أقلام فكرية
غالب المسعودي: التسييس والتأنيس في الخطاب الأخلاقي.. مقاربة فلسفية
الإطار المفهومي: يمثل الخطاب المدني الأخلاقي فضاءً معقداً تتشابك فيه متطلبات النظام السياسي مع القيم الإنسانية الجوهرية. يُعرّف الخطاب المدني على أنه المجال المشاع المشترك لجميع الأفراد في كيان سياسي ما، حيث تتجلى السياسة كشأن جمهوري. ضمن هذا الإطار، تتحول القضايا الأخلاقية من مجرد أحكام شخصية إلى متطلبات جماعية تحمل صفة الوجوب وتخضع للمساءلة القانونية والاجتماعية. إن هذا التفاعل المعقد بين الشأن العام والقيمة ينتج عنه الجدلية الأساسية التي تتمحور حول التسييس والتأنيس.
التفكيك المفهومي
أ. التسييس
يُفهم التسييس على أنه العملية الديناميكية لتحويل القضايا من الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة، جاعلاً إياها ملكًا للجميع وقابلة للحل السياسي. يستكشف التسييس أفقين رئيسيين:
أفق الحرب والنزاع: حيث يسعى التسييس نحو إحلال السلام.
أفق الطبائع والثوابت: حيث يسعى إلى التحرر الاجتماعي والثقافي.
جوهر السياسة يكمن في عملية التسييس ذاتها.
ب. التأنيس
يشير التأنيس إلى مركزية القيمة البشرية. يمكن تمييز نوعين أساسيين من التأنيس في سياق الخطاب الفلسفي:
التأنيس الجوهري: الذي يعتمد على ماهية ثابتة للإنسان (كالعقل أو الروح كما في الفلسفة الكلاسيكية والدينية).
التأنيس الإجرائي: الذي يركز على الإرادة والتعاقد والسياق (كما في الفلسفات الحداثية التي تسعى لنقل الأحكام من الإطار الإلهي إلى الإطار البشري).
طبيعة العلاقة التاريخية
تطورت العلاقة بين التسييس والتأنيس عبر التاريخ الفلسفي، من مرحلة التوحيد الكلاسيكي، مروراً بالانفصال الحداثي والواقعية السياسية، وصولاً إلى مرحلة التفكيك والنقد المعاصر. ويكشف هذا التطور أن التسييس في العصر الحديث لم يكن دائماً فعلاً راشداً، بل في كثير من الأحيان، هو استجابة لأزمة أعمق.
فالخواء الذي خلفته الإيديولوجيات المنسحبة وغياب المرجعية الأخلاقية قد أدى إلى ما يمكن تسميته "تسيس الخواء": كي تحل محل المعاني والقيم دوافع ومحفزات قائمة على عصبيات فردية أو جماعية فارغة. هذا يشير إلى أن التسييس قد يصبح عرضاً مرضياً لفشل التأنيس الجوهري، مما يؤدي إلى تشويه جوهر الإنسان بسبب تراكم صراع المصالح وغياب القيمة.
أفلاطون: العدالة كبنية موحدة
تعتبر الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، لاسيما عند سقراط وأفلاطون، نقطة الانطلاق لتأصيل العلاقة الجدلية بين الأخلاق والسياسة. لقد رأى أفلاطون أن السياسة والأخلاق متجذرتان في مفهوم العدالة، وأن العلاقة بينهما جدلية لدرجة أنه "لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى." نشأة الدولة في المنظور الأفلاطوني هي استجابة لحاجة الفرد للجماعة وعدم استغنائه بنفسه، ويتم ذلك عبر إقامة النظام وتوحيد الجهود. ومن ثم، فإن الدولة في جوهرها ما هي إلا "فرد إنساني متكامل".
هذا التسييس للحياة المدنية يعكس التأنيس الوجودي، حيث تتسرب القوى النفسية الثلاث للإنسان (العقل، العاطفة، الشهوة) لتكوّن طبقات الدولة الثلاث (الحكام/الفلاسفة، الجنود/الحرس، العمال/المنتجون). إن التسييس الأفلاطوني هو في حقيقته آلية ضامنة لنظام أخلاقي داخلي. عبر ربط الحاكم بالفيلسوف الذي يتغلب فيه العقل، وتوجيه "سفينة الدولة" نحو الخير، يصبح التسييس هو الأداة التي تضمن خضوع القوى النفسية الدنيا للفرد للقوة العليا. وبالتالي، فإن التسييس يحمي التأنيس الجوهري من الانحراف.
أرسطو: المدينة كشرط لتحقيق الفضيلة
سار أرسطو على ذات المنهج في ربط الأخلاق بالسياسة، حيث رأى أن مبدأ الغاية هو قوام السياسة والأخلاق على حد سواء، والغاية القصوى هي السعادة التي لا تتحقق إلا في المدينة. ولذلك، فإن التسييس يهدف إلى إتمام التأنيس عبر تحقيق هذه الغاية. رغم هذا التوحيد، فإن أرسطو وضع بذور الانفصال الحداثي عبر إدراكه الفرق بين الدولة والحكومة. هذا التمييز المؤسسي يمثل تسيسا للقانون المدني يمنحه استقلالية نسبية عن الفضيلة المطلقة، لكنه يظل ضمن إطار السعي نحو الخير الأقصى والفضيلة.
الواقعية السياسية وأزمة التأنيس الأخلاقي
شهدت فترة الحداثة انفصالاً جذرياً في العلاقة العضوية بين التسييس والتأنيس، حيث أصبحت السياسة علماً مستقلاً بذاته يهدف إلى الفاعلية والنظام، بدلاً من أن يكون تطبيقاً للفضيلة المطلقة.
مكيافيلي: يمثل نقطة تحول نحو التسييس النفعي. فابتعاده عن القيم الدينية كان بمثابة تحرر؛ وانطلاق نحو نهضة أمته. هنا، يخدم التسييس غاية الدولة النفعية، بغض النظر عن القيود الأخلاقية الصارمة.
ابن خلدون: قدم رؤية مختلفة حيث نظر إلى القيم الدينية باعتبارها "المخرج الأساسي لأمته من أزمتها السياسية". التسييس الفعال في هذا النموذج يظل رهيناً بالتعزيز الأخلاقي القائم على المرجعية الدينية، بعكس النظرة الغربية.
فلسفة التنوير: روسو
حاول فلاسفة التنوير إعادة تأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على أسس عقلانية وإنسانية. أدرك روسو ضرورة تسيس المعتقدات الأخلاقية لخدمة الدولة. في "العقد الاجتماعي"، شرح عقيدته حول الدين المدني، الذي يهدف إلى تعزيز "روح الوطنية والتضامن الاجتماعي" الضروريين للدولة المزدهرة.
لكن محاولة التنوير لإعادة دمج التسييس والتأنيس أدت إلى مفارقة؛ حيث كشف فرضه للعقائد تحت التهديد بالعقاب الأقصى عن أداتيه الضمير الأخلاقي لصالح الأمن المدني، والتضحية بالحرية الأخلاقية الفردية من أجل استقرار الدولة.
كانط: التأسيس العقلاني الأخلاقي للخطاب المدني
قدم إيمانويل كانط، عبر أخلاقه الواجبية، أقوى محاولة حداثية لتأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على العقل المحض.
الواجب القاطع كنواة للأخلاق المدنية: عملية التسييس المثالية هي تعميم القانون الأخلاقي العقلاني ليصبح قوانينًا عالمية لا يمكن أن تتغير حسب الظروف، وهو ما يمثل التسييس العقلاني للقانون المدني.
الإنسان كغاية في ذاته: تُعلي صيغة الاستقلالية من شأن التأنيس العقلاني إلى أقصى حد، حيث يرى كانط أن الفرد العاقل هو المشرّع للقانون الأخلاقي، وملزم به فقط لأنه نابع من إرادته العقلانية. هذا المبدأ يضمن أن يُعامل الإنسان كغاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى.
نحو خطاب مدني أخلاقي مرشد
إن المسوغ الجوهري للثورة هو السياسة، حيث تُفهم السياسة كشأن مشاع يسعى للتحرر. يتطلب ذلك أن تكون القضايا الأخلاقية المدنية (مثل حقوق الإنسان والعدالة) قابلة للتسييس في أفق التحرر، بعيدًا عن السيطرة والقمع.
لمواجهة "تسيس الحياة الإنسانية" الذي يؤدي إلى خواء المعنى، يجب ترسيخ منظومات قيمية حقيقية تقوم على مكارم الأخلاق لتربط سلوكيات الأفراد في كل مناحي حياتهم بهذه القيم. هذا الترسيخ هو الضمان ضد الخواء الأيديولوجي الذي يملأ الفراغ بالعصبيات الفارغة.
***
غالب المسعودي
.......................
المراجع:
aljazeera.net. "الضمير الأخلاقي والدين المدني عند جان جاك روسو
aljumhuriya.net. "تسيس: وجها السياسة ومعنياها"
mandumah.com. "الوصف: جدلية العلاقة بين الأخلاق والسياسة"
raya.com. "عندما يموت المعنى!"
tafahom.mara.gov.om. "book tafahom 45.indb"
...






