أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: فيليب بيتيت وأصل الأخلاق

يُعد فيليب بيتيت أهم وأبرز فيلسوف أخلاقي في الوقت الراهن. وُلد في باليجار بمقاطعة غالواي في ايرلندا عام 1945. درس في كلية ماينوث - جامعة ايرلندا الوطنية وكذلك في جامعة الملكة في بلفاست. هو بدأ عمله المهني في التعليم في كلية دبلن الجامعية عام 1968 وشغل العديد من الوظائف التعليمية قبل وصوله الى جامعة برينستون الامريكية، حيث يعمل حاليا بصفته استاذا في القيم الانسانية بجامعة لورنس روكفلر. هو ايضا عمل كاستاذ فلسفة في جامعة استراليا الوطنية. ورغم عمله في الولايات المتحدة، لكنه حافظ عل علاقته بوطنه الام، حيث أعطى محاضرات في كلية ترنتي بدبلن عام 2007 وشارك في مبادرة الرئيس مايكل دي هينغر في الأخلاق عام 2014.

كتب بيتيت العديد من الكتب في عدة موضوعات. هو كان، متحمسا في الدعوة الى الايديولوجية الجمهورية التي نُظر اليها منذ وقت طويل كبديل للّيبرالية. هذه الايديولوجية السياسية (لاعلاقة لها بحزب سياسي) لا تركز في جوهرها على الهيمنة. طبقا للجمهوريين، المجتمع الحر يحمي كل مواطنيه بمن فيهم الأكثر تأثراً من الآخرين عند التعرض للأهواء الاعتباطية.

طوّر بيتيت كتابه (مولد الاخلاق: إعادة بناء دور وطبيعة الاخلاق،2018) حينما كان يلقي محاضرات فلسفية ثمينة ضمن سلسلة محاضرات تانير في جامعة كاليفورنيا/ باركلي،  وكان بيتيت قد تلقى  ردوداً هامة أحاديثه من عدد من المعلقين المتميزين. (لسوء الحظ، لم يجد طريقه للكتاب الاّ واحدا من هذه الردود الهامة للسايكولوجي ميشيل توماسيلو Michnel Tomasello). يكتب بيتيت "الهدف من المشروع هو تقديم تفسير للاخلاق .. يوضح الكيفية التي تصبح بها المخلوقات أخلاقية" (ص13). لكن التفسير ليس تاريخيا: هو لم يدّعِ تفصيل العملية التاريخية الحقيقية التي نشأت بواسطتها الاخلاق. بدلا من "تاريخ حقيقي"، يقدم بيتيت "دراسة افتراضية لتاريخ العوائل" counterfactual genealogy، هدفه "استكشاف طبيعة الاخلاق عبر النظر الى العوامل التي ادّت الى الطرق الاخلاقية في التفكير والتصرف". ان أحسن طريقة للقيام بهذا هي "تقديم تفسير للظروف التي جعلت الاخلاق حتمية" (ص31).

نشأة الأخلاق

يتصور بيتيت ارضا خيالية تسمى ايريون Erewhon وهي إعادة ترتيب لكلمة (ليس في أي مكان) Nowhere (الاسم كان في الأصل عنوانا في القرن التاسع عشر لرواية للكاتب صاموئيل بيتلر). ايريون تقطنها مخلوقات تشبهنا كثيرا، لكنها تنقصها المفاهيم الاخلاقية. بعد ذلك يتصور بيتيت(كيف يمكن لمجموعة من الافراد لم تستخدم في الاساس مفاهيما أخلاقية تبدأ بتطوير ممارسات مجتمعية الى درجة تصبح فيها هذه المفاهيم متاحة لهم"(ص29). في دراسته الافتراضية لتاريخ الاخلاق، اولى الخطوات تجاه تطوير الاخلاق تحدث عندما يرغب الناس عمل التزامات تجاه شخص آخر. الناس في ايريون يمكنهم الإدلاء بتصريحات لبعضهم البعض: حول الطقس، حول مكان العثور على الطعام، واحيانا يغيّر الناس خططهم او رغباتهم وحاجاتهم الخاصة وكل ما يتعلق بنواياهم . يسمي بيتيت هذه أعذار "العقل المضلل" وأعذار"تغيير الخطط"(ص78). لكن وجود هذين العذرين يجعل من الصعب على الناس الوثوق بما يقوله الآخرون. افرض على سبيل المثال، انت تريد الذهاب للصيد غدا، والصيد يصبح أفضل عندما يشترك به اكثر من شخص واحد. انت تسأل صديق للذهاب معك وهو يوافق على ذلك. لكنه يفشل في الذهاب. صديقك يمكن ان يقدم عذرا مضللا للذهن شيء ما مثل "انا أدركت ان رغبتي بالصيد لم تكن قوية جدا – او عذر تغيير الذهن – مثل، "انا وضعت خطة للصيد، لكني فضلت عمل شيء آخر". في كلتا الحالتين، سيكون من الصعب الوثوق بصديق كهذا. وتلك المشكلة ليست فقط لك وانما ايضا لصديقك الذي سيرغب ان تكون انت قادرا على الوثوق به. من خلال عمل التزام، يمكن للناس منع امكانية مثل هذه الأعذار عبر واحدة من طريقتين: هم يعترفون بان بعض التصريحات المعينة التي يعملونها هي صحيحة، وبذلك ينكرون على أنفسهم تجسيد عذر مضلل للذهن، او انهم يتعهدون بعمل شيء ما، ينكرون به على انفسهم تجسيد عذر تغيير الخطط. لذا فان الالتزامات حتى عندما لا تكون اخلاقية بطبيعتها، هي تساعدنا في الوثوق بآخرين. حسب تعبير بيتيت، التعبير عن الالتزام يدفعنا نحو "شكل الزامي من الاتصال الذاتي الذي به ندعم أنفسنا للارتقاء الى الكلمات التي نتلفظها"(ص121).

ان تطوير الالتزام سوف يقود سكان ايريون لما يعتبره بيتيت المفهومين الاخلاقيين الرئيسيين، وهما الرغبة والمسؤولية. يكتب بيتيت "بينما تختلف المفاهيم الاخلاقية، لكنها كلها تعمل لتجسيد مختلف الاسس التي وفقها تُعد الافعال مرغوبة اخلاقيا من جهة، والافراد يُعتبرون مسؤولين اخلاقيا من جهة اخرى" (ص14). كيف يحدث هذا التطور؟ ان ممارسة الاعتراف يقود بطبيعته الى ممارسة الاعتراف المشترك الذي تعترف بواسطته جماعة من الناس برغبات معينة مشتركة. وان ممارسة الاعتراف المشترك يقود بطبيعته الى فكرة ان الرغبات المشتركة هي في الحقيقة عالمية. وبالتالي، "نحن ملزمون بدرجة ما لنطور مفهوم المرغوب" من وجهة نظر عالمية، كل شخص يمكن ان يتبنّاها بحرية، "وان هذا المفهوم هو مساوي لمفهوم المرغوب أخلاقيا" (ص150) .

كذلك، "نحن الذين طورنا مفهوم المرغوب اخلاقيا او المرغوب من عدة اطراف سنستمر لتحميل شخص آخر المسؤولية عن أحكام معينة وعن المعايير المرغوبة اخلاقيا"(ص197). بكلمة اخرى، بيتيت يعتبر من الطبيعي ان نتوقع من شعب ايرون ان يكونوا مسؤولين اخلاقيا عن "اولئك الذين يسيئون الى معايير الرغبة الروتينية المشتركة"، نظرا لعدم وجود أعذار مقبولة (ص217). ان فعل تحميل المسؤولية كما يراه بيتيت، له ثلاثة عناصر: تأثير الاعتراف، وتأثير التحريض، وتأثير التوبيخ (ص214). عند تحميل شخص ما المسؤولية عن الفشل الاخلاقي، نحن نعترف به ككائن قادر على العمل بشكل أفضل، نحن نحثه للعمل أفضل في المستقبل ونعاقبه عندما لايعمل أفضل .

مساءلة اتجاه بيتيت

يُعتبر اتجاه بيتيت في دراسة تاريخ العائلة ثريا ومعقدا وينطوي على العديد من الأجزاء المتحركة. هنا تبرز فقط نقطة واحدة تتعلق بنقد بيتيت حول مركزية اللغة في جداله .

هو يدّعي – بان اللغة هي "ضرورية للاخلاق"(ص38). قصة ايريون تعتمد على حقيقة ان "الممارسات التي تجعل الاخلاق لا مفر منها للمؤيدين في تلك القصة – والممارسات التي من المفترض ان تجعلها ايضا جزء من مصيرنا – تستلزم استعمالات خاصة للّغة الطبيعية" (ص7). كيف يمكن لأي شخص التصريح الواضح، التعهد او الاعتراف او الحث على أي شيء بدون لغة؟ لكن بينما من الواضح ان الكثير من سلوكنا الاخلاقي يتطلب كلمات، غير ان هذا ليس واضحا بالنسبة للاخلاق ذاتها، ولا واضح ايضا ان الاخلاق جاءت للوجود حالما اكتسب اسلافنا اللغة. أقاربنا الاوائل كانوا يقومون بعدة اشياء بدت وبشكل مؤكد أخلاقية بطبيعتها. طبقا للدليل التجريبي الأخير، قرود الكبوشين، مثلا، تصبح ساخطة جدا لو اُعطيت لقرود اخرى فواكه أكثر منها مقابل نفس الجهد (انظر "القرود ترفض اللامساواة"، سارة بروسنان و فرانس ديواييل، الطبيعة 425، سنة 2003). هذه القرود بالتأكيد تبدو تعترف بعدم الانصاف وتستجيب طبقا لذلك.

يطرح تومسيلو موقفا مشابها في رده على بيتيت جاء في كتاب مولد الاخلاق. طبقا لتوميلسو ان أصل الاخلاق يكمن في التعاون وان التعاون قد يتطلب او لا يتطلب اتصالات لغوية (ص333). "ايماءة رأس بسيطة عادة تكفي" (ص340).

يرد بيتيت على هذه المخاوف بطريقتين، لكن كلا الردين ربما يُضعفان من قوة حججه. من جهة، هو لم ينكر ان المخلوقات غير اللسانية تتصرف بطرق تبدو اخلاقية، لكنه يرفض تسمية هذا السلوك "اخلاقي" اذا لم تلعب الاعتبارات المعبر عنها بعبارات اخلاقية دورا في تعزيز او تنظيم تلك الاستجابات"(ص13). يجب على المرء ان يمتلك لغة لكي يعبر عن أي شيء، وبهذا يبدو ان بيتيت يعرّف الاخلاق بطريقة تجعل اللغة جزءاً ضروريا وهو ما يجعل ادّعائه بان اللغة ضرورية للاخلاق حقيقة عديمة الاهمية. من جهة اخرى، يرد بيتيت على تومسلو بالموافقة بنعم، ايمائة الرأس قد تكون كافية للتعاون لكن "ايماءة ستكون لا فائدة منها على الاطلاق ما عدى بين الافراد الذين أنجزوا وسائل ووسائط للاتصالات – شكل من اللغة، مهما كان بدائيا" (ص350).

هذا ايضا يهدد بجعل ربط بيتيت بين الاخلاق واللغة تافها: هل من الممكن تصوّر أي كائنات تعاونية بدون أي وسيلة اتصال؟

ان مولد الأخلاق يثير بوضوح موقفا شائكا حول موضوع ذو أهمية فلسفية كبيرة. هذا يصح في كتاب بيتيت بشكل عام. يمكن للمهتمين في أي من الموضوعات التي عالجها الكاتب النظر في عمل الفيلسوف الايرلندي.

***

حاتم حميد محسن

......................

Philip Pettit and the birth of ethics, philosophy now,Feb/March,2025

 

في المثقف اليوم