أقلام فكرية
حمزة مولخنيف: العقل بين يقين البرهان وقلق المعنى
ليس العقل مجرّد أداة حسابية تُقاس قيمتها بقدرتها على الاستدلال، ولا هو آلة منطقية صمّاء تشتغل في فراغ، بل هو ذلك الموضع المتوتر الذي يلتقي فيه الشغف بالمعرفة مع القلق من حدودها. فمنذ أن بدأ الإنسان يتساءل، كان العقل يسير على حافة دقيقة بين اليقين الذي يعد بالطمأنينة، واللايقين الذي يوقظ القلق ويستفز السؤال.
لا يُفهم العقل إلا بوصفه تجربة وجودية قبل أن يكون جهازا معرفيا، تجربة تتقاطع فيها الرغبة في البرهان مع وعيٍ خفيّ بأن كل برهان يحمل في أعماقه بذرة الشك.
لقد ارتبط العقل في تاريخ الفلسفة، بفكرة البرهان بوصفه الطريق الملكي إلى الحقيقة. من هنا نفهم لماذا رأى أرسطو في البرهان قياسا منتجا لليقين، ولماذا جعل ديكارت الوضوح والتميّز معيارا للحقيقة، إذ كان يراهن على عقل قادر على تأسيس معرفة لا يتسرّب إليها الشك. غير أن هذا الرهان على صلابته، لم يكن بريئا من افتراضات ميتافيزيقية خفية، أهمها الاعتقاد بأن العالم قابل للشفافية الكاملة أمام العقل، وأن الفكر يستطيع إن التزم قواعده، أن يطابق الواقع مطابقة تامة. هكذا بدا العقل في هذا الأفق، سيّدًا على المعنى، مالكًا لمفاتيح اليقين، قادرا على إخضاع الوجود لقوانين البرهان.
لكن هذا التصور سرعان ما اصطدم بتجربة الفكر ذاته. فالعقل الذي يطالب باليقين المطلق يجد نفسه في لحظة ما، وجها لوجه أمام أسئلته الخاصة. كيف يمكن البرهنة على مبادئ البرهان نفسها؟ وكيف يمكن للعقل أن يؤسس ذاته بذاته دون الوقوع في الدور؟ هنا يتسلل اللايقين لا بوصفه عجزا عارضا، بل باعتباره مكوّنا بنيويا في كل ممارسة عقلية. كان ديفيد هيوم من أوائل من نبهوا إلى هذا التوتر حين بيّن أن كثيرا مما نعدّه يقينا عقليا لا يقوم إلا على العادة والتعوّد، وأن الاستقراء الذي يشكّل أساس العلم التجريبي، لا يملك برهانا عقليا صارما، بل يستند إلى توقع نفسي بأن المستقبل سيشبه الماضي.
في هذا المنعطف، لم يعد العقل فضاء للضمان المطلق، بل صار مسرحا لاحتمالات مفتوحة. ومع كانط بلغ هذا الوعي ذروته حين أعاد رسم حدود العقل، مميزا بين ما يمكن معرفته وما يجب الكفّ عن ادعاء معرفته. فالعقل في نقده، ليس مشرّعا للوجود في ذاته، بل منظّما للتجربة الممكنة. وما إن يتجاوز مجاله المشروع حتى يقع في أوهام ميتافيزيقية، يظن فيها أنه بلغ اليقين بينما هو لا يفعل سوى إسقاط بنياته على ما لا يُدرَك. في هذا السياق لا يصبح اللايقين نقيضا للعقل، بل شرطا لتواضعه، وضمانة لعدم تحوّله إلى دوغما جديدة.
غير أن اللايقين حين يُساء فهمه، قد ينقلب إلى شك عدمي ينفي إمكان المعرفة من أساسها. وهذا ما جعل الفلسفة الحديثة والمعاصرة تبحث عن توازن دقيق بين البرهان والارتياب. فالبرهان من دون وعي بحدوده، يتحول إلى عنف مفهومي يسعى إلى تطويع الواقع قسرا، واللايقين من دون أفق عقلاني، يغدو استقالة من المعنى. من هنا تأتي أهمية التفكير في العقل لا بوصفه حارسا لليقين، ولا بوصفه سجينا للشك، بل كحركة دائمة بين هذين القطبين، حركة تُنتج المعنى بقدر ما تعترف بقابليته للمراجعة.
لقد أدرك باسكال بحدسه العميق، أن للعقل حدودا لا ينبغي تجاهلها، وأن هناك «أسبابا للقلب لا يعرفها العقل». لم يكن يقصد بذلك إلغاء العقل، بل تنبيهه إلى أن الوجود الإنساني أوسع من أن يُختزل في البرهان. فالإنسان كائن يتأرجح بين معرفة لا تكتمل، وإيمان لا يخلو من مخاطرة. وفي هذا التأرجح بالذات تتجلى كرامة العقل، لا حين يدّعي الإحاطة بكل شيء، بل حين يعترف بما يعجز عن الإحاطة به.
في الفلسفة المعاصرة، تعمّق هذا الوعي مع هايدغر الذي لم ينظر إلى العقل بوصفه ملكة تمثيلية فحسب، بل بوصفه نمطا من الانكشاف الوجودي. فالحقيقة ليست مطابقة بين فكرة وشيء، بل حدث انكشاف يتخلله الحجاب بقدر ما يتخلله الظهور. من هنا يصبح اللايقين جزءا من بنية الحقيقة ذاتها، لا عيبا يجب استئصاله. فكل ظهور يحمل معه إمكانية الخفاء، وكل فهم يظل مفتوحا على سوء الفهم.
وإذا كان العلم الحديث قد حقق انتصارات هائلة بفضل العقل البرهاني، فإنه في الوقت ذاته كشف عن هشاشة اليقين. فالنظريات العلمية لم تعد تُقدَّم بوصفها حقائق نهائية، بل كنماذج تفسيرية قابلة للتعديل والنقض. وقد عبّر كارل بوبر عن هذا التحول حين جعل القابلية للتكذيب معيارًا للعلمية، مؤكدًا أن تقدم المعرفة لا يتم عبر تراكم اليقين، بل عبر تصحيح الأخطاء. في هذا السياق يغدو اللايقين محرّكا للمعرفة لا عائقا أمامها، ويصبح العقل أكثر خصوبة حين يتخلى عن وهم العصمة.
غير أن السؤال الأعمق يظل قائما: كيف يمكن للعقل أن يعيش هذا التوتر دون أن يتمزق؟ كيف يحافظ على صرامته البرهانية دون أن يفقد حساسيته إزاء الغموض؟ لعل الجواب يكمن في إعادة تعريف العقل ذاته، لا كسلطة مغلقة، بل كحوار مفتوح مع العالم ومع الذات. عقل يعترف بأن البرهان ضرورة، لكنه ليس كفاية، وأن اللايقين خطر، لكنه أيضا فرصة. ففي المسافة بين ما نبرهن عليه وما نشك فيه، يتشكل المعنى ويتجدد السؤال، وتظل الفلسفة ممكنة.
إن العقل ليس طريقا مستقيما نحو الحقيقة، بل مسارا متعرجا تتخلله الانقطاعات والمراجعات. وكل محاولة لتحويله إلى آلة يقين مطلق إنما تنتهي إلى إفقاره، كما أن كل دعوة إلى إغراقه في الشك المطلق تفضي إلى تعطيله. بين هذين الحدّين، يعيش العقل توتره الخلّاق، ويؤسس إنسانيته بوصفه كائنا يسأل لأنه لا يملك الجواب النهائي، ويبرهن لأنه يرفض الاستسلام للغموض الخالص، ويقبل اللايقين لأنه يدرك أن الحقيقة أكبر من أي صيغة نهائية.
هذا التوتر ليس مأزقا يجب تجاوزه، بل أفقا يجب السكن فيه. فالعقل لا يبلغ نضجه حين يعلن انتصاره، بل حين يتعلم كيف يفكّر في حدوده، وكيف يحوّل اللايقين من تهديد إلى إمكان. وفي هذا التحويل بالذات، تتجلى مسؤوليته الفلسفية، بوصفه عقلا لا يكف عن البحث، ولا يدّعي الوصول، عقلا يظل وفيّا للبرهان، دون أن يغلق الباب في وجه السؤال.
ومع هذا الوعي المتزايد بحدود البرهان، لا يعود السؤال هو ما إذا كان العقل قادرا على إنتاج اليقين، بل أيّ يقين هذا الذي يمكن أن ينتجه دون أن ينقلب على ذاته. فاليقين حين يُفهم بوصفه امتلاكا نهائيا للحقيقة، يتحول إلى شكل من أشكال الإغلاق، إلى قرار مسبق بإنهاء السؤال. بينما العقل في جوهره، لا يعيش إلا من السؤال، ولا يستمر إلا بقدر ما يظل مفتوحا على ما ينقضه ويقلقه. إن العقل لا يشتغل ضد اللايقين، بل من خلاله، وأن البرهان ذاته ليس سوى محاولة مؤقتة لتثبيت معنى سرعان ما يعود إلى السيولة.
إن تاريخ الفكر لا يقدّم لنا عقلا واحدا، بل عقولا متعددة، لكلّ منها طريقته في تدبير العلاقة بين البرهان والشك. فالعقل الرياضي على سبيل المثال، يبدو في ظاهره الأكثر اقترابا من اليقين الصارم، لكنه هو نفسه يكشف عند تعمّق النظر، عن مفارقات تقوّض طمأنينته. لقد أظهرت مبرهنات غودل في القرن العشرين، أن أي نسق رياضي كافٍ التعقيد لا يستطيع أن يبرهن على اتساقه من داخله، وأن هناك قضايا صادقة لا يمكن البرهنة عليها ضمن النسق ذاته. هنا، في قلب العقل الصوري، ينبثق اللايقين لا كطارئ، بل كحدّ بنيوي، وكأن العقل يُخبر نفسه بأن اكتماله مستحيل، وأن كل بناء محكم يخفي فجوة لا تُردم.
وفي شق المعرفة التاريخية، يتضاعف هذا التوتر، لأن العقل لا يواجه معطيات صمّاء، بل أحداثا مشحونة بالمعنى، ومرويات متنازعة، وزوايا نظر متعارضة. فالبرهان التاريخي لا يمكن أن يكون استنتاجا يقينيا بالمعنى الرياضي، بل هو بناء تأويلي يستند إلى الوثائق والقرائن والترجيح. وقد نبّه بول ريكور إلى أن الحقيقة التاريخية لا تُعطى، بل تُبنى عبر صراع التأويلات، وأن العقل المؤرِّخ لا يبحث عن يقين مطلق، بل عن معنى معقول داخل أفق احتمالي. يُستشف من هذا، أنه لا يكون اللايقين نقصا في المنهج، بل علامة على تعقّد الموضوع ذاته.
أما في مجال الأخلاق، فإن المسألة تزداد حساسية، لأن العقل هنا لا يكتفي بالفهم، بل يطمح إلى التوجيه والحكم. فهل يمكن تأسيس القيم على برهان عقلي صارم؟ كان كانط يعتقد ذلك حين جعل من العقل العملي مصدرا للإلزام الأخلاقي، مستندا إلى مبدأ الكلية والضرورة. غير أن هذا المشروع، على قوته، لم يمنع بروز تساؤلات عميقة حول تاريخية القيم، وتعدّد المرجعيات واختلاف السياقات. وهنا يظهر اللايقين الأخلاقي لا بوصفه فوضى قيمية، بل بوصفه وعيا بأن العقل، وهو يصدر الأحكام، يظل مشروطا بثقافة وزمان وتجربة معيشة. إن الأخلاق العقلانية حين تنسى هذا الشرط، تخاطر بالتحول إلى تجريد بارد لا يصغي إلى هشاشة الإنسان.
تتقاطع الفلسفة مع الوجود الإنساني في أكثر نقاطه حساسية. فالإنسان لا يطلب البرهان فقط ليعرف، بل ليطمئن، ليمنح لحياته معنى يمكن الاعتماد عليه. غير أن هذا المطلب الوجودي نفسه هو ما يجعل العقل عرضة للتوتر، لأن الحياة لا تُسلِّم ذاتها كاملة للبرهان. لقد عبّر كيركغارد عن هذا البعد حين رأى أن الحقيقة التي تُعاش تختلف عن الحقيقة التي تُبرهَن، وأن هناك لحظات حاسمة في الوجود لا تُحسم بالحجة، بل بالاختيار. هنا لا يُلغى العقل، لكنه يُدفع إلى أقصى حدوده، حيث يعترف بأن دوره لا يتمثل في إزالة القلق، بل في جعله واعيا بذاته.
ويتبيّن أن اللايقين ليس عدوا للعقل، بل مرآته التي يرى فيها محدوديته. فالشك حين يكون منهجيا لا يدمّر المعرفة، بل يحميها من الادعاء. وقد أدرك فلاسفة التأويل أن الفهم الإنساني لا يبدأ من نقطة الصفر، بل من أحكام مسبقة، وأن مهمة العقل ليست القضاء عليها، بل اختبارها وتعديلها. من هنا يصبح العقل ممارسة تاريخية، حوارا لا ينتهي بين ما نعتقده وما يواجهنا، بين ما نبرهن عليه وما يراوغنا.
ولعل أخطر ما يمكن أن يصيب العقل هو وهم الاكتفاء الذاتي، الاعتقاد بأنه قادر على الاكتفاء بقوانينه الداخلية دون حاجة إلى الإنصات لما يفلت منها. فهذا الوهم هو ما يغذّي الأيديولوجيا ويحوّل البرهان إلى أداة تبرير، واليقين إلى قناع للسلطة. وقد كشف فلاسفة مدرسة فرانكفورت كيف يمكن للعقل الأداتي حين ينفصل عن النقد الذاتي، أن يتحول من أداة تحرير إلى وسيلة هيمنة. في هذه الحالة لا يكون اللايقين خطرا، بل يكون اليقين هو الخطر، لأنه يمنع السؤال ويصادر الاختلاف. ولا يقل خطر الانزلاق إلى نسبية شاملة تُسوّي بين كل الآراء وتفرغ العقل من أي معيار. فالعقل الذي يتخلى كليا عن مطلب البرهان يفقد قدرته على التمييز، ويصبح عرضة للعبث والعدمية. من هنا تبرز الحاجة إلى عقل نقدي، لا يسلّم بسهولة، ولا يشك بلا أفق، عقل يوازن بين الالتزام بالحجة والوعي بقابليتها للنقض. هذا التوازن الدقيق هو ما يجعل العقل حيّا، غير متخشّب، وغير ذائب في السيولة المطلقة.
إن السؤال عن العقل بين البرهان واللايقين هو في جوهره سؤال عن الإنسان ذاته. فالإنسان كائن لا يستطيع العيش بلا معانٍ مستقرة نسبيا، ولا يستطيع في الوقت ذاته، الهروب من هشاشته المعرفية. إنه محكوم بأن يبرهن لأنه يسعى إلى الفهم، ومحكوم بأن يشك لأنه يعي محدوديته. وفي هذا التناقض الظاهر تتجلى فرادته. فلو كان عقلا يقينيا خالصا لفقد إنسانيته، ولو كان كائن شك مطلق، لفقد قدرته على الفعل.
إن العقل لا يُقاس بكمية اليقين الذي ينتجه، بل بقدرته على تحمّل اللايقين دون الانهيار. فالعقل الناضج هو ذاك الذي يعرف متى يطالب بالبرهان ومتى يقبل بالتعليق، ومتى يحوّل الشك إلى سؤال منتج. إنه عقل لا يهرب من الغموض ولا يستسلم له، بل يسكنه بوصفه أفقا للفكر.
وهكذا يغدو التفكير ذاته ممارسة أخلاقية، لا لأنها تقدّم قواعد جاهزة، بل لأنها تدرّب الإنسان على التواضع، وعلى الاعتراف بأن الحقيقة ليست ملكا، بل علاقة. علاقة متوترة بين الذات والعالم، بين المفهوم والتجربة، بين ما نعرفه وما يتعذّر علينا معرفته. وفي هذه العلاقة لا يكون البرهان خاتمة المطاف بل محطة، ولا يكون اللايقين سقوطا، بل دعوة إلى مواصلة السير.
إن العقل لا يختار بين البرهان واللايقين، لأنه لا يستطيع الاستغناء عن أيّ منهما. فهو يبرهن ليقاوم الفوضى، ويشك ليقاوم الاستبداد. وبين هذين القطبين، تتشكل ديناميته العميقة، بوصفه عقلا إنسانيا لا يدّعي امتلاك الحقيقة ولا يتنازل عن السعي إليها. عقل يعرف أن أقصى درجات قوته تكمن في وعيه بحدوده، وأن أعمق أشكال اليقين هو ذاك الذي يظل مصحوبا بإمكانية المراجعة.
ولا يكون العقل جسرا نحو يقين مطلق، بل أفقا مفتوحا للفهم، ولا يكون اللايقين نهاية للفلسفة، بل شرطا لاستمرارها. فطالما ظل الإنسان يسأل، سيظل العقل متأرجحا بين البرهان والقلق، وبين ما يمكن قوله وما يتعذّر قوله، وبين الحاجة إلى المعنى والاعتراف بغموضه. وفي هذا التأرجح بالذات، يكمن سرّ الفكر وشرط إمكانه، وجدواه الوجودية العميقة.
وهكذا يظلّ العقل وفيا لجوهره لا حين يَعِدُ بيقينٍ نهائي، بل حين يقيم في المسافة الفاصلة بين البرهان وما يفلت منه، بين ما يُمسَك بالحجة وما يُلامَس بالحدس. فالعقل الذي يعي حدوده لا ينكفئ بل يتّسع، ولا يتخلّى عن الحقيقة بل يحرّرها من وهم الامتلاك. وفي هذا المنحى، لا يعود اللايقين نقيضا للعقل، بل قرينا له، يحفظ حيويته ويمنع تحجّره، ويجعل التفكير فعلا مفتوحا على المراجعة والدهشة. هناك حيث لا ينغلق السؤال ولا يُستنفد المعنى، يبرهن العقل على أعمق أشكال قوّته: أن يظلّ قادرا على التفكير رغم غياب الطمأنينة، وأن يواصل البحث، لا لأن الحقيقة مضمونة، بل لأنها تستحق أن تُطلَب.
فهل يكون العقل أصدق حين يطالب بالحقيقة عبر البرهان، أم حين يعترف بأن أعمق الحقائق لا تُمنَح إلا في هيئة سؤال؟، وهل يكمن معنى التفكير في الوصول إلى اليقين، أم في القدرة على الإقامة الشجاعة داخل اللايقين دون أن نفقد الرغبة في الفهم؟.
***
د. حمزة مولخنيف






