أقلام فكرية

علاء اللامي: إشكاليات أركون المنهجية بمنظار العلوي (4)

4- العقل كمفهوم ومصطلح في البحث التراثي المعاصر

العقل والعقلية: قد يبدو الفرق بين مصطلحي "العقل" و"العقلية" جزئياً وهامشياً ومتعلقا بخلاف لغوي صرفي بسيط. غير أنه، على العكس من ذلك، يكتسي أهمية فائقة من الناحية المضمونية وعليه يقوم فرق جوهري بين نظْرَتين مختلفتين إلى التراث والتاريخ. سنحاول أن نرصد هذا الفارق بين النظرتين من خلال المثال النقدي التالي:  يعترض هادي العلوي على استعمال أركون لمصطلح "العقل العربي" أو "العقل الإسلامي" عند مناقشته لموضوعة أركون القائلة بأن "العقل الإسلامي أوسع من العقل العربي وإن دراسة العقل الإسلامي تهدف إلى الإمساك بالظاهرة الدينية التي تشمل أكثر من العالم العربي كما تسمح بفهم العقل العربي نفسه وان نقد العقل العربي مرحلة ضرورية لنقد العقل الإسلامي/ ص 177 محطات في التراث والتاريخ"، فالعلوي يفضل على "العقل"  مصطلحا آخر هو "العقلية" و الفرق بين الاثنين ليس شكلياً البتة، بل هو على درجة عالية من الأهمية. العلوي يجد المصطلح الأول "العقل" ملتبساً فهو نتاج ترجمة حرفية لمصطلح أورومركزي، ولكنه ليس دقيقا ومشوشا إذا ما أريد به ما يقابل "MIND" أو "RAISON" في الإنكليزية، لكونه يحيل إلى إنثربولوجية عنصرية تقول بتعدد وتفاضل العقول البشرية على أسس تشريحية.

كما أن القول بوجود عقلية عربية بمواجهة عقلية إسلامية لا يصح أيضاً حسبما يعتقد العلوي وهو يفضل الأخذ بمصطلح "عقلية" بدلا من "عقل" ولكن بشروط. والفرق هنا – كما أسلفنا - ليس لغوياً جزئياً بل هو نوعي ومتعلق بالكيف وليس بالكم. لكنَّ العلوي لا يسهب في تبيين الفرق، ولا يعطي تعريفا أكثر تفصيلا وعمقا له، ولكنه يوضح مثلا بأن التمييز بين "عقل عربي" وعقل إسلامي" على أساس الدين خاطئ. ولتوضيح مقصوده يأتي بمثال يقول فيه إن ابن سينا مثلاً هو فيلسوف إسلامي وهذا يعني أنه فيلسوف عربي، فارسي، تركي، كردي، أما المتنبي فهو شاعر عربي فلا هو فارسي ولا تركي ولا كردي. ويخلص إلى الاستنتاج التالي: وهكذا حين نريد ان نتخيل عقلا عربيا، لفرزه عن عقل إسلامي فالفاصل ليس هو الفكر وإنما الأدب. ويضيف في موضع آخر "أن اللغة لا تكفي وحدها لتمييز فكر عن فكر آخر إلا في حدود معايير محدودة تقتصر على الخصائص القاموسية والصرفية للغة /ص 179/ محطات".

الواقع هو أن مفهوم ومصطلح العقل أوسع وأهم مما يبدو من خلال نقد الراحل العلوي على ما فيه من جِدَّةٍ وعمق. وبالمناسبة فإن مفكرا آخر هو عبد الله العروي يقترب كثيرا من فكرة العلوي في كلامه على العقل الفردي والعقلية الجماعية فهو يرى "أن العقل لا يورَث ولا يكتشَف بل يُكتسَب بالتجربة المتجددة وعقل الفرد هو حصيلة تجربة جماعية تتلخص في عقلية. ص343/ مفهوم العقل". ومع ذلك فالأمر يحتاج إلى المزيد من الفحص والتدقيق:

يمكننا أن ننحي جانبا، وفورا، احتمالات أن يكون المقصود بالعقل هو ذلك المفهوم الإنثروبولوجي العنصري القائل بتعددية وتفاضلية العقول البشرية لأنها ليست مقصودة هنا. أما إذا كان الراحل العلوي يحيل علم الإنثروبولوجيا برمته إلى هذه الأسس السلبية لأنه نشأ نشأة خاصة، لعبت فيها بعض المعطيات والعوامل التأسيسية دورا خاصا، فالأمر غير دقيق تماما. أولاً، لأنه كسائر العلوم الحديثة مرَّ بأطوار وتغيرات نوعية كبيرة ومتتابعة. وثانيا، لأننا لم نقع على ما يؤكد ان أركون كان يذهب هذا المذهب. كما يمكننا التأكيد - من خلال كتابات أركون والجابري أيضا- أن المقصود بالعقل هو المفهوم، وليس العقل الوجود الكياني "الانطولوجي" له. وسنحاول أن نوضح ذلك من خلال سلسلة من عمليات النفي التالية: إن المقصود بالعقل كمفهوم ليس العقل الأرسطي بصورتيه "العقل الهيولي" و "العقل الفعّال" بوصفهما "عقلين ثابتين خالدين مفارقين للطبيعة وللعقول الفردية معاً".

كما إنه ليس ذلك المفهوم المثالي الذي تبلور فلسفياً في تنظيرات هيغل وديكارت وكانط والذي يعتبر العقل مجموع المبادئ الصلبة المنظِّمة للمعرفة، من قبيل مبدأ عدم التناقض، والسببية، والغائية، ذات الضرورة الكلية والمستقلة عن التجربة.

وأخيرا فهو ليس ذلك المفهوم المادي البسيط، والذي يعتبر العقل عبارة صفحة بيضاء تتراكم عليها الحيثيات الحسية لتصير أفكاراً كلية بعد أن تخضع لعمليات طويلة من التركيب، لتكون في الختام انعكاسا للواقع.

العقل الفاعل والعقل السائد

وهكذا لم يعد العقل في نظر أركون، هو ذلك "المفهوم الجاري عند فلاسفة الإسلام والمسيحية والموروث عن الأفلاطونية والأرسطية، وهو القوة الخالدة المستنيرة بالعقل الفعَّال، المنيرة لسائر القـوى الإنسـانية في النشاط العرفاني، بل أقصد القوة المتطـوِّرة المتغيِّرة بتغيِّر البيئات الثقافيـة والأيديولوجية، القوة الخاضعة للتاريخية. ص 24 الإسلام، أوروبا، الغرب/ استشهد به عبد الله محمد المالكي في دراسته " بين أركون والجابري" نسخة على شبكة النت غير مرقمة".

كما أن الكلام عن العقل كمفهوم، يجرنا إلى الكلام على العقل المكوِّن " الفاعِل " والعقل المكوَّن "السائد/ المهيمن" عند أندريه لالاند، صاحب الموسوعة الفلسفية التي تحمل اسمه. ويبدو أن الجابري انتبه جيدا إلى اللبس الذي تحدث عنه العلوي الذي يثيره مصطلح "العقل"، فالمالكي الذي استشهدنا به قبل قليل، يكتب (وهذا الاستخدام المحبَّذ نجده أيضاً محبّذا عند الجابري، فهو يعترف أن مصطلح (العقل العربي) سيثير "في ذهن القارئ الفاحص لما يقرأ، أكثر من سؤال: هل هناك عقلٌ خاص بالعرب دون غيرهم؟ أو ليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، أيّ إنسان، تميزه وتفضله عن الحيوان؟".

وخروجاً من هذه الإشكالات "يمكن تفادي مثل هذه التساؤلات لو أننا استعملنا كلمة (فكر) بدل كلمة (عقل) ليتساءل بعد ذلك "إذا كان الأمر كذلك؛ فما الذي دفع أركون والجابري إلى استعمال كلمة العقل (الإسلامي/العربي) بدلا من كلمة (الفكر)؟ الذي يبدو أن أركون والجابري وإنْ كانا يحبِّذان استخدام كلمة (الفكر)، إلا أنهما يشعران بوجود إشكالية تحيل إليها كلمة (فكر) عند استعمالها، ذلك أن كلمة (فكر) تعني – تحيل - في الاستعمال الشائع اليوم إلى مضمون هذا الفكر ومحتواه، أي إلى جملة الآراء والأفكار والمسائل المعبّر عنها في هذا الفكر. وهذا ليس موضوع أركون وليس هدفه. المالكي/ مصدر سابق".

حساب الإيجابيات

وبمقدار ما كان العلوي حادا، بل بالغ الحدة أحيانا، في نقده لمفاهيم وأفكار أركون، كان – أيضا - موضوعيا ودقيقا في إطراء وتسجيل نقاط القوة في أبحاث زميله الراحل ومن تلك النقاط والانتباهات الإيجابية التي أشار إليها العلوي نذكر الأمثلة التالية:

- يسجل العلوي نقد أركون للاستشراق الكلاسيكي السابق لظهور الحوليات والمناهج الفرنسية الحديثة، البنيوية واللسانية والتفكيكية ...الخ، المستند إلى شرعيته " شرعية الاستشراق المزعومة " مقابل نقد إدوارد سعيد للاستشراق المستند إلى شرعيته السياسية. وهنا يمكن أن نستفيض قليلا فنقول إن من نقاط الضعف والمؤاخذات المنهجية التي يسجلها أركون على الجهاز المفاهيمي الذي يدعوه بشيء من السخرية "الاستشراقي الغربي التنقيبي" يسجل إذاً، صمت هذا الجهاز والآخذين به من مستشرقين ومفكرين غربيين، على التخصصات والتفرعات والتصنيفات ذات الأبعاد والمضامين  الأيديولوجية وغير المعرفية الموروثة من العقل الإسلامي الميتافيزيقي في العصر الكلاسيكي، والتي تصادفت مع تصنيفات وتخصصات مماثلة في الغرب الأوروبي ذاته، وخصوصا في ميدانَيْ الفلسفة والثيولوجيا "علم الكلام وأصول الدين ". ولذلك دعا إلى دراسة معمقة بهدف كشف وسبر أغوار ومعرفة أسباب هذا التصادف ومعرفة ظروفه الأيديولوجية والثقافية لمعرفة وكشف التواطؤ السري. ص13 /تاريخية الفكر الإسلامي) بين علم الإسلاميات الغربي "الاستشراق " وأنماط التفكير والفرضيات والتحديدات التي رُسِخَت في الغرب من قبل الباحثين المشتغلين في علم اللاهوت والميتافيزيق المسيحي الكلاسيكي والمنهجية الفيللوجية أي "علم دراسة النصوص المقارنة" والتاريخانية، والمثال الذي ضربه أركون في هذا الميدان – لفضح النمطية المفهومية الغربية السائدة وليدة الأورومركزية - وهو الجزء الأول من كتاب "تاريخ الأدب العربي" السيئ والمعتَمَد في جامعة كمبردج يوضح مرامه بشكل دقيق وعياني.

- يسجل العلوي بأريحية أحد إنجازات أركون بقوله (الجديد في مباحث أركون دعوته للاهتمام بالثقافة الشفوية والممارسة المباشرة للإسلام أي للإسلام المعيوش والغير مكتوب فيما سماه " إسلاميات تطبيقية" ص 167 محطات)

- ويسجل أيضا (لاحظ أركون بصواب أن الإسلام كان في الماضي، أي في عصره، هو الحداثة، أما اليوم فهو تراث، إلا أنه اتجه لإلغاء مرجعية التراث. م س) والمعنى أن أركون يريد إلغاء التراث العربسلامي كمرجعية معرفية وحضارية لصالح مرجعية يسميها "غرباوية". ولكي نفهم مفردة "غرباوي/ ممالئة ومنحازة للغرب" أولى بنا مراجعة تراث العلوي المكتوب والمنشور مراجعة حية ونقدية وأبعد ما تكون عن "ذكر محاسن موتنا .." فمحاسنهم لا تحصى، ولكننا نريد أن نكون أكثر وفاء لهم فنطبق ومنهجياتهم العقلانية النقدية عليهم ونأمل أن نون قد فعلنا ذلك بشكل ما خلال محاولتنا المتواضعة في الباب الأول من هذا الكتاب.

انتهى الفصل الرابع من الباب الثالث

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

في المثقف اليوم