أقلام فكرية

أسعد عبد الرزاق: في أفق فلسفة الأخلاق

الوجدان كمرجعية في تأسيس القيمة الأخلاقية

شهدت فلسفة الأخلاق عبر تاريخها الطويل نقاشات ثرية وجدلًا معمّقًا حول الأسس المعرفية التي تستند إليها القيم الأخلاقية، السؤال المركزي الذي ظل حاضرًا هو: ما مصدر إلزامية الأحكام الأخلاقية؟ وهل تستند في مشروعيتها إلى العقل وحده أم أن هناك مصادر أخرى تشارك في تأسيسها وتبريرها؟

لقد انطلق كثير من المدارس الفلسفية من العقل بوصفه المرجع الأعلى في الحكم الأخلاقي. مستندة إلى ما يُعرف بـ"العقل العملي" الذي يرى أن بإمكان الإنسان أن يدرك الخير والشر من خلال التأمل المنطقي المجرد، إلا أن هذا التصور العقلاني الصارم لم يخلُ من إشكالات، خصوصًا حين واجهت التجربة الأخلاقية واقعًا أكثر تعقيدًا، إذ تتداخل الانفعالات والدوافع الوجدانية وتفاعلات النفس البشرية، ومن هنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للوجدان الإنساني أن يكون مرجعًا أصيلًا في بناء الحكم الأخلاقي؟ وهل الشعور الداخلي قادر على منح القيمة الأخلاقية معناها الحقيقي ومكانتها الإلزامية؟

في هذا السياق، يمكن الاستئناس برؤى عدد من المفكرين الذين تجاوزوا المقولات العقلية الصرفة، فديفيد هيوم، رائد التيار الحسي في الفلسفة الأخلاقية، يرى أن المشاعر والوجدان - وليس العقل - هي ما يحكم على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، ففي كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية"، يبيّن أن الأخلاق تُبنى على "انفعال الاستحسان" لا على استدلالات منطقية باردة، الشعور إذن، وليس التفكير العقلي المجرد، هو ما يحرك الإنسان نحو الفعل الخيّر أو ينفره من الفعل الشرير.

كما أن ابن سينا، من موقعه الفلسفي والطبي، لم يفصل بين الشعور والعقل، بل شدّد على ضرورة تفاعل الوجدان الداخلي مع العقل في الحكم الأخلاقي. فالسعادة والفضيلة، كما يرى، لا تتحققان إلا إذا امتلك الإنسان وعيًا باطنيًا يُعيد تنظيم قواه النفسية ويرشد سلوكه وفق تجربة حياتية متكاملة، انطلاقًا من هذا الفهم، يصبح من الممكن القول إن التفاعل الوجداني مع القيمة الأخلاقية يمنحها طاقة داخلية تتجاوز منطقية العقل وحده، وتفضي إلى غائية تتصل بعمق الوجود الإنساني واحتياجاته الوجودية والمعنوية.

إن الإنسان لا يحيا فقط بالعقل، بل هو كائن وجداني يعي ذاته من خلال الألم والفرح والحزن واللذة، وكلها مشاعر تُسهم في تشكيل حسّه الأخلاقي وتحديد مسارات سلوكه، ومن هنا تظهر أهمية نقل مركز الثقل في دراسة الأخلاق من مجرد البناء المفاهيمي النخبوي إلى واقع النفس الإنسانية وتطلعاتها للمعنى والقيمة، فحين نُعيد وصل القيمة الأخلاقية بوجدان الإنسان، فإننا نُقرّ بوجود نوع من "الشهود القيمي" الذي يُختبر في التجربة اليومية، ويسهم في كشف القيم الأكثر لزومًا وجدوى في سياقات الحياة المختلفة.

الواقع بوصفه مختبرًا للقيم:

تتبدّى أهمية "الواقع" كمجال أساس لاختبار القيم، فبدلًا من ترديد مفاهيم مجردة حول الخير والشر، يُمكن للفعل الأخلاقي أن يُفهم من خلال أثره في حياة الإنسان ومعنى حضوره في ظرفه الزمني والمكاني، هنا تتقدم الحاجة إلى التجربة الواقعية على التنظير العقلي؛ لأن الوجدان المتفاعل مع مشكلات الحياة اليومية قد يكشف عن حاجات قيمية ملحّة لا يعبّر عنها العقل بمفرده.

إن الفهم العميق للقيم الأخلاقية يُشدد على أهمية التجربة الفردية والجماعية، إذ تلعب الخلفيات الثقافية والاجتماعية دورًا حاسمًا في تحديد كيفية تفاعل الأفراد مع القيم، فكل ثقافة تحمل مجموعة من المبادئ والأخلاق التي تتفاعل مع الواقع بطريقة خاصة، ما يعني أن القيم ليست متجانسة أو عالمية دائما بل تتأثر بالبيئة.

البعد الوجداني في عصر التقدم:

واحدة من أهم النتائج المتوقعة من إعادة الاعتبار للوجدان في تقييم القيم الأخلاقية هي قدرة هذه القيم على الفاعلية في أزمنة متغيّرة وظروف متعددة، القيم الأخلاقية، وإن بدت من حيث الجوهر ثابتة، فإن الحاجة العملية إليها تتفاوت تبعًا لتحولات الحياة، على سبيل المثال، قد تتنامى الحاجة إلى أخلاقيات التضامن في أزمنة الأزمات، كما رأينا في فترات تفشي الأوبئة أو الكوارث البيئية، بينما تظهر أخلاقيات العمل والمهنية في زمن الازدهار الاقتصادي والتوسع التقني.

بذلك، فإن ارتباط القيم الأخلاقية بالواقع الاجتماعي والإنساني يُظهر كيف أن القيم تتطلب نمطًا من الفهم يعكس التغيرات المستمرة، وهذا يبرز أهمية الحوار بين الأجيال حول ما تحتاجه المجتمعات من قيم أخلاقية لتوجيه سلوكيات الأفراد واستجابتها للتحديات المعاصرة.

أزمة القيم في البيئات الإسلامية:

لكن التحدي الأكبر في هذا السياق يظهر حين تُستدعى القيم من التراث استدعاءً اعتباطيًا لا يُراعي واقع الإنسان ومتغيراته، وكما عبّر محمد إقبال، فإن كثيرًا من القيم في تراثنا ما زالت "أجنة"، لم تكتمل حيوتها، إما بسبب غياب تفعيلها في الواقع أو بسبب تحويلها إلى شعارات خطابية فاقدة للجدوى العملية.

ما يحتاجه الخطاب الأخلاقي المعاصر في بيئاتنا الإسلامية هو وعي نقدي تشخيصي قادر على قراءة الواقع لاجتراح القيم الأكثر فاعلية فيه، بعيدًا عن الانغلاق في سرديات الماضي أو استنساخ نماذج أخلاقية دون مراعاة لحاجات العصر.

تجربة الغرب: بين الفاعلية والنقص الإنساني:

وفي المقابل، تُظهر تجربة المجتمعات الغربية بعدًا مهمًا في استخدام القيم، إذ تم تفعيل قيم العمل والمهنية والانضباط لتحقيق التقدم الصناعي والتقني، غير أن هذا النجاح جاء أحيانًا على حساب جوانب إنسانية أخرى، مثل العلاقات الأسرية والاجتماعية، بينما احتفظت بعض البيئات العربية بقيم اجتماعية نبيلة، لكنها لم تُترجم إلى ديناميكية إنتاجية أو أخلاقيات مؤسسية قوية.

يمكن القول إن التفكير في القيمة الأخلاقية من خلال العقل وحده يُضيّق من أفق الفهم، بينما يمنحها الوجدان بُعدًا إنسانيًا حيويًا يجعلها أكثر التصاقًا بالتجربة الواقعية. وليس المقصود بالوجدان هنا العاطفة المنفلتة، بل تلك البصيرة الباطنية التي تتشكّل من خلال التجربة، والمعاناة، والتفاعل مع الحياة.

ومع الاعتراف بدور العقل في تحليل المواقف الأخلاقية، فإن استدعاء الشعور والوعي الوجداني يُعيد للأخلاق معناها الحيّ والملزم في آن واحد، والأخلاق ليست مجرد مجموعة من القواعد الثابتة والميتة، بل هي تشكّل مستمر يستجيب للتحديات الجديدة ويتفاعل مع التغيرات الاجتماعية، بالنحو الذي يعزز القيم الأخلاقية العليا الثابتة.. إذ أرجح أن القواعد الأخلاقية متغيرة، في حين تبقى القيم الأخلاقية العليا ذات ثبات فطري إنساني عصي على التغيير أو الإلغاء.

في الختام، نتبين أن الوجدان يشكل عنصرًا أساسيًا في بناء القيم الأخلاقية، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية واحتياجات الأفراد والمجتمعات، فكلما نجحنا في ربط الأحكام الأخلاقية بوجدان البشر، كلما اقتربنا من إنشاء بيئة خُلقية أكثر وعيًا وشمولية، وعلينا أن ندرك أن الأخلاق تحتاج إلى زخم شعوري يساند المعرفة العقلية، لخلق مسار يتسم بالفاعلية والالتزام في عالم دائم التغير.

***

د. أسعد عبد الرزاق

في المثقف اليوم