أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: هل البرجماتية فلسفة قابلة للتطبيق؟

عندما يدّعي احد انه براجماتي (عملي او وظيفي) في قضايا السياسة الاقتصادية سيلقى ترحيبا من أولئك الرافضين للأيديولوجية او التفكير الأيديولوجي الاخلاقي الذي يستلزم مبادئ أساسية غير موجودة وفقا للبرجماتي . لكن يمكن القول ان البرجماتية الأخلاقية ليست اتجاها سليما للحياة بما في ذلك السياسة الاقتصادية لأن استعمال مبادئ لتوجيه السلوك الفردي والشؤون العامة هو امر مقبول وشائع. يكفي ان ننظر الى أمثلة حول الإصرار الحاد على الصدق من جانب الآباء عندما يربّون أطفالهم، ورفض أي نوع من الإساءة للأطفال بالإضافة الى استعمال الإجراءات القانونية الواجبة في القانون الجنائي، والرفض العام الواسع الانتشار للتعذيب في مواجهة الإرهابيين، والدفاع القوي عن الموقف المؤيد للحياة او المؤيد للاختيار في النقاش حول الإجهاض، وبشكل عام، تجسيد أخلاق النزاهة.

هذه الطرق الغير برجماتية في التفكير والسلوك، تجعل الاتجاه البرجماتي يُطبق اختياريا أي، على السياسة الاقتصادية ولكن ليس على القانون الجنائي. لكن المشكلة التي تبرز هي متى يجب ان نكون برجماتيين ومتى يجب ان يتمسك المرء بمبادئه؟ لو أخذنا قضية الإجهاض مثلا هل من المبرر أيديولوجيا او مبدئيا ان يكون للمرأة حق الاستمرار في الحمل والحفاظ على حياة الجنين؟ واذا عارض احد ما جريمة الاغتصاب تحت أي ظرف هل يُعتبر أيديولوجيا او دوغمائيا اواصوليا؟ ماذا عن الآباء الذين يصرون على ان أطفالهم يقولون الحقيقة ولا يكذبون ابدا؟هل هم ناس دوغمائيين وهل تربيتهم للأطفال معيبة وخطيرة؟

لكن عندما نأتي الى مصادرة حقوق الناس لمختلف الأغراض العامة (كما في حكم المحكمة العليا الامريكية عام 2005 في قضية كيللو ضد مدينة نيو لندن)(1) بعض خبراء القانون يدّعون ان هذه "براجماتية حكيمة" رفض معقول لأصولية السوق العمياء او "تفكير أيديولوجي". لماذا مبدأ حقوق الملكية الخاصة أقل الزاما لنا في مثل هذه الحالات مقارنة بمبدأ نزاهة جسد المرأة او تلك التي تتطلب الامتناع عن التعذيب حتى في ظروف الحرب؟ وبطريقة أخرى، لماذا بعض الفلاسفة والمفكرين تحديدا ليسوا برجماتيين حول التعذيب او التحرش بالأطفال؟ لماذا هم لا يدينون أولئك الذين يصرون على انه يجوز تحت أي ظرف لأي شخص ارتكاب جريمة الاغتصاب القانوني (غير الاجباري) باعتبارهم متعصبين سيئين؟ هل البرجماتيون يجدون من الملائم لمصالحهم التقليل من أهمية بعض المبادئ مثل حقوق الملكية الخاصة او الحق في محاكمة عادلة، بينما يعتقدون ان مبادئ أخرى تستحق المناصرة؟ ام ان الانسجام المنطقي والفلسفي ذاته ضحية للبرجماتية؟

من الملفت ان البرجماتي لويس C.I.Lewis الذي جادل في كتابه (الذهن ونظام العالم،1929) ان المنطق هو شيء اخترعناه وقد نستغني عنه لو اخترنا ذلك). من المفترض لا وجود لعذر للتخلي عن التفكير المبدئي او السلوك حول الاغتصاب او التحرش بالأطفال، ولكن لبعض الأسباب يُفترض قبول انتهاك حقوق الملكية او الحرية الشخصية في حالات اعتقال الإرهابيين مثلا.

مبادئ متضاربة

يمكن القول ان البرجماتية معيبة بشكل خطير. لا يستطيع أي من المدافعين عن هذا المبدأ ان يحدد متى يكون مقبولا ان يكون المرء برجماتيا، ومتى تكون البرجماتية بغيضة أخلاقيا وغير مسموح بها. العديد من السياسيين البرجماتيين وخبراء السياسة العامة، لا يعطون إشارة متى يكون التفكير او السلوك المبدئي مطلوبا ومتى يكون من المقبول دوغمائيا وايديولوجيا الاتّباع الصارم لمثل هذه المبادئ. هذا يعطيهم المرونة في كيفية استمرارهم في السياسات العامة او حتى السلوك الفردي. الرئيس السابق بل كلنتون وبطل الغولف تايغر وود يمكنهما القول بأعلى اصواتهما، "لكن لماذا هم يلوموننا على خرق تقاليد الزواج عندما هم يخرقون كل أنواع المبادئ؟" وما هو أسوأ، ان المناصرين لعمليات الايهام بالغرق او حتى اشكال التعذيب شديدة القسوة يمكن ان يحفزوا البرجماتية، قائلين “حسنا انها تنجح في بعض الأحيان، لأنه في ضوء أهمية الحصول على معلومات من المتّهمين، سيكون من المقبول دوغمائيا وايديولوجيا السماح بذلك".

مرة أخرى، اين الخط الفاصل بين السلوك الذي يتبع اتجاها برجماتيا والسلوك الذي لا يتبع ذلك؟ متى يكون السلوك المبدئي بلا قيمة ولماذا يكون هناك وليس في مكان آخر؟ في الحقيقة، ان السياسيين والبرجماتيين الأخرين يعلّمون أطفالهم حول المبادئ- وقد يتم التخلص منها متى ما تصبح غير ملائمة وحيثما تقف في طريق انجاز اهداف معينة مرغوبة مثل الحفاظ على سرية تدخين الحشيش او تمويل البنوك وشركات السيارات بنقود ناس آخرين؟

يبدو ان المدافعين عن البراجماتية لديهم مشكلة. وهي كما لو ان البرجماتية ليست عملية أبدا طالما لا يمكن تطبيقها باستمرار او بانسجام في كل من الشؤون الشخصية او العامة.

***

حاتم حميد محسن

..................................

الهوامش

(1) في هذا الحكم عام 2005 قررت المحكمة العليا السماح للحكومة بالاستيلاء على ملكية خاصة لأغراض التنمية الاقتصادية، فقامت بتوسيع تعريف "الاستخدام العام “ليشمل اهداف عامة مثل خلق وظائف وزيادة الإيرادات الضريبية حتى لو تطلب ذلك إعطاء ارض من مالك خاص الى آخر، وهو ما اثار استياءً واسعا دفع الولايات الى سن قوانين تحمي الملكية الخاصة.

في المثقف اليوم