أقلام فكرية
مودة جمعة: قراءة في كتاب نظام الخطاب عند فوكو
يُعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أحد أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، ومن أبرز الوجوه الفكرية في تاريخ فرنسا، تمركزت أعماله في الكشف عن العلاقة بين السلطة والمعرفة، وتحليل الخطاب بإعتباره آلية من آليات السّلطة، ويتضح مشروع فوكو الأساسي في كتابه " الكلمات والأشياء" الذي يعتبر أهم كتبه والذي كشف فيه ؛عن لا تواصلية الفكر المعرفي الغربي (القطيعة المعرفية)، مبيّناً مقدرة العقل البشري على إكتشاف الأنظمة المعرفية المرتبطة بكل حقبة زمنية منفصلة عن ماقبلها ومابعدها، مايميّز فوكو عن سواه هو تفكيره في اللّا مفكر فيه؛ وهي جملة من القضايا التي لم تكن تشغل معاصريه وهذا ما أكسبه فُرادته وتميّزه. نشر العديد من الأعمال المهمة في تاريخ الفكر إبتداءً من "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” 1961 والذي يعد باكورة أعماله، تاريخ العيادة، المراقبة والعقاب، حفريات المعرفة، المعرفة والسلطة. وتعتبر أعماله من أكثر المراجع الذي يتم الإستشهاد بها.
الخطاب عند فوكو:
إذا كان الخطاب يعرّف على أنه سلسلة من العبارات والمقولات، المفاهيم والإشارات والدّوال، التي تصدر عن منتج للخطاب وتستند على أوتستثمر رأس مال رمزي للتعبير عن أيديولوجيا محددة، ليصل إلى مجال تأثير مُحدد في البناء، كما أنه مجموعة من الممارسات التي تسمح بتمرير الأفكار عبر المجتمع، مع إختلاف تمظهراته سواء كان مكتوباً، شفاهياً، نثراً أو شعراً . فإن فوكو وبخلاف مايعتقده كثيرين لايفسّر الخطاب من وجهة تحليلية لتوضيح المقاصد والدّلالات التي يحويها الخطاب؛ بل يعمل على تفكيكه وهو ما أشتهر عنه بوصفه فيلسوفاً تفكيكياً*، ومن ثم التعامل معه كمكون مادي له آثاره وسلطاته التي تحدث تأثيرها الإجتماعي. وكما ذُكر آنفاً فإن الخطاب يسمح بتمرير الأفكار عبر المجتمع، ومن هذا المنطلق فإن ميشيل فوكو يتناول الخطاب كاشفاً عن : الشّروط والإجراءات والقيود التي تجعل من أي خطاب مقبولاً وتتيح له إمكانية الوجود، وعن تلك التي تمنع وجود خطابات أخرى. مبيناً أن الكلام ليس بالأمر السهل وأن كثرة الخطابات باتت تمثل خطورة، متسائلاً عن ماهية تلك الخطورة " أفترض أن إنتاج كل خطاب في كل مجتمع،هو في نفس الوقت إنتاج مراقب، منقّى، ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته، ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة، إننا نعرف طبعاً في مجتمع كمجتمعنا، إجراء الإستبعاد. أكثر هذه الإجراءات بداهة، وأكثرها تداولاً كذلك هي المنع، إننا نعرف جيداَ أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل ظرف، ونعرف أخيرأً ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان. " (1) . بمعنى آخر فإن كل خطاب في أي مجمتع لايتم إنتاجه بحرية تامة ؛ إذ أن هنالك مجموعات من الضوابط والقوانيين التي تتحكم في إنتاجه، وتجعله محكموماً بسياق محدد، ومرجعيات وأهداف قبل خروجه في شكله النهائي. وذلك لأن أي خطاب مرتبط إرتباطاً مباشراً بالسلطة، بإعتباره وسيلة للسلطة وإمتلاكه يعني إمتلاك الأخيرة.
لقد أسّس فوكو علماً منفرداً للخطاب، وحدّد فيه مجموعة من القواعد والضوابط الداخلية والخارجية التي تتحكم في إنتاج خطاب حُر شفّاف، وأول هذه الضوابط، هو المنع، حيث أننا نعرف أن في كل مجمتع هنالك ماهو مسكوت عنه أو ما لايجب الحديث عنه، وهنالك العديد من المواضيع التي أُحكِم السياج حولها لحساسيتها، منها ماهو سياسي، ومايتعلق بالجنس، حيث أن الخطابات هنا لاتنتج محايدة وشفافة لإرتباطها بالسلطة والرغبة. وثاني هذه الإجراءات هي الإبعاد عن طريق القسمة (القبول والرفض) وبتوضيح أكثر، تقسيم الخطاب الى خطاب صادر عن عاقل، وخطاب صادر عن غير العاقل (المجنون)** حيث أن خطاب العاقل محط قبول وتقدير لكونه صادر من شخص بكامل أهليته، أما الخطاب الصادر عن مجنون فلا ينظر إليه ولايعطى له إعتبار، وقد توسع فوكو في هذا الإجراء مشيراً الى أن كلام المجنون أو الحمقى كان ينظر إليه في فترة من الفترات في تاريخ أوربا على أنه كلام لايعبر إلا عن الحقيقة، وأنا الحُمق مرتبط بروح متعالية لذلك كان محط تقديس وتبجيل في عصر النهضة، وفي الفترات التي تلته أصبح كلام لايلتفت إليه ويسقط في العدم، وظل كلامًا مستبعداً، لأنه حديث لاقيمة له، وقد كانت عملية القسمة تتم بناءًا على ما تفوه به.
أما الإجراء الثالث والأخير من الإجراءات الداخلية فهو إرادة الحقيقة" التميز بين الحقيقة والخطأ. ويتساءل فوكو" كيف يمكننا أن نقارن مقارنة معقولة إجبارية بقسمات كهذه، قسمات قد تكون جزافية في البداية، أو على الأقل تنتظم حول عوارض تاريخية، قسمات لاتعتبر فقط قابلة للتغير ولكنها في حالة تنقل مستمر، قسمات قد تحملها منظومة كاملة من المؤسسات بحيث تفرضها وتقودها، وهي الأخيرة قسمات لاتمارس بدون إرغام ولابغير قسط ولو ضئيل من العنف" (2) يوضح فوكو في هذا الإجراء أن المحكوم بالكشف عن الحقيقة أو الخطأ القابع في الخطاب في معضلة حقيقة، وهو أن الحقيقة غير ثابتة وأنها قابلة للتغيير والتعديل لإرتباطها بمتغيرات تاريخية؛ فما هو صحيح اليوم قد يصبح غداً خاطئ، فالحقائق العلمية والمعتقدات السياسية، الدينية..... الخ قد تتغير أيضاً مع الوقت، مع العلم أن هذه الخطابات التي تبدو حقيقة في أي آن وحاضر تستمد حقيقتها من الدعم الذي تقدمه المؤسسات التي تقودها، وهي المؤسسات المرتبطة بالسلطة.إضافة لهذه الإجراءات الخارجية التي تمارس على الخطاب، المتعلقة بالسلطة والرغبة، حدد فوكو أيضاً الضوابط والإجراءات التي تعمل على تصنيف وتوزيع الخطاب من الداخل، وأول هذه الإجراءات التعليق، حيث أنه في كل مجتمع، مجال، حقل معين نص أساسي، أو كما يجدر القول خطاب أساسي تتناسل منه مجموعة من التعليقات أو الخطابات الأخرى التي لايمكن أن تخرج في فحواها عن مضمون الخطاب الأصلي، سواء كان نص ديني، سياسي، قانوني، علمي، فلسفي، بمعنى أن تفسير أو تأويل كل نص منفتح على عدد غير محدد من القراءات والتأويلات التي يجب أن لاتخرج عن النص الأساسي. ويعبّر فوكو عن ذلك " إن التعليق ليس له دور، مهما كانت تقنياته المستعملة، سوى أن يقول في الأخير ماكان منطوقاً به بصمت هناك، يتعين على التعليق وفق مفارقة يغير هو موقعها دوماً، وإن كان لايفلت منها أبداً، يتعين عليه أن يقول لأول مرة، ماكان قد قيل من قبل، وأن يكرر بلا ملل مالم يكن قد قيل أبداً" (3). أما ثاني هذه الإجراءات هو المؤلف بإعتباره مبدأ لتجميع الخطاب، وكوحدة وأصل لدلالات الخطابات وبؤرة لتناسقها، إذ أن الخطابات تعطى معانيها من معرفة مؤلفها في شتى ميادين الأدب، الفلسفة والعلوم، غير أن هذا المبدأ لايعمل به في أي مكان بكيفية ثابتة، وقد أشار فوكو على أنه في القرون الوسطى كان معرفة إسم المؤلف يعطي قيمة للنص، وأن النصوص في ذلك الوقت كانت تستمد قبولها وأحقيتها من إسم مؤلفها، إلا أنه في القرن السابع عشر أخذت هذه السمة في الإنمحاء، ولم يعد يعمل به من أجل إعطاء إسم معين لنظرية ما، في المجال العلمي، غير أن وظيفة المؤلف في المجال الأدبي تضاعفت أهميتها على خلاف ماكان في القرون الوسطى، حيث أن معظم النصوص مجهولة القائل، وباتت معرفة إسم المؤلف ذات إهمية، إذ أنها باتت تقود للعديد من الأسئلة، على شاكلة من أين أتت، من هو كاتبها، ويطلب من المؤلف أن يحمل معه المعنى الخفي الذي يخترق هذا النصوص، وأن يربطها بحياته الشخصية وماعاشه من تجارب، فالمؤلف هو من يعطي اللغة مظاهر وحدتها، وبؤرة تماسكها، واندراجها في الواقع.
وثالث الضوابط والإجراءات الداخلية التي تعمل على تشكيل وإبداع الخطاب هي الضوابط المتعلقة بالفروع العلمية، حيث أن لكل فرع علمي، ضوابطه، أدواته، منهجياته المتبعة واللازمة في عملية التحليل، وأن الكاتب داخل أي حقل علمي مُلزم بقواعد ومحددات الفرعي العلمي المُحدد، وأن العمل خارج هذه القواعد تجعل الخطاب وإن كان ذو نتائج صحيحة، خطاباً ممسوخاً لكونه خطاب لايندرج تحت الشروط العلمية التي تعمل على إنتاجه، بإعتبار إن الخطأ في الفروع العلمية ضمن قواعدها وضوابطها ومناهجها أهم من الحقائق الممسوخة، تلك التي قد تكون صحيحة ولكنها لا تتضمن محددات الفرع العلمي.
وعلى سبيل المثال فإنه وإبتداءً من نهاية القرن السابع عشر كان لأي قضية أن تكون نباتية شريطة تعلقها بالبنية المرئية للنبتة، وبمنظومة تشاباتها القريبة والبعيدة، أو بألية سوائلها، حيث لم تعد كما في القرن السادس عشر، إذ يطلق على القضية أنها نباتية إذا أحتفظت بمجموع خصائصها التي كان يعترف لها بها في القديم.
أما في القرن التاسع عشر فلم يعد ينظر للقضايا الطبية على انها طبية إذا؛ إستخدمت مدلولات الإنسداد، السوائل المسخنة، أو الجوامد المجففة، بل يتعين عليها استخدام مدلولات مجازية أيضاً، لكن مبنية على نموذج أخر، نموذج وظيفي وفسيولوجي. ولكي تنتمي أي قضية لمجال معيّن، كان لابد أن تسجّل نفسها ضمن أفق نظري محدد، ولقد إستشهد فوكو بذلك بالعالم البيولوجي " مندل"*** الذي أحدث طفرة في علم الوراثة بتحديده الطفرة الوراثية كموضوع بيولوجي جديد، ولكن لم يلتفت إليه لكونه خرج عن قواعد وضوابط الفرع المعرفي، وبهذا فهي ممسوخة. في الوقت الذي كان فيه العالم شليدين**** ومنذ ثلاثين عام لم يكن يصوغ سوى خطأ منتظم ضمن السياق المعرفي مما جعل خطابه غير ممسوخ ومقبول .
وقد حدد فوكو أيضاً مجموعة ثالثة أخرى من الإجراءات والشروط التي تتمكن من مراقبة الخطاب، ولكنها لا تتعلق بالتّحكم في السلطة التي يحملها الخطاب، أو الحد من ظهورها بل هي التي تحدد شروط إستخدام الخطاب، وفرض عدد من القواعد على الأفراد الذين يلقونها، وبالتالي هي تعمل على تقليل الذوات المتكلمة،الأمر الذي أدى إلى تكوين جمعيات الخطاب، وهي التي لاتسمح لكل من هب ودب في الحديث في المجال المحدد، من دون أن تكون له علاقة به، فجمعيات الخطاب تفرض مجموعة من الشروط والإمكانيات والمؤهلات التي تسمح لفرد ما بالدخول ضمن الخطاب، مثل جمعيات الطب، الهندسة، المحاماة، المحاسبة، فلابد لأي متحدث ضمن هذه المجالات أن يكون ممتلكاً المؤهل العلمي الأكاديمي الذي يسمح له بالحديث داخل إطاره، ومن دون ذلك فهو لايمتلك سلطة الحديث، لأن الخطاب يملك فعاليته حين صدوره من متحدث يملك هذا الإمتياز، ويتحدث فوكو أيضاً عن شرط آخر من الشروط وهي المذاهب الدينية، السياسية، والفلسفية والتي هي بخلاف جمعيات الخطاب التي لايمكن أن يتدوال فيها الخطاب سوى في عدد محصور من الافراد، فإن المذاهب كما هو معروف تميل للإنتشار، وبواسطة الخطاب المشترك لنفس المجموعة الواحدة. حيث يعرف عدد الأفراد انتماءهم مهما كان عددهم، شريطة الإعتراف بنفس الحقائق والشروط وقبول قاعدة معينة، مرنة إلى حد ما للتوافق مع الخطابات المصادق عليها، وفي هذه الحالة تكون مراقبة الخطاب على الشكل المنطوق والمضمون وليس على الذات المتكلمة.
وآخر هذه الإجراءات التي تحدد شروط إستخدام الخطاب هي التربية، إذ أنها هي التي تمنح الحق قانونياً في أن ينخرط أي فرد في المجتمع، بشكل مشروع في الخطاب، ومن المعروف أن التربية تتبع في توزيعها، وفيما تسمح به، وفيما تمنعه، الخطوط المطبوعة بالتباينات والتعارضات والصراعات الإجتماعية، وأن المنظومة التربوية عبارة عن طريقة أساسية للإبقاء على تملك الخطاب والاندراج تحته، أو لتعديل هذا التملك.
ختاماً: يعتبر نظام الخطاب من الكتب المهمة لفوكو، لأنه يمثل تلخيصاً لكتب فوكو، التي سبقت هذا الكتاب، بالإضافة لأنه أفصح عن مشاريعيه التي تم إنجاز البعض منها وأخرى لم تكتمل (الجنسانية).
***
مودة جمعة
........................
الهوامش
* يرفض فوكو وضعه في أي أطر أو قوالب.
** راجع كتاب – الجنون في العصر الكلاسيكي – الطبعة الأولى 2006- المركز الثقافي العربي، الدّار البيضاء.
*** غريغور يوهان مندل نمساوي ورجل دين وعالم نبات وهو مؤسس علم الوراثة الحديث.
**** ماتياس شلايدن عالم ألماني اشتُهر باكتشاف ان جميع النبات تتكون من خلايا
(1) نظام الخطاب ص 4
(2) نفس المرجع ص 7
(3) نفس المرجع ص 13