أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: أوجه الاختلاف بين نيتشه وشوبنهاور

هل المعاناة شيء يعيقنا ام انها تساعد على المضي قدما؟ شوبنهاور يبحث عن حل للمأزق، بينما نيتشه يصر باننا نستطيع استخدامها بطريقة فعالة. هل الحياة تثقلنا، ام انها مغامرة يجب القبول بها؟ نيتشه وشوبنهاور يختلفان بعمق حول معنى الوجود وطبيعة المعاناة الانسانية. شوبنهاور، المتشائم أصلا، اعتقد ان الحياة وبشكل حتمي جلبت لنا الألم والعذاب وان أحسن طريقة للتعامل معها هو ان نتجنب الارتباط بهذا العالم وبؤسه. نيتشه اقتنع بنصف الكأس المملوء. هو اعتقد ان المعاناة ضرورية لتحفيز الذات على التطور: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى". لنستطلع الان أفكار كلا الفيلسوفين.
تشاؤمية شوبنهاور: الحياة كمعاناة
لو تتخيّل الوجود كدائرة لامتناهية من الرغبات. انت دائما تسعى نحو شيء ما، لكن بمجرد حصولك عليه ستحل رغبة اخرى محل الاولى. هذه رؤية شوبنهاور حول العالم. جوهر فلسفته هي الرغبة: دافع أعمى غير عقلاني يحفز كل الاشياء الحية. نحن نعتقد اننا نتصرف لأسباب جيدة، لكن في الحقيقة نحن فقط نطيع أوامر هذه القوة الخارجة عن السيطرة، التي لا يمكن إشباعها ابدا، وبهذا نحن دائما نريد الكثير.
بالنسبة لشوبنهاور، المعاناة تعرّف واقع الانسان. صحيح، نحن نستطيع احيانا ان نكون سعداء – لكن هذا الشعور سوف لن يستمر، في أفضل الاحوال، سيكون انقطاعا مؤقتا في نوع معين من الألم بانتظار وصول ألم جديد.
لننظر في الجوع: انت تتناول طعام وتشعر بالرضا، لكن بعد وقت قصير ستعود الآلام. الان تخيّل هذا النموذج يحدث في جميع رغبات الانسان نحو (الحب، النجاح، الأمن): الحياة تصبح تمرينا في الشعور بالاحباط. كيف يمكننا الخروج من هذا المأزق؟ شوبنهاور اقترح ثلاثة مسارات:
1- الزهد – التخلي عن الرغبات (كما يفعل الرهبان).
2- الفن والموسيقى – الانغماس لحد الضياع في شيء جميل ينسى فيه المرء ذاته ولو مؤقتا.
3- التعاطف compassion – ادراك ان كل فرد مبتلى بالرغبات ومن الافضل المساعدة ليعم الخير ويصبح الجميع في أفضل حال.
في البوذية، هناك النيرفانا وهي بلوغ حالة تزول فيها الرغبة. هذه تشبه الحالة عند الرواقيين عندما ذكر ماركوس ارليوس ان المرء يجب ان لا يكون مختلفا في أي شيء عدى الفضيلة.
لكن على خلاف اولئك الفلاسفة في العصور القديمة، شوبنهاور لا يقدم رسالة مبهجة حول الطريقة التي نكون بها سعداء، يقدم فقط افكار حول كيفية الفهم الأفضل للمعاناة والغاية منها.
تأكيد نيتشه: الحياة كإرادة للقوة
اعتقد شوبنهاور ان المعاناة يجب تجنبها مهما كانت الكلفة طالما هي توقعنا في الفخ. نيتشه رفض ذلك: هو اعتقد ان الألم احيانا يكون مفيدا بل وضروريا.
الرياضي يشعر بعدم ارتياح شديد اثناء اللعب لكنه يستمر لأنه يريد الفوز، الفنان يشعر بحزن كبير لكنه يستعمله لخلق شيء جميل. بالنسبة لنيتشه، ايضا، المعاناة شيء ثمين: لأنه من خلال العمل في تجارب شاقة، يصبح المرء شخصا أفضل.
نيتشة لا يعتقد ان الناس يجب ان يرفضوا الحياة ويفضلوا التعاسة على نيل هدف معين (موقف الزهد). لكنه ايضا لم يكن مهتما في التظاهر ان كل شيء على ما يرام. هو اعتقد ان الفن العظيم يمكنه ان يبيّن وحشية الواقع، ولايزال يجعل الحياة تستحق العيش.
هو اعتقد ان شوبنهاور كان سلبيا جدا. الحياة ليست ان تكون منفصلا وانما في البقاء مشاركا، تقبل الصراع ولديك رأي في التعامل مع الاشياء. نيتشه طرح سؤالا: هل تريد ان تتجنب المعاناة، ام تريد ان تكون جيدا في التعامل معها؟ رؤيته الخاصة قوية وواضحة: الناس الذين يعيشون حياة مقنعة لا يترددون في مواجهة التحديات. هم يأخذونها على محمل الجد.
الأخلاق ومشكلة التعاطف
عندما نأتي الى الاخلاق، يقول شوبنهاور ان هناك فقط شيئا واحدا جيدا: العاطفة (هو اسماها Mitleid). اذا انت تريد ان تعيش حياة جيدة، هو اعتقد، يجب ان تكون رقيقا عندما يعاني الاخرون من ألم.
لأنه اذا كان كل الناس يهتمون بانفسهم، عندئذ لا احد يساعد الاخر، وسينتهي بنا الامر نعيش في تعاسة اكبر. لكن التصرف بدافع الاهتمام بالاخرين يمكن ان يربطنا معهم، وان تقاسم المعاناة هو أقل سوءا من الذهاب معها وحيدا. هذه الطريقة في النظر الى الاشياء لها بعض الارتباطات مع الاخلاق البوذية . نيتشه ربط هذا النقد بالمسيحية، زاعما ان الاخلاق المسيحية صُممت لتمجيد الضعف: انها "اخلاق العبيد".
هو ما كان يرغب ان يرى الناس يشعرون بالاسف تجاه بعضهم – الشعور الذي ربطه بالايمان برحمة الله. هو اراد الافراد ان يتخلوا عن فكرة الشفقة وبدلا من ذلك يحفزوا انفسهم والاخرين "ليصبحوا هم كما في ذاتهم".
اليوم، نرى نفس الشكل لكن بتعبيرات أكثر أهمية: هل يجب على الناس جعل الاشياء افضل لاولئك الذين في الأسفل (رؤية شوبنهاور حول الرفاهية) ام تشجيع الناجين على التفوق؟ (انه يبقى سؤالا مفتوحا في السياسة، والمساعدة الذاتية، وحقول اخرى).
الفن ودور الجماليات
نظر شوبنهاور للفن باعتباره اكبر من مجرد وسيلة للتعبير عن الجمال. هو يراه ايضا طريقة للهروب. بما ان التجربة ذاتها مليئة بالألم، كما اوضح، فان المرء يستطيع فقط العثور على الراحة عبر تحرير نفسه مؤقتا من الاضطراب الدائم للرغبة الكونية. متى مانستمع للموسيقى، ندرس اللوحة، او نقرأ القصيدة، نحن نلمح شيئا أعمق: الحقيقة التي تكمن وراء رغباتنا واحباطاتنا اليومية.
هو اُعجب خصيصا ببيتهوفن لخلقه أعمالا ذات قوة مذهلة تحمل الذهن الانساني خارج الاهتمامات اليومية – ولو لفترة قصيرة. نيتشه كانت له رؤية مختلفة. الفن، كما يرى، يجب ان لا يكون حول الهروب من صعوبات الحياة. بدلا من ذلك، يجب التعامل مع الصعوبات وجه لوجه واعطائها معنى. في النهاية الفن العظيم حقا لا يحمينا من قسوة العالم، بل يمكّننا من مواجهة ما هو مروّع بطريقة نستطيع ان نتماشى معه.
هو كان من محبي التراجيديا اليونانية، التي لم تُنكر فيها المعاناة وانما جرى استطلاعها كمظهر اساسي للحياة. التراجيديا لا تبيّن لنا طريقا للخروج، انها تبيّن لنا كيف نواجه الحياة بشجاعة. كان ريتشارد واغنر Richard Wagner هو عازف نيتشه المفضل، خاصة في الاوبرا المبكرة، حيث القوة، الصراع، والبطولة التي جرى التعبير عنها عبر الموسيقى. أعمال واغنر، طبقا لنيتشه، هي توضيحات غير مشوهة لإرادة القوة: انها تحتفل بالحياة بكل شغفها.
لذا، هل يجب ان يقدم الفن ملاذا من المعاناة (كما يعتقد شوبنهاور) – ام انه يساعدنا لتحويل المعاناة الى شيء ما نحتفل به (كما يرى نيتشه)؟ جدالهما لازال يؤثر في ما اذا كنا نعتقد اليوم ان الموسيقى والادب والابداع يجب ان تريحنا ام تتحدانا.
السؤال النهائي: احتضان الحياة ام الهروب منها؟
في جوهر النقاش حول نيتشه مقابل شوبنهاور يبقى سؤالا واحدا شموليا: هل يجب ان نؤكد ونقبل الحياة، ام يجب ان نتغلب عليها ونتركها خلفنا؟ شوبنهاور يرى ان الكائن المتنور يجب ان ينسحب من العالم. طالما ان العالم مليء بالمعاناة فان أفضل شيء يمكن عمله هو فك الارتباط بالرغبة، وعدم الكفاح، وعدم المنافسة. الرهبان الزاهدون والصوفيون الذين تخلوا عن الملذات الدنيوية كانوا المثال الرائع له . بالنسبة له، الوجود ليس شيئا يجب التغلب عليه، انه اكثر من شيء يمكن فك التشابك معه. نيتشه عارض تماما اتجاهه السلبي. بدلا من تجاهل الوجود، حسب قوله، الشخص الأقوى يحتضن محنه وانتصاراته. الكفاح هو الذي يحصّن، والألم ليس لعنة وانما مصدر للنمو. ولكي يختبر هذا، اخترع نيتشه فكرة العود الابدي: اذا كانت كل حياتك يجب ان تُعاش مرة بعد مرة، وبالضبط في نفس الشكل، والى الابد هل ستكون مسرورا بذلك؟ اذا كان الجواب كلاّ، عندئذ فان شيئا ما يحتاج تغيير – نحن يجب علينا اعادة تشكيل حياتنا بحيث نحبها الى الابد.
هذا التباين بين الفيلسوفين يعرّف رؤيتيهما:
1- زهد شوبنهاور = التخلي عن الرغبة، السلام، وعدم المشاركة
2- بطولة نيتشه = الكفاح، السيطرة، والتجاوز
اذن، ما هي طريقة الاختيار؟ التخلي ام الاحتضان. هذا هو أعظم مأزق تركاه لنا.
الإرث والتأثير: اي رؤية هي الفائزة؟
شوبنهاور ونيتشه كلاهما تركا تأثيرا دائما على الفلسفة، لكن العالم الاوسع تأثر بميراثهما بطرق مختلفة. فرويد كان قد تأثر بعمق بشوبنهاور. هو طور علم النفس انطلاقا من فكرة ان الكائن البشري مندفع برغبات لاواعية، مشابهة للرغبة العمياء لشوبنهاور. واغنر وجد فكرة شوبنهاور في ان الموسيقى يمكن ان تسمح للناس بإلقاء لمحات وراء المعاناة فكرة ساحرة – ألهمت أعظم أعمال الاوبرا. تولستوي والمفكرون الغربيون الذين تأثروا بالبوذية ايضا احتضنوا تشاؤمية شوبنهاور: الايمان باننا نعيش في أسوأ عالم ممكن . البعض يرى ان الانفصال عن الرغبات كطريق للحكمة. في الفن، يمكن النظر الى تأثيره في الاعمال البسيطة minimalist works التي تركز على الجمال ولا تهتم كثيرا في العالم التي حولها.
تشاؤميته الفلسفية التي يتردد صداها اليوم، قادت العديد للبحث عن سلام داخلي (عادة من خلال التأمل)، الابتعاد عن الاستهلاكية، او احتضان العزلة.
لكن نيتشه كان له تأثيرا أكبر على العالم الذي نعيش به اليوم. افكاره حول التغلب على الذات، كونك فرد، وخلق قيم جديدة كان لها التأثير الكبير على الوجودية (سارتر وكامو) وما بعد الحداثة (فوكو ودولوز) – حتى اشخاص مثل خبراء المساعدة الذاتية او مدراء القيادة مدينون له.
ربما هما صائبان كلاهما. هذه الايام، هل لانزال نؤمن ان المعاناة شيء يمكن التخلص منه بكل ثمن، ام انها اصبحت مجرد تحدّ آخر قد يكون مفيدا لنا؟
بالنهاية، انت فقط منْ يقرر كيف تعيش مع الحقائق غير المريحة التي نواجهها اليوم. هل تريد ان تكون مثل شوبنهاور وتحاول العثور على الهدوء (بينما تتجنب معظم الاشياء)؟ ام تتبنّى رؤية نيتشه: تحتضن الحياة بكل ما فيها من فوضى وتحاول خلق شيء هاما؟
***
حاتم حميد محسن
.......................
The collector: July21, 2025