أقلام فكرية

محمد فرَّاح: تأملات فلسفية في الكَذِب

يشكل تاريخ الفكر والخطاب الإنسانيين تاريخاً أساسه الكذب والخطأ والخداع والمخاتلة، لهذا يمكن القول أن الكذب هو بمثابة حدودٍ لكل تفكير وكل خطاب.

ذلك أن الإنسان بطبيعته كائن كاذب وخاطئ ومتوهم، لهذا يفكر في تَقَوُّلِ الكذب وتبليغه مما يشترط وجود نماذج ومعايير للفكر الكاذب والقول المخاتل.

هناك أيضاً اختلاف وتنوع في الكذب، تبعاً لاختلاف وتنوع ميادين الفكر والوجدان والقول وحدودهما، فالكذب في حقل التفكير والخطاب الإنسانيين يختلف كثيراً في مجال الحس المشترك، بمعنى هناك اختلاف في الكذب بين الحس العام وبين الكذب في الحقول الفلسفية والفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية ... إلى آخره.

يدل الكذب في بادئ الرأي على معاني مثل: الخيال والتهيؤ والافتراء والخداع والمخاتلة والغش وخيانة الأمانة.

كل كذب بهذا المعنى هو الشيء المتخيل، الغير كائن في عالم الواقع، وغير قابل للتحقق أو الإدراك والفهم والاستيعاب من طرف جميع الناس.

لكن لا يفهم من هذا أن الكذب غير موجود في الواقع، بل هو المؤسس للواقع، إنه كيمياء الواقع الذي يخترق جسم المجتمع.

إن الكذب هو ما ليس كذلك، هو الذي يثير الظنون والشكوك والتساؤلات ويخلق التوتر والحيرة في العقول، فالكذب تعبير عن اللا حقيقي واللا صادق، أي ما لا نلمحه في الواقع، أو يوجد على نحو آخر غير واقعي: يوجد وجودا وهميا، ومتخيلا، وكاذبا، وزائفاً... إلى آخره.

لكن هذا اللا حقيقي هو الذي يخترق الواقع في الحقيقة، إن الواقع مليءٌ بالتناقضات، والكذب والخطأ حدثان توأمان يحصلان في الواقع، ولهما آثار ملموسة في العلاقات البشرية، ما دام التوأمان الكذب والخطأ نقيضان، أي عدوان لذودان للصدق والحق.

كما أن هناك عديد المظاهر الخادعة والمخاتلة والمزيفة التي تخفي لِحاءَ الحق والجوهر.

ويمكن القول كذلك أن كل ما ليس حقيقياً يجثم في الواقع جثوم العادة، ما دام أن كل كذبة لا تستمد أساسها من الواقع أو من مطابقته.

هكذا إذن يتضح تلبس دلالة مفهوم الواقع الذي يتحدد من خلاله الكذب، في مستوى الحس المشترك، وهكذا يحاول الكاذب كتمان الجوهر والتضليل عنه تارة، وعلى المظهر تارة أخرى.

ينضاف إلى هذا أن اللا واقعي قابل بالضرورة في التواجد والتساوق ضمن الواقع ذاته.

ويصبح من الضروري بالنسبة لنا التفكير الفلسفي النقدي في الكذب، نحن في حاجة ماسة لفلسفة الكذب، تاريخ الكذب لجاك دريدا غير كافي، فنحن لا نريد التأريخ لمفهوم الكذب عبر التاريخ، نريد بناء مفهوم فلسفي دقيق جداً للكذب، من خلال تحديد حقيقته الثاوية خلفه، وكشف دلالته المتداولة واللغوية والفلسفية التي هي دلالات ومعاني تعكس مطاطيته وتعقيده.

فالكذب اسم منقول من صفة مذمومة، وهي من صفات المنافقين اللذين خصهم الكتاب المقدس "القرآن الكريم" سورة من سوره، أقصد "سورة المنافقين"، لما لهم من حس مخاتل وحركي ومتغير، فجاء حكم المنافقين حكم تحت التضاد للواقع.

ويقابل كل كذب الباطل، وهو الشائع في الأقوال، فمعنى كذب الحُكْمِ هو تضاده مع الواقع.

هنا يصبح الكذب صفة للحكم المضاد للواقع الثابت والمستقر، ويأخذ إسم الكاذب حين يكون الحكم متعارضا مع الواقع، واسم الخطأ حين يكون الواقع هو الذي يختلف مع الحُكْمِ.

الكذب هو خاصية ما هو خاطئٌ. فكل قضية كاذبة، هي قضية لا نستطيع البرهنة عليها أو حتى تبريرها والتعليل عليها، وبالتالي تكون عبارة عن شهادة كاذبة، أي شهادة الزور التي تكون عبارة عن حكاية من وحي الخيال، لا تعكس ما رآه فعلاً صاحبها. والكذب بمعنى أعم هو اللاواقع.

Le mensonge est intrinsèquement erroné. Toute proposition mensongère est, par définition, une proposition qu'il est impossible de justifier ou de prouver, et constitue ainsi un faux témoignage, c'est-à-dire un récit fictif qui ne reflète pas la réalité telle qu'elle a été perçue par celui qui l'énonce. Dans un sens plus large, le mensonge équivaut à l'irréel.

والكذب بهذا المعنى هو كل حكم نسبي لا نتفق عليه البتة، لأنه ليس واقعاً، وبالتالي ليس أصيلاً، إنه نسخة النسخة أو نسخة الحقيقة.

ومجال الكذب هو مجال الفكر، أي حكم كاذب، وبالتالي فهو لصيق باللغة والخطاب، فلا وجود لفكر لا يحكم على الواقع، كما لا وجود لِلُغَةٍ لا تعبر عن الفكر الذي هو قد يقول كذباً كما قد يتحفظ عن قول الحق.

ما دام الكذب موجوداً في الواقع، فإن هذا الأخير يظل مرجعاً ومصدراً قويا للكاذب، لأنه يحاول تزييف هذا الواقع الحاصل والثابت، الذي ينتمي إلى الشيء الماثل أمامنا، لكن هذا الواقع مضاد للوهمي، والخيالي، والممكن.

فالواقع موجود لدينا في التجربة، لكن الكذب يأخذ معاني التغير والتحرك والجريان والسيولة والظلالة، إنه في تضاد مع ذاته.

والكذب هنا سيرورة وصيرورة سيالة ومتغيرة ومتحولة نسبيا، لأن تجربتنا الحسية متغيرة، لهذا يظل يفارقها ويحملها خارجه.

ولا يمكن نفي الكذب عن الواقع أي وضعه خارج سياق الفكر وبمعزل عنه.

هناك أخطاءٌ مغلوطة مجردة ومتحركة يحملها الإنسان في ذاته، توجد داخله في عالمه الداخلي وبشكل محايث، ذلك لأن السكون ليس ساكنا إلا ضمن الحركة، وعلى قاعدتها.

لهذا وجب خوض تجربة الشك الديكارتية ولو مرة في حياتنا، أي أن نشك في كل شيء، الشك في معرفتنا التي اكتسبناها بواسطة الحواس، أو أن نشك في كل معارفنا التي ورثناها عن آبائنا وأمهاتنا وأساتذتنا، وعن طريق الشك في كل شيء يمكننا تمييز الكاذب على الأقل عن غير الكاذب.

ونعترف أن الواقع الحسي واقع مشكوك فيه، مليء بالتناقضات الذاتية، لهذا قلنا سابقاً أن الكذب معيار في ذاته، وقد يكون العقل محظوظاً في إدراك الأكاذيب التي يتعرض إليها، أو قد يحدث العكس، فيتيه في الأغاليط، ويبقى في حدود الجاهز، يبنيها ويشيدها الفكر انطلاقا من معطيات التجربة الحسية التي هي بمثابة مادة خام تضفي عليها الذات العارفة شكلاً أو صورة أو مثالاً.

يوجد تناقض في الواقع ينعكس على بنية الفكر ونظامه القبلي الترنسندنتالي، ويظل الكذب لصيقاً بين الفكر والواقع، ويجب الكشف عن هذا التناقض المتأصل في الطبيعة الإنسانية.

كل كلام كاذب هو كلام "فارغ من المعنى والفائدة"، رغم أنه مفيد في بعض الأحيان، لكن بمجرد ما تفكر فيه تفكيراً عقلياً تكتشف أنه غير مفيد البتة، إنه ليس سوى مظهر، ولهذا السبب فهو ليس واقعياً.

فاللاواقعي هو ضد الواقعي، ويكون منطوق ما كاذباً عندما يكون منطوقاً لا تدلة عليه، ولا يعبر عن الشيء تعبيراً فعلياً، ليتعارض مع كل حكم.

يوجد الكذب إذن في عالمنا، إنه تعبير عن هذا العالم، ويؤثر فيه بشكل منتظم، لكل مجتمع إذن نظام خاص به لإنتاج وإعادة إنتاج الكذب، كما أن هناك سياسة خاصة بالكذب، هذه السياسة على صلة بأنظمة الخطاب، هذا الخطاب الكاذب بمثابة مرآة تعكس واجهة ذلك المجتمع أو ذاك.

كما أن الكذب هو خاصية الخطاب العلمي، فكل نظرية علمية حسب كارل بوبر يجب أن تكون لها قابلية للتكذيب والتفنيد والدحض والاختبار.

وهذا لا ينسينا أن الخطابات السياسي والاقتصادي والاجتماعي عموماً خطابات كاذبة أو تضمر الحقيقة، هناك دائما نوعاً من التحريض السياسي على الكذب من أجل الحفاظ على السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية، ويذاع الكذب وينتشر عبر مؤسسات الإعلام والاتصال وعبر مواقع التواصل الاجتماعي التي هي مواقع الكذب والوهم الاجتماعي.

ويتم نشر الكذب من خلال الأجهزة الأيديولوجية للدولة سواء المدرسة أو المؤسسات التربوية أو حتى المؤسسات الثقافية ودور الشباب والتنشيط، ويمتد ذلك امتداداً واسعا نسبيا في الجسم الإجتماعي وينتشر كما تنتشر النار على الهشيم، وليس هناك أي محاولة من طرف السلطة السياسية للحد من الكذب، بل انتشاره واستهلاك الناس له على كونه حقيقة وغاية في ذاته يحافظ على السلطة السياسية.

والكذب ينتج ويعاد إنتاجه ونقله من خلال المراقبة المستمرة له على يد مؤسسات الدولة والأجهزة الكبرى سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو الإيديولوجية أو التربوية (البنوك، الإدارات، الجامعات، المدارس، مواقع التواصل الاجتماعي، ...إلى آخره.) ويصبح الكذب هو موضوع الساعة أي ما يجادل على حقيقته سياسيا واجتماعيا وتربويا.

هناك سجال ونقاش حادم حول الكذب داخل الدولة، إن هذا النقاش متأصل في الدولة ويعتقد أنه حقيقة، هناك إذن من يتحكم في الكذب ليؤثر على ما هو حقيقي، كل هذا من أجل تبرير سلطة سياسية ما وتبديد القائم والظفر بسلطة أبدية ومطلقة.

لا يمكن عزل الكذب عن السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية التي يشتغل ضمنها لحد الساعة.

ما أشد أن نتعسف في رسم حدود الصفات والكلمات والأسماء، فصانع الكذب يكتفي بتحديد علاقات الأشياء مع البشر، ويعبر عن الأشياء في شكل استعارات في منتهى الإبداع والشجاعة، ففي كل مرة يقفز الكاذب من موضوع إلى آخر جديد ...، فيعتقد أنه يعرف كل شيء عن كل شيء! لكن في الحقيقة لا يعرف شيئاً عن الكيانات الأصلية للأشياء.

ويبدو الكذب بمثابة حشو سيال من الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ والصفات والكنايات والاستعارات والتشبيهات الفضفاضة التي يتم إنتاجها حول الإنسان والغاية منها تظليل العلاقات الإنسانية، هذا الحشو يتم تزيينه وينقل به من مجال إلى آخر.

لازلنا لم نفهم بعد سبب تأكيدات المجتمع وإلزامهم الذي يفرض علينا عبثاً، وفقا لمواضعة صارمة، ويكون هذا التفكير الجماعي تفكيراً لا شعورياً محددا بدقة مسبقا، وفقاً للأعراف التقليدية القديمة، والإنسان يعيش حالات كذب أكثر من الشعور بالحقيقة.

لكن التجربة الذاتية للأفراد هي تجربة متدفقة من الظواهر التي نعيشها، إن تجربة الكذب إذن تجربة ممتدة، إنها تساعدنا على الانتقال من تجربة قديمة إلى تجارب جديدة، وهذا الواقع السيال والمتحرك والمتدفق، والكذب يتدفق معنا ويؤثر فينا.

وفي الواقع يمكن إعتبار الكذب أو يمكن معرفته من خلال معرفة علاقته بما لم يوجد بعد، ولن يوجد أبداً، فالكذب لا يستنسخ شيئاً كان أو هو كائن، إنه يعلن عن شيء لن يكون، ويؤثر سلبا فيما سوف يكون.

إن الحكم الذي يقرر نفسه على أنه كاذب، هو الذي يقرر نفسه أيضاً على أنه لا يستند على أي برهان، وبالتالي لا وجود لمؤكدات عليه ولا يمكن أن توجد، كما أن الظلالة والغواية تتأسس على البهتان ... والواقع أن ما لا يراه شخص معين غواية وظلالة، قد يراه شخص آخر حقيقيا تماما، والكذب يقودنا إلى الجدال في مسائل معينة، لا نخلص فيها إلى أية نتيجة. ومع ذلك تفرض نفسها، هنا والآن، تفرض نفسها بما هي غواية تغوينا عن كل حقيقة.

الكذب في علوم الطبيعة والإنسان مسألة طبيعية لأننا لا نستطيع البرهنة بشكل قطعي على النتائج المتوصل إليها.

إنه في الكذب، لا يستلزم شيئاً على الإطلاق، ما دام لا يبدأ من قبل، بوضع نفسه، بلا جذور صلبة يقوم عليها، لهذا يكتفي المرء بأن يكذب بدلا من أن يبرهن على كذبه، يريد أن يُرِي غيره ما لم يراه هو، والحال أن ما رآه هو مخالف تماما ومتعارض مع ما يرويه، لأنه وبكل بساطة لا يبرهن على ما يقوله.

فكل محاولة تفنيدية، هي محاولة غرضها درء النتائج الضرورية عن المقدمات التي سلم بها سابقاً، وبالتالي هناك تناقض دائماً بين مقدمات الكاذب ومؤخرات مقوله، لأنه يستند على حقائق مزيفة، لكن في سياق التفكير والتأمل والوعي النقدي يحق لنا وضع كل النتائج المتوصل إليها في علوم الطبيعة والإنسان بين قوسين، ولن نحسم في كل قضاياها. وهذا لسبب بسيط، هو أن الحكم الميتافيزيقي هو حكم يحتمل الكذب، بأي ثمن، لأن هناك نواقص ذاتية وموضوعية تكتنفه، لهذا لا وجود لتوكيد حقيقي وأصيل في هذه العلوم ولا يمكن أن يوجد.

كل الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والدوافع والمقترحات الكاذبة هي مقترحات لا تصلح للعمل لهذا فهي جوفاء وليس لها أهمية في الحياة، وكل اعتقاد خاطئ هو اعتقاد مضاد للواقع، لأننا قد نحمل وقائع وأفعال وأفكار مضرة بالنسبة إلينا، ونعيش ونحن نعتقد أنها مفيدة لنا !!!

وعليه يجب علينا النظر إلى القول الكاذب بكل بساطة إلى أنه قول لا فائدة ترجى منه لفكرنا وغير مفيد لسلوكنا العملي (خاصة الأخلاقي).

إن الكذب في التصريحات سواء الأخلاقية أو السياسية لا يمكن التملص منه، مهما تكن ضخامة الضرر الذي يمكن أن يترتب عنه بالنسبة إلى المُحاور، والإدلاء بتصريحات مزيفة يسمى كذباً، لأنه يفتقد إلى المصداقية وباطل وظالم في حق الإنسانية.

والكذب بهذا المعنى هو كل تصريح زائف يضر بالإنسانية، ومجاوز في نفس الوقت للقانون، لكن الكذب قد يحدث أن يتحول إلى مِلْكِيَّةً ومَلَكَةً شريرةً تسري في جميع الظروف والملابسات.

وبهذا يصبح لكل واحد كذبه الخاص به الذي هو عبارة عن آراء مشتتة وجزئية كافية لتبديد جميع الأخطاء والأوهام، وهنا تكمن خطورة الكذب لأنه يهدم التواصل والحوار بين الناس، وعن طريق الكذب نهدم الأساس المشترك الذي تبنى عليه قيم المجتمع.

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

في المثقف اليوم