أقلام فكرية

طه جزاع: مدرات فلسفية.. مَثالب المدينة الفاضلة.. الرِق وشيوعية النساء

لا تخلو الجوانب الاجتماعية للمدن المثالية أو الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة، من مساوئ وعثرات ومثالب لا تتسق والفطرة البشرية، ولا تنسجم مع المفاهيم الحديثة للديمقراطية وحقوق الإنسان، والطفل وحرية المرأة، بل أنها تتنافى معها تماماً لأنها وليدة عصرها الذي كتبت فيه قبل أكثر من 2400 عام وتحت ظروف اجتماعية وسياسية تركت أثرها فيها، ونقصد بذلك تحديداً محاورة الجمهورية " السياسة"، أو ما تُعرف على نطاق شعبي واسع بإسم "جمهورية أفلاطون" الفاضلة.

والحق يقال فإن للجوانب الاجتماعية والتربية والتعليم والتخصص في العمل مكانة بارزة في هذه الجمهورية، غير أن بعض المفاهيم حول العبودية وشيوعية المجتمع والأولاد والنساء تثير الاشمئزاز في النفس البشريَّة السويَّة، فكيف وهي تصدر من فيلسوف عُرف بأفكاره المثالية السامية، وتوجهه نحو عالم المُثُل الأعلى حيث مفاهيم الحق والخير والجمال ؟ .

الحقيقة أنه ليس بوسع المرء المعاصر ان يلوم أفلاطون كثيراً على موقفه من قضية العبودية ، إذا ما راعى أن الرقَ كان من الأمور المشاعة التي لا غنى للمجتمعات القديمة عنها، فضلاً عن وجودها وإقرارها من الكثير من الفلاسفة والمفكرين حتى عصور متأخرة . ومع ذلك فان أفلاطون ليس بريئاً تماماً من تهمة التطرف في نظرته إلى العبيد، وقد كانت واحدة من الأسباب التي دعته الى مهاجمة الديمقراطية الأثينية مساواتها في الحرية بين العبيد الذين يُشتَروْن بالمال ومُلَّاكهم الذين اشتروهم، علماً أن ديمقراطية أثينا نفسها قد حرمت العبيد من أي حقوق سياسية، وقد جعلها ذلك هدفاً للانتقاد والإدانة التي وجهت الى عموم الفكر السياسي اليوناني الذي نظر الى هذه المسألة وكأنها إحدى أعطيات الطبيعة، وبذلك فان الديمقراطية الإغريقية كانت مشوبة كما يرى برتراند رسل مثلاً ببعض النقائص مثل عدم السماح للنساء والعبيد بالاشتراك في الحياة العامة، مع انها عملت على حماية العبيد من المعاملة شديدة القسوة، ووضعت تشريعات إنسانية متقدمة في ذلك العصر من أهمها منع الأسياد من قتل عبيدهم، فقد كان ذلك حقاً من حقوقهم !. كان أفلاطون الذي لم يرق له ما قامت به ديمقراطية أثينا تجاه العبيد ينطلق في موقفه هذا من إيمانه بالتفاوت الطبيعي بين الناس، وكان يؤكد هذا التفاوت كلما حانت له الفرصة المناسبة، بل هو يحاول ان يضع تشريعات لحفظ ذلك التفاوت ويقترح عقوبات قاسية للعبيد، ومنعهم من المشاركة في الحياة السياسية. وفي محاورة " السياسي" على سبيل المثال يتحدث  "الغريب" عن الأقسام التي لا تُنسب الى العلم السياسي،  ومع انه يستثني العبيد من الحيوانات الداجنة فانه يتوصل الى ان هؤلاء لا شأن لهم بالعلم السياسي، كما ان العمـال والإجراء الذين يعملـون مقابل أجرة يوميـة والذين يظهرون استعدادهم الدائم لخدمـة أي مستأجر، لا يدَّعون ان لهم نصيبـاً من العلم السيــاسي. وفي محاورة   "القوانيـن" فإن العبيـد كما يـرى "الأثيني" ينبغي أن يخضعوا لأسيادهم ذوي الحق في ان يحكموهم، واذا قَتل عبدٌ مالكه وهو غاضب فان أقارب المقتول سيعاملون العبد كما يشاؤون من دون أن يُدانوا، وعليهم فقط ألاَّ يُبقوا على حياته، وإذا قُتل رجلٌ حرٌ على يد عبد غاضب ليس من عبيده، فإنه سيُسلم بوساطة صاحبه لأقارب الميت أولئك الذين سيكونون مُلزمين بقتله، على أن يكون لهم الخيار في طريقة إعدامه !. إن كثيراً من النقد يوجه الى أفلاطون بسبب موقفه هذا من العبيد الذي يتنافى مع أفكاره الإنسانية والأخلاقية، وكان يمكنه أن يهاجم بجرأته المعهودة هذا النظام المتوارث مثلما فعل في قضايا أخرى مهمة في المجتمع الأثيني، لكنه بقي مخلصاً لتلك القصة الفينيقية التي رواها بلغة ميثولوجية في نهاية الكتاب الثالث من " الجمهورية " ، قصة معادن الناس والإله الذي وضع في طينة بعض الناس ذهباً ليكونوا حكاماً، وهم الأكثر احتراماً، وفي الآخرين وضع فضة أو نحاساً أو حديداً، إنه يكرس التفاوت الطبيعي بين الناس، ويدعو كل فرد لأن يعمل على وفق قدراته الطبيعية، وبذلك يصبح نظام الرق أمراً طبيعياً في ضوء هذا المنظور الأفلاطوني الميثولوجي. كما ينادي أفلاطون في بدء الكتاب الخامس من " الجمهورية " بشيوعية النساء والأولاد، ثم يشرح سقراط تفاصيل ذلك بعد أن يوافق على قول أديمنتس بإمكانية تطبيق قاعـدة " كل شيء مشاع بين الأصحاب" على النسـاء والأولاد. ويرى صاحب الجمهورية في هذا الشأن أيضاً، أن المرأة مساوية للرجل لذلك يجب تهذيب النساء وتدريبهن كالرجال تماماً، والمساواة هنا مساواة في العقل والقوى البدنية، وفي الحقوق والواجبات والعمل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفلاطون لم يكن أول من نادى بمساواة المرأة بالرجل، إذ كانت المرأة في القرن الخامس قبل الميلاد في اسبرطة تتمتع بحريتها، وكذلك كانت المرأة في أثينا تطالب بمساواتها مع الرجل، وكان أرسطوفان يسخر في رواياته الهزلية من هذه المطالب، مما يدل على أن المرأة في أثينا، وفي عهد أفلاطون كانت قد قطعت شوطاً ممتازاً في سبيل حريتها ومساواتها بالرجل، وقد حدث تطور في نظرة المجتمع الأثيني الى المرأة، كما تشير إلى ذلك نازلي إسماعيل حسين في كتابها الشعب والتاريخ - هيجل. وبموجب هذه المساواة التي يؤكد عليها أفلاطون فانه يرى أن الفرق بين الجنسين هو فرق بالدرجة وليس بالنوع " فلا فرق بين طبائع الرجال وطبائع النساء باعتبار حكم الدولة إنما هو تفاوت بينهمـا في الدرجة قوة وضعفـاً "، وبذلك فان النساء اللائي يبدين ميلاً الى الفلسفة والى الحرب ينبغي أن يصبحن الحُكام، أو مساعديهم، ويصرن ازواجاً لهم، ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة كما قرر في جمهوريته، " ويُفصل الأولاد عن والديهم ويربون في معاهد خاصة تنشئها الحكومة، وتكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجا مشاعاً لأولئك الحكام فلا يخص أحدهم نفسه بإحداهن، وكذلك أولادهم يكونون مشاعاً فلا يَعرف والدٌ ولده ولا ولدٌ والده، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للحكام ومساعديهم أن يتحرروا من كل ميل للملكية"!!. ويمضي أفلاطون في بيان فوائد شيوعية النساء والأولاد على الرغم من توقعه وجود مقاومة عظيمـة تمنع تطبيقهـا بالفعل على أرض الواقـع، وأولى " الفوائد " - حسب رأيه - إستيلاد الأفضل وتحسين النوع الإنساني على غرار تحسين نسل الحيوانات الأصيلة. ثم يمضي قدماً لشرح طريقة تزويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وإقامة الولائم التي يتخللها زفاف العرسان مع تقديم الذبائح وإنشاد الأناشيد. ولا ينسى أن يذكر بوجوب مراعاة أن يخص الشبان المُبَّرزون في الحرب وغيرها بحرية الاختلاط بالنساء الحسان لكي تكثر مواليد والدين كهؤلاء، وحال ولادة الأطفال يتسلمهم موظفون مختصون ليحملوا الأطفال الممتازين الى المراضع الحكومية تحت عناية مرضعات يَسكُنَّ أحياء خاصة بمعزل عن الناس، أما أطفال الوالدين المُنحَّطين، وكل الأطفال المشوهين فيخفوهم قاطبة في مواضع مستترة مجهولة تلائمهم. إن من أكثر الأفكار الأفلاطونية التي وجدت معارضة ونبذاً هي فكرة الشيوعية في المجتمع  وقد كان أفلاطون نفسه يعي ذلك، ويدرك صعوبة تطبيق فكرته هذه التي دفعه اليها حرصه الشديد على وحدة الدولة وتماسكها وارتقاء نوعيتها. ولكي يخفف من وطأة منافاة الشيوعية للجوانب الإنسانية، فإنه يتيح للرجال، متى بلغوا السن القانونية، أن يتخذوا من يشاؤوا من النساء إلَّا بناتهم وامهاتهم وجداتهم وحفيداتهم، كذلك يُباح للمرأة كل رجل إلاَّ الأب والأولاد والخلف والسلف. لكن، كيف يمكن معرفة صلة القرابة في هذا الخليط الشيوعي؟ يَحّل أفلاطون هذه المعضلة على وفق النحو الآتي: 

غلوكون: ولكن أنى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟

سقراط : " لا يعرفونهم بتاتاً. لكنهم يدعون جميع الأطفال الذين يولدون بين الشهر السابع والعاشر من قرانهم، أبناءهم وبناتهم، وهؤلاء أيضاً يدعون الذكور آباءهم والإناث أمهاتهم، وأولاد المواليد أحفاداً، ووالدي الوالدين أجداداً وجدات، والمواليد الذين ولدوا في دور التوليد المضروب لوالديهم يدعون بعضهم بعضاً إخوة وأخوات. ويُحظر على الإخوة والأخوات مس بعضهم بعضاً. ولكن الشريعة تبيحه اذا إصابتهم القرعة ووافقت كاهنة دلفى على ذلك!، ومن البديهي القول أن هذا الحل المُعقَّد لا يمكنه أن يقدم سبباً مقنعاً لضرورة المجتمع الشيوعي كما تصوره أفلاطون، وهو تصور يتنافى مع القيم الاخلاقية والسماوية والاعراف الاجتماعية والفطرة السليمة، بخلاف شيوعية التملك عنده فإنها تبدو أكثر قبولاً من شيوعية النساء والأولاد، لأن هدفها جعل الحياة اشتراكية لطبقة الحكام لكي لا تحدثهم النفس بتوفير الثروة وتوسيع المُلك، " فلا ينبغي أن يمتلك أحدهم عقاراً خاصاً أو مخزناً، ويجب أن يتقاضوا من المواطنين دفعات قانونية أجرة خدمتهم حتى لا يحتاجوا في آخر العام ولا يستفضلون. ولتكن لهم موائد مشتركة كما في ثكنات الجنود. وأن يُخبروا أن الآلهة ذخرت في نفوسهم ذهباً وفضة سماويين فلا حاجة بهم الى الركاز الترابي، وأن نقود العامة فيها دخل كثير وهي مجلبة لكثير من الشرور ولكن ذهب الحاكم السماوي عديم الفساد، فهم وحدهم من بين كل رجال المدينة مستثنون من مس الذهب والفضة، فلا يدخلونها تحت سقفهم ولا يحملونهما ولا يشربون بكؤوس صيغت منهما، وبذلك يصونون أنفسهم ودولتهم. ولكنهم اذا امتلكوا أراضٍ وبيوتاً ومالاً ومُلكاً خاصاً صاروا مالكين وزراعاً فضلاً عن  كونهم حكاماً، فيصبحون سادة مكروهين لا حلفاء محبوبين".

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

...................

* نشرت الدراسة في موقع مراصد أيضا.

 

في المثقف اليوم