أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الماهية والموجود في الفلسفة الوجودية

في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة) ليست محايدة بل تغييرية. وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى لكليهما.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف جوهري بينهما. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه فهو ليس موضوعا بل دلالة وكذا الحال مع الزمن. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا وكان يقصد مطلق الوجود كمفهوم وليس الموجود الانسان.

ليس غريبا أن نجد بالفلسفة مثل هذه المفاهيم التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي كماهية خاصيتها التفكير وليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية أن نقر بوجود عقل انساني ابدا.

علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد الذي ماهيته التفكير وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن (المفهوم) عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان. وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون واجاز لنفسه الادراك المكاني في عدم تعالقه الافتراضي مع الزمن. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان. (لي مقالتان منشورتان اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الافتراضية الحيادية للمكان).

طبيعي ومهم أن نشير الى أن نظرية نكران الزمكان أي ملازمة الزمن للمكان ادراكيا في توليفة واحدة سوف تصطدم بعقبة كأداء لا يمكن تجاوزها بسهولة هي تاكيد النسبية العامة لانشتاين 1915 حين اكد توليفة الزمكان علميا فيزيائيا باكثر مما سبق لكانط وفلاسفة عديدين القول به.

واكثر من ذلك اضاف انشتاين في النسبية العامة الزمن بعدا رابعا لأبعاد المادة الثلاث الطول, العرض, الارتفاع, الزمن. بمعنى المادة اصبحت باربعة أبعاد ادراكبة بدلا من ثلاث. اذن من الممكن القول اننا بدلالة الابعاد الثلاث للمادة ندرك الزمن ليس مثل ادراكنا المادة بابعاد ثلاثة خالية من الزمن... البعد الرابع الذي اضافه انشتاين ليس تعسفيا بل فيزيائيا علميا على المادة في النسبية العامة التي لا يتوفر الى اليوم بديل تخطئتها او إدحاضها. لكن مشكلة ارتباط الزمن بابعاد المادة التي ندركها يفتح امامنا احتمال ادركنا الزمن موضوعا مستقلا واردا حسب نسبية انشتاين واضافته الزمن بعدا رابعا في تركيبة المادة وهو محال. الزمن ليس موضوعا للعقل.

اما حين تقول الوجود وتعني به الكليّة غير المتحققة وجودا فهو يكون مفهوما وليس مصطلحا متفقا عليه في حين تكون المعرفة (الابستمولوجيا) مصطلحا بحثيا متفقا عليه فهو مبحث علمي - عقلي. والسبب يعود لامكانية حصرنا المعرفة بابعاد فيزيائية او كيميائية او مادية بحثية وغيرها من تجربة علمية ومعادلات رياضية. وهذا لا ينطبق على الوجود الذي نعي تعيّنه الفيزيائي من خلال معرفتنا لمحتوياته الموجودية فقط.

ثم الوعي القصدي للاشياء والمواضيع حسب هوسرل واشياعه هو الوصول لهدف يتوخاه التفكيرالمسبّق قبل ادراك الموضوع او الوعي به حسب فهمنا تعبير هوسرل. أي أن المعنى برأينا على خلاف هوسرل ليس خاصّية معرفية موجودة بالوعي القصدي بل المعنى خاصية الشيء في وجوده المستقل بعالمنا الخارجي. وبغير الاقرار بهذه المسلمة الفلسفية تنتفي حاجتنا ادراك الاشياء والموضوعات لانها مكتفية ذاتيا بالمعنى ولا يضيف وعينا القصدي لها معرفة.

القصد أو القصدية في الوعي لا يحمل معنى قبليا يخلعه هو على موضوعه بل القصد يحمل خاصيّة البحث عن المعنى في مدركه الوجودي (الموضوع). هنا تتبيّن حقيقة الموضوع أنه ليس وسيلة ادراكية هادفة معرفية بل هو هدف بذاته بخلاف الوعي القصدي الذي هو وسيلة البحث عن المعنى في الموجود اي عن المعنى في موضوع تفكيره.. وليس في خلعه المعنى على مدركاته من الموضوعات.

طبعا هوسرل في منهجه الظاهراتي (الفينامينالوجيا) ومعه تلميذيه هيدجر وميرلوبونتي ذهبوا الى تبنّي الوعي القصدي الذي قال به برينتانو في معرض رده على الكوجيتو الديكارتي انا افكر.. وما يخص موضوعنا يعنى الموضوع في التفكير القصدي به قبل أن يكون (غفل) اصطدام الوعي به كموجود مستقل طاريء على التوقع الحدوث فهو موضوع صدفة سابق على التفكير القصدي به فهو بالتأكيد يكون غفلا كموضوع يحتويه عالمنا الخارجي..

اذا نحن سلمنا مع هوسرل بأن بعض الموضوعات ليست معطى غفلا عندها نسقط انفسنا في سذاجة فلسفية مثالية مغلوطة جدا هي أن كل مدركات العقل انما هي موجودات غير مادية ولا وجود لعالم خارجي يحتويها. فالموجودات المادية هي مواضيع (غفل) ليس بمحكومية ادراكنا لها بل بمحكومية وجودها المادي المستقل. والعقل لا يبحث عن مواضيعه الادراكية بنزعة وعيه القصدي. بل يبحث عن المعنى المعرفي بالمواضيع والاشياء المستقلة عنه. كذلك حين نقول مواضيع الخيال هي الاخرى ليست مواضيع غفلا وبذلك نلغي انتفاء مادية مواضيع الخيال اولا وهو اجتهاد يمكننا تمريره في تبرير ان اللاشعور الذي هو مصدر مواضيع المخيّلة ليس هو الاخر غفلا.

فالخيال وإن كان تداعيات انثيالاته الصورية بالذهن تسقطها المخيلة على التفكير العقلي الا أن الخيال لا وجود له بدون تفكير بموضوع حتى لو كان موضوع الخيال لا تنتظمه اللغة المحكومة بضابطي محدودية المعنى ومحدودية انتظام الكلمات في التعبير عن الصوت والمعنى الدال. حتى الصمت هو تفكير لغوي صورة ودلالة صوتية او غير صوتية لا يهم حين نريد الوصول الى حقيقة أن الخيال بلا موضوع هو هذيان من التفكير والاصوات غير المنضبطة بمعنى غير العاقلة في معرفتها اهمية واسلوب تعبير اللغة عن معنى قصدي تبتغي اللغة توصيله للمتلقي..

الوعي القصدي هو الشعور بالاتجاه المعرفي نحو هدف معيّن سبق التفكير به ذهنيا كموضوع. لذا يكون الشعور قرين الموضوع المحدد ماديا وليس قرين الموضوع (الغفل) الذي هو قرين اللاشعور الذي تفصح عنه تداعيات اللغة الحلمية في يقظة الخيال الشعوري. هنا علينا التمييز بين اللاشعور غير المسّيطر عليه في انتظام تداعيات الافصاح اللغوي عنه أي هو حالة من العصاب النفسي وليس اللاشعور المتمثّل في ابداعات لغة الاجناس الادبية التي تكون فيها مساحة المخيال اللاشعوري اكبر من مساحة تداعيات اللاشعور في لغة الكلام التداولي العادية. وهنا يكون المخيال في الاجناس الادبية مسيطرا عليه من قبل المبدع وسائبا في تداعيات الجنون الصوتية العشوائية التي لا معنى لها يؤطرها لا شكلا ولا محتوى.

متى يصح معنا القول الموضوع (غفلا) يحمل يحمل الوعي القصدي له معناه؟ حين يكون ادراكنا المواضيع بمحكومية محض الصدف لوجودها المستقل ولمباغتتها الوعي بالتفكير القصدي بها اي بمعرفتها. وهذه الصدف التي تلازم بعض المواضيع تنفي ان يكون الوعي القصدي التفكيري بالهدف يتم بالذهن قبل وجوده المادي المستقل بالعالم الخارجي كما تذهب له فينامينالوجيا هوسرل. والصدف الملازمة لبعض الموضوعات التي يستهدفها الوعي القصدي بالمعرفة عنها تؤكد (الغفل في حضورها) الذي يجعل من الصدفة اصدق تعبير عن الموضوع من الوعي القصدي الذي يتراجع دوره امام اسبقية الموضوع الغفل الذي يحمل معناه.

ثم هنالك زاوية نظر حول ان الصدف في تناول الادراك للموضوعات الغفل تخرج فاعلية العقل باختياره الموضوعات التي لها معنى. واذا افترضنا ان الوعي القصدي ينوب عن العقل الادراكي في الاختيار فهو يبطل التوجه نحو المواضيع الغفل التي تصبح كل ما يدركه العقل ليس صدفة ولا غفلا وهذه النظرة قاصرة بسبب ان العقل يدرك المواضيع التي تحكمها الصدف اكثر اهمية بكثير من الموضوعات التي تبدأ بالفكر وتنتهي بالموضوع في حكم الوعي القصدي باختياره مواضيع ليست غفلا ولا تحكمها صدفة وهذا غير منطقي. فوجود االموضوعات الغفل واصطدامنا غير المتوقع بها ادراكيا لا يمكننا نفيه ابدا من حياتنا المليئة بمثل تلك الموضوعات الغفل التي ترافقها الصدف وتفرض نفسها الوعي والتفكير بها.

فيورباخ وموضوعات الطبيعة

كان ولع فيورباخ الفيلسوف المادي اليساري المنشق عن هيجل بالطبيعة وصل مرحلة العبادة حد الهوس بها بعد وفاة هيجل فخرج هو ومعه ماركس وانجلز وشيلر وباور وشتراوس تجمعهم ادانة هيجل. وفي رسالة كتبها فيورباخ لابيه مخاطبا إياه اني تركت دراسة اللاهوت ليس ازدراءا به ولكن لأن الفلسفة والطبيعة وفرتا لي ما كنت اجد نفسي به. واصدر اهم كتابين له الاول (اصل الدين) والثني (جوهر المسيحية) ما سبب له تهمة الالحاد. حيث تملكته فكرة وحدة الوجود المادية الصوفية التأملية في تخليق الانسان لمعبوده انما يتم بعلاقة ميتافيزيقية تجمع بين الطبيعة والانسان.

طبعا رغم إعتراف ماركس بجميل فويرباخ الفلسفي انه اي ماركس اخذ من فويرباخ (ماديته) واخذ عن هيجل (ديالكتيكه) الواقف على راسه بالمقلوب بدلا من قدميه واعاده ماركس الى وضعه الطبيعي في صياغته النظرية المادية التاريخية والديالكتيك في المادة.الا ان ماركس هاجم فيورباخ بثلاثة اطروحات مجلدات طبعت ونشرت بعد وفاته. والسبب كان تحفظ ماركس من النزعة الدينية التي تملكت فيورباخ بنوع من صوفية مادية تختلف عن مذهب وحدة الوجود في الاديان ما جعل ماركس ينعته بالصوفي الميتافيزيقي المتأمل بعلاقة الانسان بالطبيعة.

لماذا هاجم ماركس في اطروحاته الثلاث كلا من هيجل وفيورباخ؟

الاسباب التي دعت ماركس الهجوم على ديالكتيك هيجل هي:

1. هيجل اعتبير الديالكتيك يتم يالذهن قبل الواقع. واسبقية الفكر على الواقع ماجعل ماركس يرد عليه ان الوجود سابق على الفكر. والديالكتيك الحاصل في المادة (صراع الاضداد) وفي التاريخ (الصراع الطبقي) هو الذي يقود الديالكتيك في الفكر وليس العكس.

2. الادهى من ذلك قول هيجل أن طبيعة العقل أي تركيبته البايولوجية هي جوهر طبيعي مزروع في الدماغ بالفطرة فيكون تفكير العقل ديالكتيكيا. وهذه الطبيعة الديالكتيكية الفطرية للعقل تنعكس على الواقع المادي وعلى التاريخ فيضفي عليهما حتمية حصول الديالكتيك في ظواهرهما المادية وغير المادية ممثلة بالبنى الفوقية. (تناولت هذا الخطأ لدى هيجل باكثر من مقال منشور لي على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو موزع بمؤلفاتي).

ننتقل الان الى الاسباب التي دعت ماركس يكتب ثلاث اطروحات ضد فيورباخ:

1. ابتداع فيورباخ مادية تاريخية صوفية تأملية بنشأة الدين في تطويعه نزعته المادية ايجاد نوع من وحدة الوجود الصوفي.

2. اهتمام فيورباخ بأهمية الدين بحياة الانسان في بحثه الدائب عن اله يجده بالطبيعة او في الانسان ذاته رغم الحاد فيويرباخ الذي انكره بعض الفلاسفة واعتبروه بريء من وصمه به.

3. تطيّر ماركس من تاليف فويرباخ كتابين احدهما (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية) مركزا اهتمامه اي فيورباخ على ان علاقة الانسان بالطبيعة هما اللذان اخترعا الاله الذي هو الانسان بذاته.

ويرى فيورباخ بهذا المعنى الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يحمل كل الصفات الجيدة التي يتمناها الانسان لنفسه ولا يستطيع ذلك كونها صفات متعالية مطلقة بالقياس لمحدودية الانسان كجوهر مادي كلي متناه. لذا فهو يخلعها على معبوده ليجده اعلى مرتبة في امتلاكه الخصائص التي يرتاح الانسان بعبادته لها ومحاولته تقمصّها . بمعنى مقولة شيلر كل شيء تجده مجتمعا بالانسان ولا تبحث عن شيء خارجه بمعنى هنا لدى شيلر تجد علاقة الانسان بالطبيعة وليس احتواء الطبيعة له كائنا من مجموع كائناتها فقط.

الماهية في الوجودية

انه لمن العبث الذي لا طائل وراءه الحديث عن موجود هو الانسان لا يمتلك ماهية ذاتية متعالقة في / مع وجوده كجوهر. اننا نجد مفارقة خارجة عن الفلسفة الوجودية التي اخرجت الذات وفصلتها عن الانسان كما واخرجت الماهية عن الموجود الانساني واعتبرته موضوعا ادراكيا خارج ضابط تلازم الماهية والوجود بما لا يمكن الفصل بينهما ابدا.

يبدو ان اسبينوزا كان له تاثيرا كبيرا بالفلسفة الوجودية. اكثر من تاثير بعض الفلاسفة المحسوبين عليها. فالوجودية حين نادت بارتياب شديد مقولتها (الوجود يسبق الماهية) نجد هناك من عكس المقولة في تراتيبية اولوية الماهية على الوجود من فلاسفة الوجودية انفسهم.

شن بعض الفلاسفة هجوما تشكيكيا على تلك المقولة لسارتر ان الوجود يسبق الماهية. فقد تردد جبرييل مارسيل الموافقة على تلك المقولة كي لا يخرج نفسه طواعية من الانتساب الى الوجودية والعودة الى مرجعيته اللاهوتية الدينية. وحاول راندال تخطئتها بقوله: (يجب ان ننهض بقوة ضد مقولة سارتر التي تقرر اسبقية الوجود على الماهية). ويعود راندال استعارة نفس المنحى الفلسفي الذي قال به سارتر ويكرره راندال في محاججة سارتر قوله (الانسان ببساطة هو ما يصنعه بنفسه بواسطة فعله وحريته). وهو ما قال به سارتر جوهر الانسان هو تصنيع الذات وخلقها المتسامي باستمرار لماهيته الموجودية الملازمة له.

لعل ابرز واقوى مواجهة لسارتر حول الماهية جاءت على لسان ل.لافيل قوله (لا معنى للوجود فينا الا لكي يسمح لنا بان نحقق "ماهية موضوعة سابقا" بل ان نحددها باختيارنا وبدلا من القول ان الماهية امكانية الوجود علينا القول ان الوجود امكانية الماهية). لتوضيح هذا الارباك المتداخل عن الماهية بالفلسفة الوجودية نقول:

- الماهية ليست معطى غفلا ولا هي موضوعة سابقة في الموجود. وانما هي سيرورة من الانتقالات الخبراتية للذات المستمدة من تجارب الحياة وعلاقة الانسان بالطبيعة والاله.

- حين نسف اسبينوزا الماركسية والفلسفة الوجودية قبل ظهورهما بقرون في مقولته (اننا بدلالة الماهية او الجوهر ندرك الوجود). فهو اي اسبينوزا سقط في الميتافيزيقا حينما إعتبر الجوهر او الماهية في الانسان والموجودات حسب مذهبه في وحدة الوجود يعود لجوهر الهي لانهائي كامل لا يمكنننا ادراكه. في حين صواب الماركسية والفلسفة الوجودية رغم الاختلاف الكبير بينهما فسّرا الماهية تفسيرا ماديا وليس لاهوتيا. وتبقى مقولة اسبينوزا اننا بدلالة الماهية ندرك الوجود غير صحيحة خارج مذهب وحدة الوجود الصوفية التي اقام فلسفته عليها.

- مقولة راندال الماهية موضوعة سابقة أي هي جوهر ذاتي ماهوي مكتف بذاته يصبح معنا من غير المتاح ولا المثير الاهتمام بالماهية انها سيرورة من تصنيع الذات لذاتها ليس بقواها الذاتية بل في تاثير المحيط واكتساب الخبرة من الحياة والطبيعة والعالم الخارجي.

- الاشكالية اللغوية الفلسفية التي ذكرناها وردت على لسان راندال (بدلا من القول الماهية امكانية الوجود علينا القول الوجود امكانية الماهية). العبارة صحيحة تماما من حيث مرجعية الوجود معطى ثابت والماهية سيرورة من التغييرات المتلاحقة. ونكرر قولنا انه من العبث البحث عن ماهية مستقلة عن الموجود الانسان. فالماهية هي الذات في حالة من السيرورة المتطورة باستمرار لذا يكون وعي الوجود سابق على الماهية قيد الانجاز مقولة فلسفية سليمة.

اسبينوزا والماهية في وحدة الوجود

لمن يرغب التمهيد لمصطلح مذهب وحدة الوجود انه مذهب صوفي تعنى به الفلسفة والاديان وخاصة الوثنية منها قبل التوحيدية نلخصه بعبارة قصيرة (كل شيء في الله والله في كل شيء). من المهم الاشارة الى ان الصوفية بالاسلام كانت متحفظة تجاه بعض منطلقات مفاهيم وحدة الوجود لسببين الاول الانزلاق نحو تشييء الله الذي تؤمن به الديانة المسيحية. والسبب الثاني توخي الحذر من الانزلاق نحو الوثنية الدينية التي تنكر وجود الخالق وتؤمن بمذهب وحدة الوجود. معظم فلاسفة الصوفية الاسلامية فقدوا حياتهم حينما انزلقوا من مذهب وحدة الوجود الى التشييء والحلول بالذات الالهية وهو محال واقعيا ولا حتى روحانيا كما جرى مع الحلاج والسهروردي الذين تم اعدامهما بوحشية.

الوجودية كما هو الحال مع الماركسية تطيرتا بشكل مروّع تجاه مقولة اسبينوزا بأن الجوهر الكلي الالهي الموزع في موجودات الوجود والطبيعة والعالم الخارجي هو التجسيد للفكر الالهي الذي يعطي الماهية اسبقية على الوجود. واننا بدلالة الماهية نفهم الوجود.

الوجودية لم تعط الموجود الانسان قيمة انطولوجية كما اراد ذلك هيدجر وكرس كتابه الشهير (الكينونة والزمن) لهذا المسعى. على خلاف سارتر الذي ذهب الى ان الوجود والمقصود به الموجود الانسان هو الحرية المطلقة. ومذهب وحدة الوجود لم تتعامل معه الوجودية كتفسير فلسفي منطقي يعطي الماهية اكثر مما تمتلكه حقيقة.

من أبرز الاشكاليات التي شتت الفكر الفلسفي في الوجودية هو انها لم تعط لا للوجود ولا للماهية استقلالية معرفية فلسفية ليس بمعنى الانفصال بل بمعنى العلاقة الاندماجية بينهما. فهي ترى بالانسان هو الحرية بالمفهوم المطلق المفتوح النهايات على تقديم الاسبقيات في غير تراتيبيتها المعروفة عنها كما حصل في موضوعنا علاقة الموجود بالماهية والاسبقية لمن؟ الحرية في الوجودية تجعل من الوجود بذاته خال من الحتمية الموجودية الواقعية انطولوجيا وكائن في مجتمع. وهذا ممثلا بتعبير سارتر الانسان عالم منغلق على ذاته.

***

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي

 

في المثقف اليوم