قضايا

علي الطائي: الموروث الأدبي والموروث العلمي.. عقدةٌ عربية مزمنة ‎

الموروث هو كلُّ شيءٍ ورثناه من أجدادِنا وآبائِنا. وقد ورثتُ نقوداً وأثاثاً وعلما. عُرف العربُ بأنهم يتمسكون بتراثهم بشدة، حتى ذكرهم القرآن بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ١٧٠). ومن جملة الموروثات الأدب بشقيه: الشعر والنثر الذي كان في وقتٍ من الأوقاتِ من الأسلحة الماضية التي يستعين بها العربي من أجل الغلبةِ. وأقصد بذلك ما عرف به العربي البدوي من حب للسيطرة على جيرانه والمنافسين له. وكان الشعر والشعراء من جملةِ الأسلحةِ التي يتمسك بها العربي وقبيلتُه من أجل النصر والغلبة، لأن لسان الشاعر ربما كان أكثرَ تأثيراً من السيف والرمح. لكن الحال تغير والدنيا لم تعد، هذه الأيام، تلك الدنيا التي كان ينعم بها ذلك الإنسان البسيط. وبكلمةٍ أخرى تعقدت حياتُنا بما فيها من وسائل متعددة من أجل الراحة والسعادة. كثُرت الأموالُ وتشعَّبت سبلُ الحصول عليها، وتنوعت مجالات وميادينُ العمل. فأصبح الغزو الذي يستعان عليه بالسيف والرمح واللسان السليط نوعاً جديداً من السيطرة عن بعد. ولم يعد السلاح التقليدي كافياً للسيطرة على الشعوب والدول كما هو واضح.

كل هذا الكلام معروف لدى القارئ الكريم، لكن من باب التذكير، لابد أن نستعرض شيئا من الماضي حتى تتوضح الفكرة.

 لم يتقن العربي قديما إلا الكلام. ومن هذا الكلام الأدب بشقيه المعروفين النثر والشعر. لكننا يجب أن لا ننسى ما للأدب من تأثير في تلك الأيام الخوالي. حتى أن خطبةً واحدةً قد تغير من واقع الحرب، فتنقل الجيش من حالة الانهزام والخوف إلى حالة النصر والبسالة. يذكر لنا التاريخ كيف أن القواد العرب الذين غزوا الشعوب شرقا وغربا كانوا يتقنون الكلام والخطب الرنانة في الحرب. ولم يقتصر هذا الأمر على العرب أو المسلمين الذين قاموا بالفتوحات الإسلامية (كما يسمونها)، بل كان هذا الأمر معروفا عند الإغريق واليونانيين القدماء. وهناك كتاب ألفه أرسطو عنوانُه (الخطابة)، لأن هذا الفن كان شائعا في زمانه. لا نريد أن نتشعب في الكلام عن هذا الأمر ولابد لنا أن نتوقف هنا كي نستخلص العبرة من كل أحداث التاريخ، وأن نستلهم التراث أو الموروث بكل أنواعه. دعونا نقلب صفحات التاريخ العربي الإسلامي أو بكلمةٍ أخرى: دعونا نحصي الكتب الأدبية والتاريخية والروائية ونحصي أمامها الكتب العلمية التي ورثناها عن أجدادنا العظماء!! هل هناك نسبةٌ تذكر للنوع الثاني بينها ؟ لا ننكر الدور الذي لعبه عدد محدودٌ من العلماء العرب المسلمين وخاصة في بغداد وفي الاندلس وفي الشام. لكنَّ هذا كان منذ زمان بعيد ولنقل إنه توقف ووئِد في طيات النسيان. بل أن أغلب هؤلاء العلماء لم يكن عربياً. وكل من قرأ تاريخنا الإسلامي يفهم هذا.

 أتحدث في هذا المقال باللسان العربي ولست أريد من هذا الكلام التحيزَ القومي، بل أريد أن أوصل رسالةً إلى قومنا الذين أنتمي إليهم بسبب أبي وأمي العربيين، والبيئة التي خلقت فيها معهم، وأقول لهم: كفاكم تشدقاً وإطالةً للسان، وكفى بنا أننا أصبحنا عالةً على العالم المتقدم. لا تستغربوا من قولي هذا، لأن الواقع يدل عليه. والحجةُ الواقعية المرئيةُ هي أبلغ الحججِ في مضمار الفكر البشري.

 ما نراه اليوم من تقدم تقني لم يصنعه العرب ولا المسلمون بل صنعه أولئك البشر الذين ربما لم يَدينوا بأي دين في الصين، في اليابان، في أمريكا أو ربما كانوا من أديان أخرى. ولا يفهم من كلامي هذا أن الدين هو الباعث على التقدم العلمي والتقني، ولا ملازمة بينهما، بل من باب الاستشهاد بأن القوميات الأخرى والأديان الأخرى غير العرب هي التي صنعت الحضارة هذه الأيام بل ومنذ أكثر من مئتي عام تقريبا. لم يتقن العربي سوى الأدب وخاصةً الشعر. والسؤال الذي يطرح هنا هو: حتى متى نبقى هكذا؟ يهدم العدو حضارتنا ويقلع دورنا فنقابله بالأهازيج والشعارات والقصائد العصماء والخطب الرنانة التي لا تغني ولا تشبع ولا تسمن.

حتى متى يبقى العرب يسبحون في مستنقع آسنٍ من التاريخ المشوه الذي كتبه قوم كانوا يتنعمون في أروقةِ قصور الملوك والأمراء المسلمين؟

 تاريخٌ كتب لكي نتحدث به في المقاهي. وقصائدُ كتبت لهؤلاء الملوك والأمراء حتى فاقت بهم حد المعقول. هؤلاء هم من كتبوا قصائدهم لأغراض ما كانت يوما تدعو إلى نهضةِ المجتمع وبناء حضارة إنما كتبت من أجل تضخيم الجيوب وتطويل الأعناق. حينما يمجد الشاعر نفسه أو يمجد قبيلته فإنه لابد أن يجنح إلى عنصر المبالغة والغلو، حتى يكون مؤثراً وتُهزَّ له الرؤوس، ويقال له: أحسنت... أحسنت أيها الشاعر المفلق.

 هكذا هم العرب. وأقول: مع كل الأسف إنهم ما زالوا هكذا حتى يومنا هذا. ثقوا أن الشعوب الحيةَ تركت إلى حد كبيرٍ مهنةَ الأدب، وأقول: مهنة، لأنها على مر التاريخ العربي الإسلامي كانت هكذا. وإذا شذَّ منهم أحد، فالشاذ لا يقاس عليه، كما يقول علماء المنطق.

لو كان لنا شغل شاغل بالعلم والتقنية وروح البحث، لما التجأنا إلى الأدب وكثرةِ الكلام، ولملأنا أوقاتنا بشيء مفيد ينفع المجتمع والبشرية. المضمار واسع ومفتوح على مصراعيه والساحة أمامك لكنك لن تنجح إلا بعد أن تحطم هذا المنبر الذي اتخذه هؤلاء صنماً يعبدونه ويجلسون حوله وكأنه إله يُعبد. منبر الأدب كان في وقت من الأوقات منبراً مقدسا عند كثير من الشعوب التي تحترم الموروث التاريخي لها، لكن الزمن تغير بتغير الأحداث والحاجات. وإذا عرفنا أن الحاجةَ هي أم الاختراع، وعرفنا أن البشر أصبح مخترعاً وأنتج آلات تفوق تصورَ العقل وحد التصديق، عرفنا مقدار التأخر الذي أحاق بنا نحن العرب.

تتبارى الشعوب الحيةُ والحكوماتُ الواعية والمؤسساتُ العلمية الراقية بمقدار مساهمتها بالاختراع والاكتشاف والتطوير. وهذه هي المنافسة و"الحرب السلمية" الحقيقية. منافسةٌ تنتج حضارة وتنتج خيراً للبشرية. وإذا عرفنا أن كل اكتشاف واختراع لابد أن يرافقه شيءٌ من الشر، وأن هذه هي طبيعةُ الأشياء، يكمن فيها الخير والشر في مكان واحد، تيقنا أن هذا ليس من باب جمع المتناقضات أو جمع الأضداد كما يسميه علماء المنطق القديم.

كم هو جميل أن يتحدث الأديب بلسان حال عالِمٍ عربي قدم شيئا مفيدا لمجتمعه وللبشرية.

كم هو جميل أن نمدح شيئا مصنوعا في بلادنا مثلما كان البدوي يمدح خيمته وسرجَ دابته التي صنعها بنفسه.

 وكم هو جميل أن نتغنى بقصائدنا ونثرنا بحديقة أو روضةٍ غناء صنعناها بأنفسنا على هذه الأرض.

كم هو معيبٌ أن يقف شاعرُنا الحديثُ فيمدحَ الدابة والخيمةَ والسيفَ والرمحَ في القرن الحادي والعشرين وهو لم يرَ أياً من هذه الآلات والأدوات والحيوانات!

هذا هو الاجترارُ وهذا هو الترديد الذي يجب أن نتركَهُ إلى الأبد. لابد أن تتغير مناهجُ البحث وقبلها مناهجُ التعليم في مدارسِنا بحيث لا نعطي تلك الأهمية الكبيرة أو الفريدة لكل ما جاء في تاريخنا الطويل.

 علينا ان ندرس التاريخ الحديث قبل أن ندرس التاريخ القديم، لأننا لا نملك عمراً طويلا يسمح لنا بأن نصرفه على كمٍّ كبيرٍ من التفاهات والخرافات والأساطير التي كُتبت بأيدي بشر أمثالنا.

 قل لي بربك ما الذي تستفيدُه من حفظ قصيدةٍ تعداد أبياتِها ألفُ بيت، وتصرفُ عاماً كاملا أو شهراً أو أسبوعاً في حفظها.

 ما الذي تستفيدُه لو حفظت كتاباً للخطب كنهج البلاغة مثلا وتصرفُ أعواما على هذا العمل؟

 ما الذي تستفيده لو صرفت عمرَك كلَّه في البحث عن الحلال والحرام والمكروه والواجب في أمور سطحيةٍ من أمور الفقه كالطهارة والنجاسة والحيض والنفاس؟

ألم يأن لهذه العقول أن تنتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ من التفكير؟ مرحلةٍ تأخذ بالعقل العربي إلى ساحه النور والعلم وتؤسس تراثا علميا يمثل الغايةَ العظمى في أهدافه ويترك التراث الأدبي لأنه تاريخ لحظي يتحكم فيه الزمان والمكان وحجمُ الحدث.

 هذا هو ما أدعو إليه. وقد دعا إليه عددٌ من علماءِ الاجتماع والفلسفة العرب على ندرتهم.

 وقبل أن أنهيَ هذا الحديث أقول: إنني عربي وصرفت عمري كله أخوض في هذا الوسط فخرجت بخُفَّي حُنين، كما يقول المثل العربي. ما الذي أضاف إلي الأدب؟ وإذا سألتني ما رأيُك بكل ما قرأته من شعر ونثر وخطب ورسائل وغيرها، فإنني أقول لك: لا يجب أن يتعدى تأثيرُها أكثر من الاستمتاع بالكلام الرنان والمعاني التي لا تخلو من جمال رغم تكرارها في كل هذه الفنون. الجمال متعددٌ ومن مصاديق هذا الجمال الكلامُ الجميل والمعاني الدقيقة التي تهز الوجدان والعواطف وربما تجيش المشاعر. ولا ننسى أنها ربما تُغيظ النفوس وتبعث فيها الكراهية وتثير الدفائن في قوم هم على شفا حفرةٍ من الثقافة وسطحيةٍ من العلم. إذن، لابد لنا أن نعيد قراءةَ هذا الموروث بشكل جديد وناقد ولا نبقي إلا على ما يتفق مع مقررات العلم والتقنية الحديثة لأنها واقعٌ والموروث الأدبي وهمٌ اختلقهُ الأدباءُ ونحن من بعدهم !!

***

بقلم: د. علي الطائي

 

في المثقف اليوم