أقلام حرة
ليث العتابي: دور الأخلاق في ثنائية الأدب والعلم
القول المأثور (الأدب يستر قليل العلم، والعلم لا يستر قليل الأدب) مقولة تعكس واقعاً وجدانياً حقيقياً.. إنها مقولة وجدانية، فبغض النظر عن كونها منسوبة ولسنا في صدد دراستها سندياً أو متنياً، فذلك موكل لمحله.
ما تريده المقولة:
ليست المأساة الحقيقية أن يَقلّ علم الإنسان، فالعلم يُكتسب، ويُستدرك، ويُنمّى مع الزمن؛ وإنما المأساة أن يَقلّ أدبه، لأن قلة الأدب تكشف صاحبها مهما تحصّن بالمعارف، ومهما ازدانت سيرته بالألقاب والشهادات، فالعلم بلا أدب لا يُنقذ صاحبه، بل يفضحه.
إن الأدب هو اللغة الخفية التي تتكلم بها العقول قبل الألسن، هو الطريقة التي نختلف بها، وننتقد بها، ونعترض بها، ونعلن بها ثقتنا بأن الحقيقة لا تحتاج إلى صراخ، ولا إلى إهانة الآخر كي تثبت ذاتها، ومن هنا كان الأدب قادراً على ستر محدودية المعرفة؛ لأن المؤدب يعرف متى يصمت، ومتى يسأل، ومتى يعترف بجهله دون أن يشعر بالدونية.
أما قليل الأدب، وإن غاص في بطون الكتب، وتسلّق سلّم التخصص، فإنه سرعان ما يهوي عند أول اختبارٍ أخلاقي، فالعلم لا يمنح صاحبه حق التعالي، ولا يرخّص له احتقار الناس، ولا يبرر قسوة القول وسوء المقصد، وكل معرفةٍ لا تُهذّب صاحبها، فهي معرفة ناقصة مهما بدت مكتملة في ظاهرها.
ومن زاويةٍ أكاديمية، فإن العلاقة بين العلم والأدب ليست علاقة تزيينٍ وتكميل، بل علاقة تأسيسٍ وضبط، فالأدب هو الإطار القيمي الذي يوجّه المعرفة ويمنعها من الانحراف إلى الاستعلاء الرمزي أو العنف الخطابي.
لقد أثبتت دراسات التربية والفلسفة الأخلاقية أن التأثير العلمي لا يتحقق بقوة المعلومة وحدها، بل بأسلوب تقديمها، وبالصورة الإنسانية التي يتجسّد بها صاحبها، فالعقل لا يستجيب إلا حين يشعر بالاحترام، ولا ينفتح إلا حين يُخاطَب بأدب.
لذلك نرى في الواقع المؤسسي والفكري أن أصحاب المشاريع الكبرى لا يسقطون غالباً بسبب ضعف أفكارهم، بل بسبب خشونة خطابهم، وضيق صدورهم، وعدم قدرتهم على إدارة الاختلاف، فقلة الأدب تُحوّل العلم من رسالة إلى أداة صراع، ومن قيمةٍ جامعة إلى سلاح إقصاء.
لقد أدرك الحكماء قديماً أن الأدب هو أول العلم وآخره، فبه يُحفظ العلم من التشويه، وبه يُصان الحوار من الانفجار، وبه يُقاس نضج الإنسان لا سعة اطلاعه فقط، وكانوا يرون أن الأدب علامة الوعي، وأن سوء الأدب دليل على خللٍ عميق، مهما تلون صاحبه بلغة المعرفة.
قد يعذر الناس الجاهل المؤدب، لأن جهله لا يؤذيهم، لكنه يعسر عليهم قبول العالم سيء الأدب، لأن علمه يتحول في يده إلى أذى، فالأدب هو الوجه الإنساني للعلم، ومن فقده فقد القدرة على التأثير، ولو امتلك مفاتيح المعرفة كلها.
***
د. ليث عبد الحسين العتابي






