعل انفعالية تؤدي إلى الانقسام الداخلي.
تشير تقارير متخصصة إلى أن هذه الصفحات:
تستخدم الهويات الزائفة لتعزيز مصداقيتها داخل فئة مستهدفة.
تعتمد على الخوارزميات لرصد سلوك المستخدمين وبث محتوى يستثير مشاعرهم وهوياتهم الهشة.
توظّف السرديات الطائفية والمقولات الأيديولوجية المشحونة لتأجيج التناقضات داخل المجتمع الواحد.
ثانيًا: تحولات الطائفية في الفضاء الرقمي
لم تعد الطائفية والمذهبية في العالم العربي مقتصرة على منابر دينية أو صراعات سياسية؛ بل أعيد إنتاجها رقمياً من خلال محتوى موجّه يخلط بين العاطفة والمعلومة، ويُعيد صياغة الآخر باعتباره تهديداً. وتُظهر الدراسات كيف تتحول المنشورات، الصور، والمقاطع المصورة إلى أدوات تنميطية تكرّس الكراهية وتُعمّق الفجوة بين مكوّنات المجتمع الواحد.
من الأمثلة على ذلك:
صفحات تدّعي التشيّع تهاجم رموز السنّة، والعكس بالعكس او طائفة مسيحية تهاجم أخرى.
.و أخرى تنتحل هوية "نخب ثقافية" لتمارس التنمّر على مكوّنات اجتماعية أو ثقافية تحت ستار "الاختلاف الثقافي".
حسابات مجهولة تُعيد تدوير مقاطع مُجتزأة من سياقها لتأكيد صورة نمطية أو إثارة الغضب الجماعي.
ثالثًا: الآثار الاجتماعية والسياسية المترتبة
تفكيك الهوية الجامعة: عبر تفريغ المفاهيم المركزية مثل العروبة أو الإسلام من معناها الجمعي وتحويلها إلى هويات متصارعة.
نزع الشرعية عن الرموز: من خلال التشكيك المستمر في المؤسسات الوطنية والدينية، وإعادة تشكيل صورتها بشكل سلبي.
إشعال النزاعات: إذ تنتقل الفتنة من الفضاء الرقمي إلى الشارع، فتظهر بوادر العنف السياسي أو الاجتماعي.
الانكفاء الثقافي: حيث يتقوقع كل فرد أو جماعة على هويته الضيقة، وتضمحل فرص الحوار أو التفاعل مع المختلف.
رابعًا: من يقف خلف هذه الظاهرة؟
لا يمكن حصر الجهات بدقة، إلا أن تقارير دولية وتحقيقات رقمية كشفت عن ضلوع أطراف متعددة، من بينها:أجهزة استخبارات أجنبية إسرائلبة وغربية تستخدم هذه الصفحات كجزء من استراتيجية التأثير غير المباشر.
جيوش إلكترونية مدفوعة الأجر تدير آلاف الحسابات لتوجيه الرأي العام.
شركات علاقات عامة مشبوهة تعمل على تنفيذ أجندات تمويلية وسياسية عبر التلاعب بالمحتوى الرقمي.
هذه الأطراف تعتمد على التمويل غير النظيف وتستثمر في الفوضى المعلوماتية لتمرير مصالحها.
خامسًا: نحو استجابة عربية جماعية
في ظل اتساع دائرة الاستهداف، أصبح من الضروري اعتماد استراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة الظاهرة:
التربية على المواطنة الرقمية: من خلال إدراج "محو الأمية الرقمية" في المناهج التعليمية، وتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الأجيال الجديدة.
إنشاء مراكز رصد رقمية عربية موحدة: لتتبع الحسابات المشبوهة ومكافحة التضليل بصورة منسقة على مستوى إقليمي.
تطوير إعلام بديل: يتبنى خطابًا تنويريًا يعيد بناء الهوية العربية المشتركة، ويروّج لقيم التعددية والاختلاف.
سن تشريعات مرنة وفعالة: تجرّم الحسابات الوهمية التي تبث خطاب الكراهية، دون أن تقوّض حرية التعبير المشروعة.
إعادة بناء الهوية الرقمية العربية: من خلال مبادرات ثقافية وفنية وإعلامية تشاركية تُبرز ما يوحّد، لا ما يُفرّق.
خاتمة: الوعي كأداة للمقاومة
لسنا أمام معركة تكنولوجية فحسب، بل أمام صراع على معنى "الذات" في زمن اختلال المعايير. فالصفحات الوهمية ليست إلا مرآة مقلوبة، تعكس هشاشتنا كما تعكس تواطؤ بعض النخب. والخيار الآن بين الانزلاق إلى هاوية التشظي، أو بناء فضاء رقمي يعكس مشروعًا حضاريًا عربيًا جامعًا.
وكما قال إدوارد سعيد: "لا يمكن للهوية أن تُبنى على نفي الآخر"، فإن بناء المستقبل يبدأ من الاعتراف بإنسانية المختلف، ومن صيانة الوعي بوصفه السدّ الأخير في وجه حملات التفرقة.
***
مجيدة محمدي / تونس
......................
المراجع:مؤسسة راند RAND (2022). العمليات الرقمية للتأثير: التحديات والاستجابات.
غرافِيكا Graphika (2021). رسم خرائط لعمليات التأثير: فيسبوك، تويتر، وما بعدهما.
معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد (2020). الجرد العالمي للتلاعب المنظّم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
زوبوف، شوشانا (2019). عصر رأسمالية المراقبة: الصراع من أجل مستقبل الإنسان على جبهة القوة
مركز الجزيرة للدراسات (2023). الفتنة الرقمية وتأثيرها على المجتمعات العربي