أقلام فكرية
رحيم الساعدي: بين برهان النفس الطائرة لابن سينا وتقنية الميتافيرس
من الاساليب اعتمدها دائما هو اسلوب تحويل المقالة إلى بحث وفق المستقبل القريب، والحديث عن مقاربة بين برهان النفس الطائرة لابن سينا وتقنية الميتافيرس المعاصرة، يمكن أن يتحول إلى بحث في المستقبل.
وتكون أهمية هذه المقاربة للتاكيد على قوة وعمق الفلسفة الإسلامية، سيما ما تعلق بأفكار الفيلسوف العظيم ابن سينا.
ويمكننا أن نجد بعض أوجه التقارب الفلسفي بين الميتافيرس وبرهان النفس الطائرة لابن سينا، رغم اختلاف السياق التاريخي والفكري لكل منهما.
ان برهان النفس الطائرة يعد تنظيرا كبير الأهمية في الفكر الإسلامي، وهو يهدف إلى إثبات النفس الإنسانية، والبرهنة عليها ويهدف الى تحديد النفس البشرية ككيان مستقل عن الجسد.
ففي الوقت الذي يطلب ابن سينا من القارئ أن يتخيل إنسانًا خُلق فجأة مكتمل العقل والإدراك، معلقًا في الفراغ، معزولًا تمامًا عن أي إحساس جسدي (لا يرى، لا يسمع، لا يلمس، إلخ). لكنه بالرغم من غياب التواصل المادي مع العالم الخارجي، سيظل هذا الإنسان مدركًا لوجوده كذات مفكرة.
ولا أعلم كم هو الوقت الذي سيكشف لنا بشكل قاطع، من ان ديكارت استحوذ على هذه الفكرة، وقدمها في الكوجيتو بوصفها أحد اهم واجمل الأفكار الفلسفية على مر التاريخ الإنساني .
ان البرهان يركز على الوعي الذاتي كحقيقة أولى ومستقلة عن الجسد.
ولا شك من وجود تشابه بين الفكرتين، ولكن الأمر الآخر الأكثر مقاربة وتشابه، هو ذاك الذي يمكن مقارنته بين كل من برهان وحيلة الرجل الطائر وبين تقنية الميتافيرس .
وربما لا يشير مفهوم الميتافيرس بالمعنى الأوسع إلى العالم الافتراضي، بل قد تشير إلى الإنترنت ككل، بما في ذلك النطاق الكامل للواقع المعزز.
لان تقنية الميتافيرس تشير إلى عالم رقمي ثلاثي الأبعاد مترابط يحاكي الواقع ويساعد على التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والترفيهي.
وكنت قد كتبت بحثا قبل سنوات عن مخاطر الامن الاجتماعي وفق انتشار الميتافيرس .
ويتكون الميتافرس من العديد من التقنيات مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي وتقنيات الويب وهو ليس نوعاً محدداً من التكنولوجيا لكنه مجموعة من التقنيات التي قادت البشرية إلى طريقة أفضل للتواصل والتعبير.
ويعود مصطلح الميتافيرس إلى ما قبل 31 عاماً عندما ابتكره الروائي نيل ستيفنسون عام 1992م في روايته «سنو كراش» التي تخيل فيها شخصيات افتراضية حية تلتقي في مبانٍ ثلاثية الأبعاد وغيرها من بيئات الواقع الافتراضي، وتتكون الكلمة من شقين الأول «meta» (بمعنى ما وراء أو الأكثر وصفاً) والثاني «Verse» (مُصَاغ من «Universe») وتفيد (ما وراء العالم). واعتمادًا على نفس الفكرة، يمكن للأشخاص من جميع أنحاء العالم أن يجتمعوا بشكل افتراضي لحضور حفل غنائي ما، تمامًا كما لو كانوا هناك.
اما مفهوم الواقع الافتراضي فانه يشير إلى تقنية تستخدم أنظمة الحواس، والهدف الاساسي فهو إنشاء العالم الرقمي المتكامل والذي يمكن أن يكون مكملًا للعالم الحقيقي للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك ياتي لخلق بيئة افتراضية يمكن للمستخدمين التفاعل معها بشكل واقعي .
اما ما تعلق ببرهان الرجل الطائر لابن سينا فان البرهان يقوم على افتراض خلق الانسان دفعة واحدة، ثم طيرانه أو تعلقه في الهواء وتجرَّيده من المحسوسات والمعقولات، والنتيجة انه يستطع هذا الرجل أن يشعر بأي شيء من أعضائه الداخلية أو الخارجية، ولا يراها... لهذا سيظل يشعر ويعرف نفسه ولن يغفل عن ذاته. من ثم اعتمد ابن سينا على كل تلك البراهين التي تبرهن على وجود النفس، وبالفعل استطاع أن يستدل على وجودها وأقر بأنها مغايرة للجسم، فهي تستطيع البقاء من دون جسد، ولكنها مع ذلك في كل الأحوال لا توجد قبل الجسد بل هي تولد معه وتستمر، وبسبب عدم ارتباطها بالجسم واستطاعتها أن توجد منفصلة عن الجسد، فان كل ذلك جعلها تستطيع البقاء من دون الجسد بعد فنائه، وأرجأ طرق المعرفة في النفس إلى الإدراك والحواس الخمس.
ويلاحظ ان الوعي كجوهر مستقل: في كل من برهان ابن سينا وتقنية الميتافيرس، يمكنه أن يوجد بمعزل عن الجسد المادي.
اما الإدراك الداخلي والذي سيكون مقابل الإدراك الحسي: فكلاهما يعتمد على فكرة أن إدراك الذات لا يتطلب بالضرورة إدراكًا حسيًا مباشرًا بالعالم الخارجي.
كما ان الانفصال عن الجسد وفق تجربة الميتافيرس قد تتيح للإنسان تجربة التحرر من قيود الجسد المادي، وهو مفهوم يقارب فكرة ابن سينا عن النفس المستقلة.
لكن لاباس بايراد بعض الانتقادات حول هذا الموضوع، فالغاية الفلسفية لبرهان ابن سينا هو برهان فلسفي ميتافيزيقي يسعى لإثبات طبيعة النفس وخلودها، بينما الميتافيرس يشكل بيئة تقنية وتجريبية لا تهدف مباشرة إلى استكشاف قضايا فلسفية.
كما ان الوسيلة لبرهان ابن سينا تعتمد على التخيل العقلي البحت، بينما الميتافيرس يعتمد على تكنولوجيا متقدمة لتوليد تجارب حسية رقمية.
مع هذا يمكنا القول ان هناك تشابهًا عميقًا في الفكرة الجوهرية المتعلقة بإمكانية فصل الوعي عن التجربة الجسدية المباشرة. الميتافيرس يتيح نوعًا من برهان الرجل الطائر الحديث من خلال تكنولوجيا تجعل الإنسان يدرك ذاته في سياق مختلف عن جسده المادي. لكن في النهاية، يبقى برهان ابن سينا طرحًا فلسفيًا خالصًا، بينما الميتافيرس هو تطبيق تكنولوجي مع انعكاسات فلسفية محتملة.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي