أقلام فكرية

ضياء خضير: العقلي والميتافيزيقي في خطاب عبد الجبار الرفاعي الديني

لا شكّ في أن القارئ المتابع لخطاب الدكتور الرفاعي الآخذ من حيث المبدأ بأسباب العلم ومناهجه الحديثة على صعيد المقدمات قد يجد صعوبة في التوفيق بين الجانب العقلي القائم على أساس الإيمان بالعلم ومنجزاته، وبين هذا الجانب الميتافيزيقي ذي الطبيعة العقائدية الغيبية التي يراد له أن يكون جزءا أصيلًا فيها، وليس ملحقًا بها أو موازيًا لها، وعلى نحو يختلف عن الحال التي تكون فيها "الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة" في خطاب ابن رشد العقلاني، الذي يقول فيه إن هناك حقيقتين شرعية، وأخرى فلسفية، وأن "الحق لا يضادُّ الحقَّ، بل يوافقه ويشهد له"، بينما يجري التأكيد في علم كلام الدكتور الرفاعي الجديد على أن "الحقيقة واحدة، إلا أنها نسبية في معرفتها". على الرغم من الاعتراف باختلاف الحقائق العلمية عن الحقائق الميتافيزيقية الغيبية. 

ونحن نعرف ما ذكره أبو حامد الغزالي قبل ذلك في (المنقذ من الضلال) من أن "كلام الأوائل في الرياضيات برهاني، وفي الإلهيات تخميني" في حين أن الفلسفة اليونانية، ومنها فلسفة أفلاطون المثالية، التي اعتمد عليها الغزالي بشكل غير مباشر عن طريق ابن سينا والفارابي، قد أوضحت من قبل الكيفية التي تكون فيها قيمةُ العلوم بشكل عام، والرياضيات منها بشكل خاص، تكمن حصرًا في التخلص من المحسوس؛ ومن ثم فإن لها طابعًا تربويًا يعلم الفكر كيف لا يستكين إلى تناقضات الإدراك الحسي ومتطلبات اللغة العادية والتي لا يمكن للفكر أن يظل معها رهينَ القضايا الفرضية غير المبررة، بل ينبغي عليه أن يبلغ مستوى المبدأ الأول والنهائي لكل شيء.            

والطريقة التي يجري فيها حلُّ مثل هذا الإشكال عند صاحب المقدمة الفقهية الجديدة تبقى ذاتَ طبيعة عقائدية صارمة، ولكنها لا تخلو من روح شعري تصوفي في طريقة عرضها والتغني بكيفية الإحساس بها وتذوقها لدى المؤمنين بها من أمثاله.

 "كل بصيرة صافية تتذوق عذوبة صوت الله في الوحي، ويتكشف لها جمال تجليات الأسماء الإلهية. أرى الوحيَ قبسَ نور إلهي تجّلى في شخصيات أصيلة صادقة تتفرد بيقظتها الروحية، وأشرق على أرواح ساطعة كالمرآة المصقولة، فشعّ ضوؤها على الناس". وذلك نابع من فهم الدكتور الرفاعي للوحي الذي يتلخص في أنه: "حالة وجودية، إلهية بشرية / بشرية إلهية. حالة ينكشف فيها الإلهي للبشري عندما يتجلى فيه. حالةٌ لا تتحقق فيها هذه الدرجة من الانكشاف لغير النبي. حالة يصير البشري مرآة يتجلى فيها الإلهيُّ بأجلى وأجمل ما يتجلى في الوجود. حالة تمثّل طورًا وجوديا يختص به النبي، تحظى فيها روح النبي بمنزلة وجودية لا تدركها غيرها، إذ تسمو الروحُ في هذه المنزلة لتصير نورا لا يشوبه ظلام". 

والرفاعي يضع، بالحديث عن هذا النور، والمنزلة الوجودية التي تحظى بها روح النبي دون غيرها من أرواح الخلق بهذه الكيفية، برزخًا يمنع الاقتراب من المحظور المقدس الخاص بمفهوم الوحي، ومن أية محاولة لتفسيره تفسيرًا تاريخيًا. وهو، بهذا، لا يتناقض بالضرورة مع العلم قدر تجاوزه، أو تجاوز قدرتنا على فهمه. فالروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

وروح محمد النبي هي المنطقة السريّة المختارة التي انكشف فيها الإلهي للبشري، واكتسب النص القرآني من خلالها صورتَه المقدسة وخصوصية كلماته الموجّهة للبشر مع عجزهم عن الإتيان بمثلها. وإذا أضفنا إلى ذلك صعوبة أخرى تتمثل في المسحة العرفانية أو ما يسميه الدكتور الرفاعي بـ (التصوف المعرفي) الذي "أعاد الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري"، والذي يؤلف ما يشبه طبقة الحرير الرقيقة التي تغطي بعض المناطق الخشنة في نسيج هذا الخطاب تبيّن لنا جانبُه الاستثنائي الذي يريد أن يدشّن عهدًا جديدًا يدخل فيه علمُ الكلام القديم إلى قلب العالم الحديث بروح وفكر آخر قادر على تجاوز مشكلات الماضي، واستيعاب متطلبات الحاضر وقيمه المادية والميتافيزيقية، بكل ما تنطوي عليه من تركيب وتعقيد وأسئلة لا يمكن وضع إجابة نهائية للكثير منها.

 ذلك أن الاتجاه الصوفي وما يرتبط به من سلوك وممارسات خاصة يظل حلًا فرديًا لا يخلو من جوانب سلبية تترافق مع الانسحاب إلى الداخل للاهتمام بالذات والعلاقة مع الله، بصرف النظر عما يرافق ذلك من نقاء وسمو روحي وأخلاقي. وما كان يقوله ابنُ رشد عن الصوفية في كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة) يؤكد هذا المعنى ويقويه: "وأما الصوفية، فطرقُهم في النظر ليست طرقًا نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة، وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب.."؛ وهو يضيف: "إن هذه الطرق وإن سلّمنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس.."

لغة المتصوف ولغة المؤرخ ودارس الفلسفة

خطاب الدكتور الرفاعي بهذا الشأن، كما عرضنا جانبا منه، يبدو في بعض جوانبه، أقربَ إلى لغة المتصوف منه إلى دقة المؤرخ، أو الباحث في ابيستمولوجيا الدين وفلسفته الكلامية. وهو أمر طبيعي بالنسبة إلى رجل دين مثقف يحمل مشروعا دعويا منفتحا على آفاق عصره وقراءة ما ينطوي عليه من تناقضات وصعوبات لا يمكن الاقتراب منها وحلّ إشكالاتها بغير وجود الإكسير الروحي والديني الذي جرى حجبه والتعتيم عليه في كثير من المشاريع الفلسفية والفكرية السائدة، والتي زاد وجود التكنولوجيا في الحياة الاجتماعية الحديثة الوضعَ الإنساني تعقيدا واغترابا على المستويين النفسي والأنطولوجي.

وقد أشارت الباحثة التونسية الدكتورة إيمان المخينيني في الفصل الذي قرأت فيه مدونة الدكتور الرفاعي الكلامية قراءة شاملة في كتابها (في تأويلية علم الكلام، قراءة زمانية مركبة) إلى مثل هذه الصعوبة التي رأت في خلاصتها أن "هاجس روحنة التجربة العقدية يطغى في مقاربة الرفاعي على هاجس العقلنة. وهو ما يضاعف من صعوبة الاضطلاع بمهمة التأسيس النظري للمشروع اللاهوتي الجديد وبمهمة تقريبها تداوليا وتفعيلها إجرائيًا".                                                                                                               

أما فيما يتصل بالزمانية (المركّبة) لمدونة الرفاعي الكلامية في هذه القراءة، فتظهر "أن في الزمان الطبيعي – الكوزمولوجي والزمان الأنطولوجي تمييزًا بين سرديتين زمانيتين، أولاهما أداتها القيس، وثانيهما أداتها الرمز، وضمنها ينتمي الزمن الدينيّ."، والإشكال عندئذٍ لدى هذه الباحثة يتمثّل في أن "تمييز الزمن المقدس عن غيره من طبقات الزمان يتطلب تأصيلا نظريا بالغ الدقة اصطلاحيًا. وهو ما لم نقف عليه في المدونة. ولعله أن يكون مجال بحث مختص، يفتح على امتداد مفهوم الزمان وأبعاد حضوره واستحضاره في سياق المشروع الكلامي الجديد الذي هو بصدد التشكْل". 

في حين أن الدكتور الرفاعي يشير في أكثر من موضع من كتابه عن علم الكلام الجديد إلى الكيفية التي لا يصح فيها تطبيق مناهج البحث العلمي في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقية، وما هو خارج عن الطبيعة مثل الوحي بوصفه حقيقة غيبية ينتمي إلى ما بعد الطبيعة، لذلك لا يصح تطبيق مناهج وأدوات علم النفس وغيره من العلوم في الكشف عن ذات الغيب وتحليل مضمونه ومعرفة حقيقته.                    

 والدكتورة إيمان نفسها تقول، بلغتها التأويلية الزمانية المركبة، أن الأمر قد لا يكون بالسهولة، ولا بالبداهة التي نتوهمها حين يطرح سؤال الزمان بكل شحنته الإشكالية المعقّدة، "فأية زمانية تأويلية يمكن أن تحتوي الواقع في قطبيّات مفاهيمية شائكة، قد لا تؤدي فقط إلى تشويش صفاء عقلنته أو خلخلة ركائز أنسنته المنشودة، إنما إلى جانب ذلك قد يؤدي الاستكشاف الفلسفي العميق إلى التساؤل عن قدرة الخطاب الكلامي الجديد على استيعاب رهانات مطلب الزمانية المركبة والاستجابة له. فإن تعذر ذلك، بقيَ متزمّنا في لحظة إنتاجه، عاجزا عن أن يفيض عليها أو يثريها بلحظات حاضرية الماضي وحضارية المستقبل". والوحي، كما يقول الرفاعي في أكثر من مكان، وعلى نحو فيه تفصيل ووضوح يشير إلى مدى ثبات قناعته، وتسليمه الذي لا يتزعزع بحقيقته المقدسة، "صلة بين عالَم الغيب وعالَم الشهادة تصيّرُ النبي شاهدا للغيب. إنها نحو ظهور للإلهي يتجلى على مرآة البشري، وان كان النبي بوصفه بشرًا يلبث على انتمائه لعالمنا، ولا يفتقد بصلته بالغيب كونَه إنسانا يعيش في الأرض".

وهذا الوضع الإلهي والبشري المزدوج الذي يتمتع به النبي محمد (ص) دون غيره، هو ما يهمّ الدكتور الرفاعي التأكيد عليه وبيانه المرةَ بعد المرة: "النبي من جهة الوحي يشهد عالَم الغيب والشهادة، وبوصفه بشرا يحتفظ بحضوره في عالَم الشهادة، أي يحتفظ بطبيعته التي يشترك فيها مع الكل وتنعكس فيه بشريتُه. ما هو مرآة عالَم الغيب الوحيُ الإلهي، وما يعكس عالم الشهادة الطبيعةُ البشرية، وهذا ما ينكشف بوضوح في القرآن: (قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ).            

وربما لزم أن نذكر هنا أيضًا أن مقدمة الشيخ الرفاعي على علم الكلام الجديد لا تدخل في تفاصيل العلم القديم، ولا تبيّن ما كان لبعض رجاله من آراء ومقالات ومصادرات على آراء معينة لخصومهم أو تطور شهدته بعض مقالاتهم نفسها، والمآلات التراجيدية الحزينة التي انتهت إليها نصوصهم مع أصحابها. مع العلم أن الباحث المعاصر في الفكر الإسلامي على العموم، وفي علم الكلام على الخصوص، يفتقد، كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري: "المصادر الأولى، ولا يتوفر في الغالب، على فكر الرواد الأوائل سوى على ما نقلته عنهم أو نسبته إليهم كتبُ الفرق، وهي متأخرة بقرنين أو أكثر"  

  ولعلّ ما يفسر ذلك هو أن تركيز الدكتور الرفاعي في حديثه عن علم الكلام الجديد يجري على المنهج الذي يهدف إلى البرهنة على ما في الرؤية الدينية الجديدة المركبة من خصوبة وقدرة على دمج الجزئي بالكلي، والمادي بالمجرد. وهو لا يقوم بعرض هذا المنهج بطريقة مجردة، وإنما يبسط فيه، عبر مدونة كتبه وأبحاثه المختلفة، تاريخًا مجملًا للتطور الفكري الذي أدى إلى فشل علم الكلام القديم منذ نشأته الأولى، أو ما وصلنا منه، والحديث المتكئ عليه في تحقيق أغراضه الدينية والأخلاقية الخاصة بسعادة الإنسان وشعوره بالتكامل والانسجام الداخلي مع نفسه ومع خالقه في المجتمعات القديمة والحديثة.                                

قضية خلق القران في المباحث الكلامية المعاصرة

فكرة خلق القرآن المعتمدة على بعض المقولات الكلامية القديمة، واحدة من تلك الأفكار التي تعرضت مع الزمن للإفقار والتحويل. و"من يقرأ ما كتبه مؤرخو الفرق ومنظرو المذاهب، وجميعهم ينتمون إلى القرن الرابع الهجري والقرون التالية له، يجد نفسه أمام نقاش حول المسألة تطغى فيه الناحية العقدية، أي على ما يترتب عن القول بخلق القرآن أو قدمه من نتائج على مستوى تصوّر الذات الإلهية، وما يجب لله سبحانه من التوحيد والتنزيه، أما مضمونها السياسي فقد غيّب تمامًا"، كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه عن المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية.

وهي قضية تعرضت إلى سوء الفهم لدى توظيفها في زمنها توظيفا سياسيًا وأيديولوجيًا متعارضًا، وتشبه من بعض الوجوه قضية الوحي التي تحدثنا عنه في مقال سابق، والذي إذا تركنا جانبًا مجملَ ما كتبه المستشرقون فيها، حيث يجري الميل عندهم إلى التفسير التاريخي الذي ينفي، في غاياته البريئة أو المقصودة، التدخلَ الإلهي المباشر، فإننا نرى أن عددا متزايدا من الكتاب  العرب ينخرطون في بحث قضية الوحي، على نحو لا يختلف كثيرا عما نقرأه في المدونة الاستشراقية المتصلة بهذا الشأن، مع ما قد تتضمنه كتاباتهم من خصوصية تجعل باحثا جزائريا مثل الدكتور محمد أركون، على سبيل المثال، يذهب "إلى زحزحة مفهوم الوحي وتجاوزه، أقصد: زحزحة وتجاوز التصوّر الساذج والتقليدي الذي قدّمته الأنظمة اللاهوتية عنه. نحن نريد أن نزحزحه باتجاه فهم أكثر محسوسية وموضوعية ولكن ليس اختزاليًّا" 

في حين يرى نصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النص)، في الوحي عمليةَ اتصال (ترميزية) تعبر عن نظام لغوي بين مرسِل هو الله سبحانه وتعالى، ومستقبِل هو النبي صلوات الله عليه. وهو يتساءل عن كيفية حدوث الاتصال بينهما وهما من "مرتبة وجودية" مختلفة، ويحاول أن يسلك للإجابة على ذلك منهجا مختلفا، لسانيا، وأدبيًا، ودلاليا، باعتبار أن النص "في حقيقته وجوهره منتج ثقافي .. تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما"  

بينما انشغل الباحث التونسي الدكتور هشام جعيط ببحث العلاقة بين الإنساني والإلهي في أكثر من كتاب من كتبه ليبيّن أنّ الوحي الصائر (قرآنا) يأتي النبيَ (ص) بواسطة جبريل، وأنه ما كان ممكنا أن يتجلى الله سبحانه له. والدكتور هشام جعيط يقارن في ذلك بين الوحي لدى أنبياء بني إسرائيل، ولدى النبي محمد (ص) بواسطة جبريل، وأنه ما كان ممكنا أن يتجلى الله سبحانه بنفسه لنبيّه الكريم. وهو يقارن في ذلك بين الوحي لدى أنبياء بني إسرائيل، ولدى النبي محمد (ص)، فيلاحظ شبها بالخصوص بين النبي موسى والنبي محمد من هذه الجهة.

 وواضح لنا ما يرافق كلام الباحثين العرب المسلمين من تحرّج وحذر وتردد بين الإيمان بصدقية الوحي وقدسيته غير القابلة للنقاش، وبين التشكيك الذي يسلك بعضُ هؤلاء الباحثين فيه طرقًا ملتوية، ملتبسة، مجمجمة، على توسلها المزعوم بالموضوعية والعلم، مع أن أسبابها تبقى مفهومة، بينة؛ وهي نقض الأساس الديني الذي يقوم على حقيقة الوحي، وعدم التسليم بقدسية النص القرآني المرتبط به، والتي لا قيمة لهذا النص دون توفرها.

وكما يقول الباحث المغربي عبد الواحد أية الزين، فإن من شأن البحث عن الوحي أن "يعرض الباحثَ الجاد المحسوب على الثقافة العربية الإسلامية لغربة وجودية داخل المخيال الجماعي للأمة، في حالة قرر مساءلة تاريخه في بداهاته ومسبقاته، ولعل الوحي إحداها، إذ ما الذي يمكن أن يقوله الإنسان بصدده وهو قُتِلَ قرآنا وحديثًا وفقهًا.."

والدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي لا يكلّف نفسه مؤونة عرض كل هذه الآراء ولا مناقشة أصحابها منافشة تفصيلية، يكتفي في كتابة مقدمة في علم الكلام الجديد، بالإشارة إلى جانبي التفسير التاريخي والميتافيزيقي لمفهوم الوحي، ويعكف على إعادة تعريف جذري لمفهوم النبوة من أجل بناء مفهوم الوحي من خلالها، وليكون بالإمكان إعادة بناء صورة الله وصفاته وأفعاله، ونمط صلته بالإنسان، وصلة الإنسان به، وحدود تدخله في حرية الإنسان واختياراته في انتاج علومه ومعارفه، وتنظيم حياته، وإدارة مختلف علاقاته. والكيفية التي يمكن للتعريف الخاطئ للنبوة والوحي المرتبط بها في علم الكلام القديم أن يكون عامل إعاقة لتطور العلم والمعرفة، حين يتخطى هذا التعريف حدوده، فيستولي على المعرفة والثقافة في معاش الناس ومعادهم. (33)           

والنقطة المنهجية المفقودة في خطاب المرجفين والمشككين القدماء والجدد كليهما في هذا الشأن، تبقى هي الخلط بين الوسائل والغايات. ذلك أن دور العلم والوسائل العلمية المرتبطة به يقتصر على تهيئة العقل لما هو أرفع وأكثر سموّا في إدراك الغاية من وجود البشر على هذه الأرض، في حين أن العلم الحقيقي هو الذي يقول الوجود في كليته، ولا يقف عند حدّ ملاحظة ضبط العلم في نفسه وتكامله في ذاته. وبلوغ المؤمن مرحلة اليقين في الإسلام لا يتم إلا عبر التسليم بقدسية الوحي النبوي، والصلة الاستثنائية للبشري بالإهي، والإلهي بالبشري، على النحو الذي بيّنه الشيخُ الرفاعي في الفقرة السابقة. وما يقوله علم الكلام الجديد عند الرفاعي من أن "النبي ليس شاعرًا، ولا كاهنا، ولا متنبئا، ولا متأملا يقوده تفكيره لمقام النبوة" هو الرد المباشر والضمني على آراء من هذا النوع ذكر بعضها ولم يذكر البعض الآخر، كما يشير: "النبيُّ نبيٌّ وكفى. لا يتمثل الوحيُ بمشاهدة النبي لأحلام في النوم، أو صور ينسجها خيال النبي، أو حالة نفسية، أو محصلة ارتياض صبور، أو تأملات عقلية. التفسيرات من هذا النوع تهبط بمقامه، ولا تنتبه للتكامل الوجودي الذي تسامى إليه النبي وانفرد فيه. الوحي حقيقة أصيلة تعكس تكاملا في وجود مَن يتلقاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية بالله".

 وواضح هنا أن مشاهدة "الأحلام" في النوم، والصور التي ينسجها "خيال النبي"، و"التأملات العقلية"، و"الحالة النفسية"، وما يقرب منها ويتصل بها هي الخلاصة التي يدور حولها ما يقوله المشككون من عرب وأجانب في تفسير نبوّة النبي بطرق وتعبيرات مختلفة تهدف إلى إنزال السماوي إلى الواقع التاريخي المحسوس. وهو، كما ألمعنا إلى ذلك، شرط قبلي حاسم في المدونة الكلامية الجديدة، على الرغم مما يمكن أن يثيره من مشكلات نظرية وإجرائية.  

والدكتور الرفاعي يعقد مبحثا خاصًا لعرض ومناقشة "الرؤى الرسولية" للدكتور عبد الكريم سروش، لكي يظهر مدى تهافتها وعجزها عن إدراك حقيقة النبوة التي لا يمكن أن يبلغ مرتبتها إلا من تسامت كينونته الوجودية وتحقق بكمال استثنائي يؤهله للمقام الإلهي، وأن الأحلام التي يريد هذا الباحث الإيراني أن يفسر بها ما ورد في القرآن من مشاهد القيامة وقصص الأنبياء وغيرها، لم يكن النبي محمد (ص) ناقلا لأخبار تلقاها، بل كانت أحلاما ورؤى وقعت له وشاهدها مباشرة في منامه!

و(القول الثقيل) الذي عجزت الجبال عن حمله واستطاع نبيُّ الإسلام الاطلاع به وتبليغه لا يمكن أن يتحول إلى مجرد حلم أو رؤيا يراها النائم في المنام. والمبحث الذي يعقده الرفاعي في هذا الكتاب لتفسير الآية 5 من سورة المزمل (إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلا)، يكتسب تمام معناه وتأويله لدى معرفة معنى التكليف وما فيه من مشقة، واستعداد النبي محمد وقدرته الاستثنائية غير المشكوك فيها على ذلك. إذ "الإنسان لا يبلغ مرتبة النبوة إلا إذا تسامت كينونته الوجودية وتحقق بكمال استثنائي يؤهله لهذا المقام الإلهي، فلا يمكن أن تكون الرؤى في المنام وسيلة لتكامله وبناء استعداده الوجودي لمقام يؤهله لتحمل الوحي وتلقيه".             

وأخيرا، لا أجد مندوحة من القول بعد هذا العرض السريع لكتاب (مقدمة في علم الكلام الجديد)، إنني لا أعرف تماما السبب الذي أجد فيه أن مداومة الاطلاع على شيء من مدونة الدكتور عبد الجبار الرفاعي الكلامية المتشعبة يحرّك فيّ عرقًا داخليًا نابضًا بالحب والتفاعل الذي تثيره حرارة كلماته، وصدق لهجته، والنقاء الذي يترقرق تحت الإهاب الموحد لعبارته، وما لا أعرفه من أسرار تجعل من كتاباته درسًا مؤثرًا، معلّما ومغيّرا، لا مجرد نماذج من كتابات نظرية ومعرفية قديمة ومعاصرة اعتدنا قراءتها والمرور عليها دون أن تسترعي انتباهنا للتوقف عندها والتفكّر فيها.           

 ولعلّ ما قاله الدكتور الرفاعي عن الشاعر الباكستاني محمد إقبال من أن "روحه ظلت تكتوي بآلام المسلمين في موطنه وعالم الإسلام؛ والشاعر بطبيعته الانفعالية مفرطةِ الحساسية لا يغويه العمل الفكريُّ الذي يتطلب صمتًا متأملًا وجلَدا متريثا، وصبرا طويلا. ولعلّ انهماك إقبال في تأسيس وطن قومي للمسلمين في باكستان، واختصار كل أحلامه في ذلك الوطن.."

 أقول لعلّ هذا الوصف ينطبق، في جوانب منه، على الدكتور الرفاعي نفسه، مع أنه ليس شاعرًا بغير إحساسه وكلماته وروحه المتأمل والمتكلم، الذي أرد أن يرسم لقرائه ومتابعيه خارطة طريق، ويدلهم على وطن من نوع آخر، تتسع جغرافيتُه الروحية الواهبة للأمل لكلّ المصابين بقلق العصر وأمراضه، والخائفين من نهاية وخاتمة خالية من المعنى، والمهدّدين بالموت في الحياة، وكلّ أولئك الذي كان جان بول سارتر يسميهم بالأنذال coquins من الذين يولدون ويعيشون ويموتون دون أن يطرحوا الأسئلة الخاصة بمعنى وجودهم في هذه الحياة الدنيا.

***

د. ضياء خضير - كندا

 

في المثقف اليوم