أقلام فكرية
حيدر عبد السادة: المتصل والمنفصل في تاريخ الفلسفة

التمرد... بعدّهِ مرهماً فلسفياً
إن مفهوم الاتصال واستمرار خطوات البحث والمنهج العلمي، وديمومة الفكر والفلسفة، قد يبدو، للوهلة الأولى، عملاً إيجابياً وفاعلاً، كونه يؤسس لمفهوم التفاعل الخلّاق والمُنتِج، كما ويؤسس لإحياء ركام السابق في بناء فلسفة اللاحق، وهذا الأمر قد يبدو مقبولاً من الناحية الاجرائية. أما من الناحية العملية، فإننا نكاد نجزم بأن ذلك الوصل، كان وراء تخلف جميع المباحث الفلسفية وسبات معارفها، والذي أدى بالأخير إلى إفلاسها ونفور المُريدين عنها، فإن من أهم العقبات التي حالت دون أن يٌكتَب لها الابداع والتفرد المعهود، تتمثل في استلاف الآراء والنظريات من منجزات التراث الفلسفي، الأمر الذي جعلها تدور في حلقاتٍ مُفرغة، وهذا ما كان وراء انحسار مباحثها، لأن اللاحق يُعيد النظر فيما طرحه السابق، لا أن يبدأ من حيث انتهى، بل من حيث بدأ.
على إننا لا ننكر التطور الفلسفي عبر العصور، لكنه يبقى تطوراً تراكمياً، يفتقر إلى الأسئلة الحقيقية والمعاصرة؛ يُعيد طرح الإشكالات ذاتها، وينتهي الفيلسوف بين ممرين، فإما مؤيداً مادحاً، أو ناقداً ناقما.
ومن ثم، فالانفصال والتمرد والخروج عن المألوف هو ما يُبشر بديمومة الفلسفة، فمن شأن التمرد أن يخلق فضاءً مختلفاً يقوم على الشكِّ في الأصل، فيولد بذلك الشك مجموعة كبيرة من الأسئلة والإشكالات، وهنا تكمن الفلسفة، فهي، وقبل كل شيء، طريقة للتفكير في الواقع، تعمل على أشكلة حقول المشكلات الواقعية، بغية نقدها وتقويمها، أو هي نشاط تشخيصي، ومدار فعل التشخيص هو الواقع كما يقول ميشيل فوكو.
وعلاوة على ما تقدم، فإنَّ مسألة النظر في طبيعة الحقب التاريخية للفلسفة، وكيفية الانتقال من حقبة إلى أخرى، كثيراً ما أفلتت من أقلام المؤرخين والباحثين في الشأن الفلسفي، فلا زلنا نعيش الترتيب التقليدي الذي وضعه مؤرخو الفلسفة، كالفلسفة اليونانية، والفلسفة الوسيطة، والحديثة فالمعاصرة. لكننا لم نتساءل يوماً عن السبب الرئيس من وراء تلك الحقب، أو الغاية الاساس من ذلك التحول. ولنا أن نقف بشيءٍ من الإيجاز على طبيعة تلك التحولات، لنتعرف في طريقنا على المتصل والمنفصل في تاريخ الفلسفة.
يُعدُّ التراث المعرفي للشرق القديم، من أقدم المنجزات البشرية من حيث الفكر والتدبر، لكن الثوب الذي ارتدته هذه المعارف لا يخرج عن قماش الـ(الخرافة)، مع ذلك فإن الأخيرة تمثل اللبنة الأولى لميلاد الاسطورة في التراث اليوناني على يد (هوميروس) و(هزيود) وملاحمهم الشهيرة؛ وهذه هي الإنتقالة الأولى في تاريخ المعارف البشرية. بعد ذلك جاءت التيارات العقلانية التي قادها (طاليس) (انباذوقليس) (بارمنيدس)... وغيرهم، فتحول البحث من فكر اسطوري إلى فكر عقلاني، ولكن هذه العقلانية لا تخرج عن كونها هامشاً على حروف المرحلتين السابقتين، فقول (طاليس) بأن الماء أصل الوجود، هو قولٌ مطابق لما انتهت إليه الفلسفة الشرقية القديمة، وإن معيار الحقيقة في ثبات (بارمنيدس) والمتجسدة في قصيدته الشهيرة(لما قادتني الأفراس)، هي إحدى صور الملاحم الاسطورية التي جسدتها أدبيات (هزيود وهوميروس)، وهكذا تباعاً مع جميع فلاسفة الطبيعة في صدر الفلسفة اليونانية.
إلى أن نصل إلى إحدى أهم صور التمرد الفلسفي، والتي قادتها الفلسفة (السوفسطائية) على تيارات الفكر الطبيعي، والذي يمثل اللحظة الأولى لميلاد الفلسفة ذات الطابع الإنساني، لكن هذه الرؤية قد طُمست بالشهرة الحافلة لدى جمهور القارئين للفلسفة، والذي تمثل بالثالوث الفلسفي الشهير، (سقراط) (أفلاطون) (أرسطو)، والذين كانوا امتداداً طبيعياً للفلسفة الآيونية والإيلية وغيرها، وأخطأ (شيشرون) خطئاً فادحاً حين قال: سقراط هو أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. والحقيقية أن هذا الثالوث قد رفعها إلى السماء بالميتافيزيقا، نظرية (المثل الأفلاطونية) من جهة، وإشكالية (الهيولى والصورة) من جهة أخرى، بعدما اجتهد (السوفسطائيون) في انزالها إلى وقائع الوجود الإنساني عن طريق النسبية وإنكار الحقائق الكلية.
وعلى الأصل السوفسطائي، نشأت المباحث الأخلاقية في المدارس المتأخرة، فلو لم تكن المباحث الأخلاقية والقيمية التي شغلها السوفسطائيون، لما كان لسقراطٍ وجود، ولو لم يكن الأخير موجوداً، لما انبثقت الرؤى والفلسفات الأخلاقية لدى (الأبيقوريون) و(الرواقيون)، فالمسألة تمثّل امتداداً طبيعياً للحظة الأولى في التمرد الفلسفي، والذي قاده كبار مثل بروتوغوراس وجورجياس.
إلى ما تقدم تنتهي الفلسفة اليونانية، والتي امتدت قرابة الألف عام، والإشارة المهمة التي نودُّ أن نوردها تتمثل في إنَّ الفلسفة لم تكن أحد أسباب الانتقال من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الوسيطة، وهنا تكمن المفارقة؛ بل يعود السبب الرئيس في ذلك التحول إلى الدين المسيحي واتساع رقعته وقوة شوكته، فعلى إثر ذلك شهدنا ميلاد الفكر الوسيط في الفلسفة، ولكنه كالمعتاد، كان أسيراً لطروحات ما يُسمى بـ(العصر الذهبي) في التراث اليوناني، فلم يجرأ على الخروج عن الخطوط الرئيسة التي خطّها افلاطون وأسطو، وكذا الحال، بصورةٍ أشد، مع ميلاد الفلسفة الإسلامية، حتى قيل عنها: أنها فلسفة يونانية كُتبت بالعربية، بل سُميت الفلسفة الوسيطة عموماً بالفلسفة التوفيقية، والتوفيق على نوعين: بين الدين والفلسفة من جهة، وبين افلاطون وارسطو من جهةٍ أخرى، الأمر الذي جعلها تترنح في مكانها دون تطورٍ منشود.
وقد استمر البحث الوسيط قرابة الألف عام أيضاً، حتى بدأ انهياره المحتوم مع سقوط الحضارة الغربية البيزنطية على يد العثمانيين سنة 1453م، الأمر الذي يجعل العوامل السياسية والحروب العسكرية، المؤذن الحقيقي لميلاد الفلسفة الحديثة، هذا من جهة، وردود الفعل على النظام الديني والمتمثل بالسلطة الكنسية من جهةٍ أخرى. وبالتالي لا نجد سبباً فلسفياً أصيلاً يقودنا إلى التحول عن الفلسفة الوسيطة نحو الفلسفة الحديثة.
لكن، هل يمكن لنا أن نعدَّ الفلسفة الحديثة امتداداً معرفياً لفلسفة القرون الوسطى؟. أكيداً لا، لكنها فلسفة منفصلة عن السابق، لا متمردةٌ عليها، وهناك فرق كبير، فالأولى تحاول أن تؤسس لممارسات فلسفية بعيداً عن المساحة الفلسفية التي رسمتها الفلسفات السابقة، بينما التمرد يستتبع أن تنسف التراث السابق لتشييد صرحاً فلسفياً جديداً على ركام القديم. بالنتيجة، لا نرى أي صورة من صور التمرد في ثنايا الأبحاث الفلسفية في الفترة الحديثة.
ثم يأتي الحديث إلى الفلسفة المعاصرة، وهي من أكثر المراحل التباساً، فإذا كان لنا علماً بطبيعة الشخصيات التي ولدت مع ميلاد الحقبة التاريخية الجديدة، فإن الفلسفة المعاصرة متشابكة إلى الحد الذي يجعلنا نحدد الفترة التاريخية من جهة، والشخصية الفلسفية الرائدة من جهةٍ أخرى. وباعتقادنا أن نشأة الفلسفة المعاصرة لا تخرج بميلادها عن ميلاد شخصيتين بارزتين، الفيلسوف الدنماركي (سورن كيركيجارد)، والفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه)، وسواء الانطلاق من هذا أو من ذاك، فإن الأساس الفلسفي في التحول إلى الفلسفة المعاصرة لا يخرج إلا عن كونه تمرداً حقيقياً على ما هو سائد، وهذه هي اللحظة الثانية في تاريخ التمرد الفلسفي، فهي تتجاوز كل القرون لتلتحق بما انتجته الفلسفة السوفسطائية. ومنذ 1813، أو من 1844 انقطع حبل الامتداد الفلسفي بوصل السابق باللاحق، فتبدلت العلاقة وأصبح المعيار الفلسفي يتحدد بالقطيعة، والأخيرة هي إحدى النتاجات المعاصرة والتي وُلِدت من رحم التمرد.
ويجب أن لا يُفهم التمرد بصورة سلبية، فهو وإن كان خروجاً عن المألوف، إلا أن خروجه يمثل درجة عالية من الإيجابية، فهو بحثٌ عن المعنى المغمور تحت وطأة السلطة، لا يمكن لنا أن نبصره ما دمنا عاكفيت تحت سلطانها، فوجب علينا التحرر أولاً، لنبصر نور الحرية أخيراً، ولا يكون لذلك إلا بالتمرد. وبالأخير نقول: إننا ندين إلى التمرد النيتشوي وانقلاباته القيمية، فقد أسس الأخير إلى اختراق المستقبل، وبعث فيه روحاً فلسفية نقدية نعيش صداها إلى يومنا، وستستمر ما دامت ترتكز على التمرد.
***
د. حيدر عبد السادة جودة