قضايا
عدنان الظاهر: روم المعري
تستوقف قاريء أبي العلاء المعري واحدة من قصائده الطريفة، تلك التي كتبها مخاطبا خاله عليا بن محمد، وكان قد سافر الى المغرب. اسم القصيدة (تفديك النفوس) (1). فما هو الطريف في هذه القصيدة وما الذي يثير فيها الفضول؟
يمكن حصر الطريف والمثير في هذه القصيدة في ثلاثة أمور:
1- أن خال الشاعر كان قد ركب البحر في سفرته نحو المغرب.
2- أي مغرب قصد خال الشاعر بل وأي مكان أو مدينة في هذا المغرب؟
3- من هم (الروم العرب) الذين يحكمون بعض الأراضي ولا يركبون الجياد؟
1ـ ركوب البحر:
لدى قراءة قصيدة (تفديك النفوس) يتضح أن خال أبي العلاء كان تاجرا من جهة ومولعا بالأسفار من الجهة الأخرى. فلقد زار العراق ومصر قبل رحلته نحو المغرب وقال:
وقيل أفاد بالأسفار مالا
فقلنا هل أفاد بها فؤادا
فالخال اذن تاجر، وفيم كان يتاجر لسنا ندرى، لأن القصيدة لم تفصح عن هذا الأمر، وذاك أمر لا أهمية له أو يمكن تقديره: ماذا يحمل تاجر شامي الى بلاد المغرب غير الحرير والمنسوجات القطنية وربما بعض العطور وسواها مما يحمل الى الشرق الأوسط من الهند والصين وفارس وخراسان وما وراء النهر. وما كان هذا التاجر يحمل للشام من بلاد المغرب؟ يصعب التخمين لأننا لا نعرف على وجه التحديد أية مدينة أو مدن زارها هذا التاجر والأديب معا كما تصفه القصيدة. ليس بالكثير وصف الرجل بالرحالة ذاك لأن الشاعر نفسه قارنه بالأسكندر المقدوني ذي القرنين، قاهر الهند وفارس والشرق ومؤسس مدينة الأسكندرية في مصر واسكندرية أخرى في وسط العراق جنوب بغداد. قال الشاعر يخاطب خاله:
أبالأسكندر الملك اقتديتم
فما تضعون في بلد وسادا
*
لعلك يا جليد القلب ثان
لأول ماسح مسح البلادا
أما دليلي على أن الخال كان قد زار العراق ومصر ففي قول أبي العلاء:
علام هجرت شرق الأرض حتى
أتيت الغرب تختبر العبادا
*
وكانت مصر ذات النيل عصرا
تنافس فيك دجلة والسوادا
لقد ذكر الشاعر مصر والنيل لكنه لم يذكر اسم العراق بل ذكر دجلة وعليها دار السلام بغداد (وقد مكث فيها الشاعر نفسه قرابة عامين) وعطف عليها بكلمة " السواد " وهومدلول غامض يقصد به جنوب العراق حينا، وكل ما يقع غرب نهر دجلة حينا آخر. على أن المعروف أن المقصود بالسواد هو العموم الغالب، غالبية سكان العراق يومذاك. والى هذا المعنى قصد أبو الطيب المتنبيء في هجائه لكافور الأخشيدي صاحب مصر في مقصورته الرائعة (2):
ونام الخويدم عن ليلنا
وقد نام قبل عمى لا كرى
*
وكان على قربنا بيننا
مهامه من جهله والعمى
*
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
*
بها نبطي من أهل السواد
يدرس أنساب أهل الفلا
في (مروج الذهب) (3) يقول المسعودي ان الأنباط أو النبط هم سكنة اقليم بابل القديم من الكلدان وبقاياهم، فهل كان هذا مراد المتنبيء حين ذم كافورا ولمز مصرا في البيت الأخير؟ ثمة سؤال آخر يتبادر الى الذهن في هذا السياق: هل هناك من علاقة بين نبيط الماضي ونبطية جنوب لبنان اليوم؟ أعود لقصيدة أبي العلاء اياها، فلقد أوضح الرجل أن ممدوحه رحالة يبتغي التجارة فضلا عن الترحال، فأية الطرق كان قد سلك هذا الخال اذ زار العراق ومصر؟ قد تكون الطرق البرية - النهرية للعراق والبحرية لمصر. ذلك لا يعنينا كثيرا بل طبيعة سفرة هذا الخال الى المغرب انما تشكل مركز الأهتمام.
أبيات القصيدة تصف السفرة على أنها سفرة بحر. وفي الأبيات الأتية ينهض الدليل القاطع:
وسرت لتذعر الحيتان لما
ذعرت الوحش والأسد الورادا
*
قطعت بحارها والبر حتى
تعاللت السفائن والجيادا
*
فلم تترك لجارية شراعا
ولم تترك لعادية بدادا
وما في هذه الأبيات ما يكفي لأثبات أن الخال قد اتخذ البحر سبيلا في سفرته الى بلاد المغرب. ففيها ذكر للحيتان والبحار والسفن والجواري والأشرعة. قد يكون بعضنا ذا ميل لمعرفة تفاصيل هذه الرحلة: من أين بدأت؟ أين توقف السفين للأستراحة والتزود بالماء العذب والغذاء؟ كم استغرقت من الوقت وكم بلغت تكاليفها؟ وصف السفينة وعدد ملاحيها وراكبيها، ثم نوع المخاطر التي جابهتها من جهة الرياح أو البحر وقراصنته؟؟؟ أفلم تكن هناك طريقا برية سالكة قد تكون أكثر أمانا من البحر؟ تلك أسئلة لا أعرف الأجابة عنها. فقد تكون اللاذقية على الساحل السوري هي ميناء البداية، ومدن الساحل الشامي والمصري كصور وصيدا وعكا والعريش والأسكندرية هي موانيء الأستراحة والتموين أو الميرة.
كان ابن خلدون يركب البحر ما بين الشام ومصر وتونس. فلقد ذكر ذلك هو نفسه في كتابه (مع تيمور لنك) (4) اذ أفاد للزعيم المغولي حين قابله في دمشق أن عائلته قد غرقت في البحر ما بين تونس ومصر. فاذا كان البحر واسطة نقل مدنية في القرن الثامن الهجري (عصر
ابن خلدون) فهل كان الأمر كذلك في القرنين الرابع والخامس للهجرة (عصر أبي العلاء)؟.
2ـ أي مغرب؟
أجل، أي مغرب زار هذا التاجر الخال؟ قد يتبادر الى الذهن للوهلة الأولى أن المقصود بالمغرب هو مغرب اليوم - مراكش أو المملكة المغربية. الجواب نعم ولا. نعم لأن مغرب اليوم كانت جزءا من المغرب القديم. فالمسعودي ذكر المغرب مع طنجة وفاس في موضعين (5) وذكرها مع افريقية باعتبار هذه جزءا من بلاد المغرب في موضع آخر (6). توفي المسعودي عام 346 للهجرة وتوفي الشاعر المعري عام 449 للهجرة، فالفارق الزمني ما بين الرجلين قرن من الزمن. والمسعودي اعتبر " افريقية " بعضا من بلاد المغرب. فأية " افريقية " قصد المسعودي؟
قد نجد الجواب في ما يأتي من القرون، وبالضبط في مقدمة ابن خلدون (7) الذي قسم المغرب الى:
أولا - المغرب الأقصى: وحسب وصف ابن خلدون فان المغرب الأقصى ما هو الا المملكة المغربية اليوم. وقد ذكر مدينة مراكش والرباط وسلا وأصيلة والعرايش بأعتبارها تكون المغرب الأقصى.
ثانيا - المغرب الأوسط: وهو الجزائر اليوم، اذ يذكر ابن خلدون مدينة الجزائر ووهران وبجاية وقسنطينة. غير أنه يلحق بالمغرب الأوسط بعض المدن الليبية مثل غدامس وودان.
أما بلاد " افريقية " فهي وبالوصف المحدد تونس اليوم. فقد ذكر ابن خلدون تحت اسم " بلاد افريقية " مدن تونس على البحر الرومي (الأبيض المتوسط) وسوسة والمهدية ثم القيروان وتوزر وقفصة. لقد ذكر ابن خلدون مدينة طرابلس (عاصمة الجماهيرية الليبية اليوم) ومدنا ليبية غيرها بعيدة عنها مثل سرت وأجدابية، فهل اعتبرها جزءا من بلاد " افريقية " أم أنها تشكل بلدا آخر مستقلا؟ انا أرجح الأحتمال الثاني اذا جوزنا لأنفسنا الأدعاء بفهم أسلوب ابن خلدون. وتأسيسا على هذا سنواجه مغربين فقط وليس مغربا واحدا ولا ثلاثة مغارب: مغرب أقصى ومغرب أوسط.
توفي ابن خلدون في تونس عام 808 للهجرة، أي أن المعري سبقه بما ينيف على ثلاثة قرون ونصف القرن. فهل كان تقسيم ابن خلدون وفهمه لجغرافية شمال افريقية سائدين في عصر المعري؟
هناك اشارات متفرقة في مقدمة ابن خلدون (8) توحي أن لفظ " المغرب " الشائع يومذاك كان يعني المغربين كليهما، ويستعمل هكذا للسهولة فالناس تميل الى تيسير أمورها وتبسيط لغتها ومفرداتها. ثم أنه أشار صراحة أن التجار (8) كانت تسلك مفاوز الصحراء (ولعلها الصحراء الكبرى اليوم) ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان (يقصد الشعوب الأفريقية الواقعة تحت المغرب والجزائر مثل مالي والنايجر) ويعتبر هذه الصحراء مجالا للملثمين من قبائل صنهاجة. اذن لم يميز ابن خلدون أيا من المغربين بل قال: بلاد المغرب.
الغريب أن ابن خلدون لم يذكر مدينتي طنجة وسبته حينما وصف المغرب الأقصى ولكن ذكر خليج طنجة عندما وصف البحر الرومي (الأبيض المتوسط). فلنتوقف قليلا عند هذه العبارة:
(ان التجار كانت تسلك مفاوز الصحراء ما بين بلاد المغرب وبلاد السودان). من هم هؤلاء التجار؟ لأي قوم ينتمون؟ ما نوع تجارتهم؟ وما داموا يسلكون مفاوز الصحراء فوسائط نقلهم هي الجمال بالطبع. فهل يا ترى سلك خال المعري هو الآخر هذا الطريق بعد وصوله المغرب بحرا؟ جائز. فالشاعر قد ذكر الطريقين البحري والبري:
قطعت بحارها والبر حتى
تعاللت السفائن والجيادا
*
ثم: سنلثم من نجائبك الهوادي
ونرشف غمد سيفك والنجادا
*
ونستشفي بسؤر جواد خيل
قدمت عليه ان خفنا الجوادا
فاذا أخذنا بهذا الفرض وجدنا الأجابة عن بعض الأسئلة: السفر الى المغرب أولا (قد يكون الأوسط أو المغرب الأقصى) ومن ثم الأتجار مع بعض الشعوب الأفريقية (السود أو السودان، ولا علاقة لهم بدولة السودان الحالية، فقد كانت تسمى يومذاك ببلاد النوبة) بما يتوفر من جلود وفراء وعاج الفيلة وبعض الأعشاب وربما الذهب والفضة وسواهما من المعادن والأحجار الكريمة.
تنقل هذه البضائع على ظهور الجمال متجهة في قوافل الى أحد موانيء المغربين يقودها أدلاء من الطوارق (الملثمين) أو من باقي قبائل البربر ممن لهم دراية فائقة بالطرق الصحراوية التي تربط مدن الأفارقة السود (السودان) بمدن المغربين على سواحل البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم). ولعل طبيعة هذه المهنة أسبغت على (الملثمين) صفة (الطوارق)، أي الذين يجوبون الطرق (والطوارق لغة هو جمع الطارق). وقد يجوز أن يكون الطوارق هم قوم طارق بن زياد... صاحب القول المشهور (البحر من ورائكم والعدو أماملكم)... كما يعتقد اليوم بعض سكان شمال افريقيا من البربر.
3- الروم العرب:
قال أبو العلاء في قصيدته يخاطب خاله:
فلم تترك لجارية شراعا
ولم تترك لعادية بدادا
*
بأرض لا يصوب الغيث فيها
ولا ترعى البداة بها النقادا
*
وأخرى رومها عرب عليها
وان لم يركبوا فيها جوادا
هذا الخال الذي خبر أشرعة السفن الجواري وركب سرج العاديات من الخيول وجاب أرضا قاحلة ماحلة لا ينزل عليها مطر (قد تكون الصحراء الأفريقية الكبرى) قاطنوها بدو رحل لا يربون الأغنام (النقاد) لشحة الماء والمراعي والكلأ. طيب، اذا حدسنا ما هي هذه الأرض ومن هم مستوطنوها، فأننا سنقف حيارى أمام لغز الأرض الأخرى التي عربها روم لا يعرفون ركوب الخيل . فأية أرض هذه وأية روم مستعربة هذه؟؟ أما زلنا على أرض المغرب أم أن الكلام يصف أرضا أخرى؟ سنعرف الجواب بكل تأكيد لو أعدنا قراءة الأبيات الثلاثة الأخيرة وأضفنا اليها الأبيات التالية:
سوى أن السفين تخال فيها
بيوت الشعر شكلا واسودادا
*
ديارهم بهم تسري وتجري
اذا شاءوا مغارا أو طرادا
عرفنا الأرض الأولى (صحراء البدو) أما الأرض الأخرى فهي السفينة التي استقلها خال الشاعر وأنها سوداء كبيوت الشعر (لطلائها بالقار) وأشرعتها كذلك مفتوحة للريح كبيوت الشعر في البوادي. فالسفينة أرض أخرى يأوي اليها هذا التاجر. انها بيت شعر ولكن على سطح البحر وأنه دائم التنقل بساكنيه مع فارق جد كبير واحد: ا ن ربابنة ونوتية السفينة ليسوا عربا ! بل روم طليان يتخذون السفائن سكنا ووسيلة للتنقل والصيد وربما القرصنة. روم في الأصل وعرب من حيث طبيعة المعيشة وأسلوبها. بدو رحل خيامهم سفائنهم والبحر مداهم الصحراوي.تشبيه طريف ومقابلة ذكية.
لقد كان الروم قبل الأسلام سادة البحرالأبيض المتوسط (بحر الروم) فلا عجب ان سخروه لأوجه غير عسكرية بعد زوال نفوذهم من شمال افريقيا وسواحل بلاد الشام.
***
د. عدنان الظاهر