أقلام فكرية

حيدر عبد السادة: دريدا مُفَكِّكَاً

تُعد التفكيكية، من أهم الحركات ما بعد البنيوية، فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً، فالتفكيكية ردُّ فعل على الإسراف البنيوي، تهدف إلى التخفيف من غلوائها وتوضيح رؤيتها الداخلية بالطريقة المثلى، فقد كرّس (جاك دريدا) في بعض مقالاته مهمة تفكيك مفهوم (البناء)، والتي تخدم تجميد التلاعب بالمعاني في النص وتقليل ذلك إلى نطاق يمكن السيطرة عليه. وذهب أيضاً إلى ضرورة تفكيك مركزية العقل، إذ يجب إيجاد وضع جديد للكلمة، وذلك من أجل إسقاطها وانتزاع تسلطها الكامل كأصل ومركز للغة.

ويعد كتاب (لسان التفكيك) لجاك دريدا بمثابة لسان التفكيكية، على أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيسيتان، الأولى أوجدها دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات غير وافية أو سوء تأويلات محتملة، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا.

ومما لا شك ان التفكيك هو المفهوم المركزي في فلسفة دريدا. فماذا يقصد به؟ في رسالة له (الى صديق ياباني)، اعترف دريدا بان التفكيك كلمة عصية على التحديد والتعريف والتدقيق والضبط لان كل تعريف وتحديد في نظره يحتاج الى تفكيك ويتطلب على الاقل الشك والظن في الكلمات والمفاهيم التي صيغت بها تلك الكلمات التي الفنان والتي تسكن اي لغة كانت خاصة اذا علمنا انه لا وجود للغة بريئة فكل لغة مشكلة من قرارات ومن اشكال من الاقصاء التي يجب العمل على ادراكها وفهمها.

يؤكد (م.هـ ابرامز)، أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو: 1-إنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة، النص المكتوب أو المطبوع. 2-أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية... أما (نيوتن غارفر) فيشدد على أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة، وأنه يؤكد على أسبقية البلاغة على المنطق، فيقول: ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى، والذي يسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية... ويذهب (هيليس ميلر) إلى أن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً... ويعتقد (موراي كريغر) أن دريدا بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها، وربما يكون قد أبطلها أيضاً، وإن الهجوم الذي شنه دريدا، يعد شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير... ويؤكد (فريدريك جيمسون) أن فكر دريدا وهم تخطى الميتافيزيقا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف.

ويتميز التفكيك بنوع من الانتباه واليقظة تجاه الكلمات والبنى التي تسكن فيها الكلمات، والانتباه بوجه خاص الى تلك البنى والى ضرورة الشك فيها بما انها تحيل الى نزعة كاملة هي البنيوية التي تحتاج الى تفكيك، وهذا يعني اننا في حاجة الى ما أسماه بـ ما بعد البنيوية، ويعتبر دريدا من الفلاسفة الأوائل الذين صاغوا عبارة ما بعد البنيوية لتدل على التيار الناقد والمعارض والمتجاوز للبنيوية، وهو ما بينه في كتابه الكتابة والاختلاف، وخاصة في نصه النقدي لميشيل فوكو حول تأويل هذا الأخير لنص ديكارت عن الجنون، ونصه حول ليفي شتراوس أو البنيوية والعلوم الإنسانية.

من هنا نعرف أن التفكيك، ومنه فلسفة دريدا التفكيكية، تعبير عن مرحلة جديدة في الفلسفة المعاصرة على العموم والفلسفة الفرنسية على وجه الخصوص، وذلك تحت اسم ما بعد البنيوية، التي تتميز بنقدها لفكرة البنية الموضوعية والمحايثة للأشياء... وليست التفكيكية منهجاً أو نظرية تسمح بالكشف عن البنى الخفية للأشياء، وإنما هي ممارسة ونشاط وعملية انتباه ويقظة وحذر دائم، التفكيك ليس نظاماً فلسفياً واضح المعالم ولا منهجاً يقوم على قواعد وخطوات معلومة، وإنما هو عبارة عن توجه فلسفي في قراءة النصوص وطرح القضايا، خلفيته المباشرة نقرؤها عند الفيلسوف الألماني هيدغر الذي قام بالهدم.

على أن دريدا، رغم صعوبة التعريف ولبس المقولة، حاول مرتين على الأقل الإجابة على السؤال عن معنى التفكيك، المرة الأولى كانت في كتابه مذكرات من أجل بزل دي مان، حيث قال: التفكيك باختصار شديد، سأقول ذلك من دون جملة، أنه أكثر من لغة. لكن ماذا يعني دريدا بهذا القول: بحسب الزواوي بغوره، أنه إذا أردنا تحليل هذا التحديد، أو بلغة الفيلسوف تفكيك هذه الصيغة، فإن أصعب كلمة في تلك الصيغة هي من دون شك كلمة: اللغة، فماذا يقصد دريدا باللغة، وهو الذي انشغل طول حياته باللغة، وأسس فلسفة لغوية خاصة به، فعن أية لغة يتحدث دريدا؟. ومفاد هذا الرأي، الآتي: يشير القول إلى ضرورة الانتباه إلى الكلمة وليس إلى اللغة، إذ من المعروف أن رائد اللسانيات الحديثة سوسير، قد ميز بين اللغة والكلام، أو بين الدال والمدلول، وكان لهذا التمييز أثره الفاصل في تأسيس النزعة البنيوية في اللسانيات ثم في الانثروبولوجيا على يد شتراوس والتحليل النفسي عند (جاك لاكان) والنقد الأدبي عند رولان بارت. وبالتالي فمن الممكن أن دريدا يقصد باللغة الكلام، الذي تجاهلته البنيوية عندما ركزت على البنيات الأساسية للغة، أو أنه كان يشير إلى كل ما يمثله الصوت وبالتالي ضرورة الاهتمام بالاذن والاستماع، وإلى من يتكلم وإلى ان الكلمة تقول دائماً شيئاً آخر غير الذي تصرح به. وهذا يحيلنا إلى خطاب الآخر وماذا يقول؟ ولقد مثلت التفكيكية محاولة فلسفية أصيلة في فهم الآخر، وذلك لما تضمنته من تقنيات التحليل النفسي والتحليل التأويلي.

ومن الجدير بالذكر، أن الكتابة والكلام كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بها فهمنا، وتتمتع اتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وإن الكلمة المنطوقة (صوت) كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي، كما تعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصور الصوتية ، وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر، ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال، ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئاً أشبه بالثالوث في هذه العلاقة: الذهن الإنساني، الدال (الصورة الصوتية)، المدلول (المفهوم).

وهناك رأي آخر لتفسير عبارة (أكثر من لغة)، تفيد وجود أكثر من لغة، وإن شرط التفكيك مقرون بالتعدد والاختلاف، وإن خطاباً واحداً مهما كانت قدرته لا يمكن أن يكون خطاباً اختزالياً، على أن ما يثير السؤال في صيغته تلك هو أن دريدا لم يقل اللغات، بل قال اللغة، أي أنه تحدث عن اللغة بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع، وهذا يعطي دلالة خاصة لمعنى اللغة، فهل يتعلق الأمر بالضغوط التي تمارسها اللغة على محدثيها؟ إننا عندما نتحدث أو نعبر أو نكتب بلغة معينة فإننا نشعر دائماً بضغوط اللغة، وبعدم قدرتنا على التعبير، وإننا نعاني من أسر اللغة، لذلك وجب تجاوز اللغة إلى ما بعد اللغة، أي إلى كل ما يشكل العلامة، وبالتالي وجب الشك في كل مقولات اللغة والتركيب والنحو، كما دعا نيتشه إلى ذلك، وضرورة الانتباه واليقظة مرة أخرى إلى كل ما لا تستطيع اللغة قوله والإشارة إليه. أي ضرورة الانتباه إلى الصمت وإلى الحياة ذاتها، تلك الحياة التي لا يمكن نقلها إلى اللغة، أو لا تستطيع أن تصبح لغة، نتيجة لعجز اللغة عن التعبير... من هنا وجب القيام بالتفكيك على أساس التعدد والاختلاف، واستعمال أكثر من لغة وعلامة، أملاً في التحرر والانعتاق من أسر البديهيات والأمر الواقع للغة الخاصة.

وآخر ما يجدر الإشارة إليه، أن مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا يستند إلى ثلاث كلمات معقدة جداً، وهي الاختلاف، الأثر، والكتابة الأصلية الأولى...

1-الاختلاف يشير إلى فعلين: أ-أن يختلف، أن لا يكون متشابها. ب-أن يرجئ ويؤجل، وينبغي الانتباه إلى أن الأول مكاني والثاني زماني، ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة: أي الاختلاف والتأجيل، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل، وليس من خلال الدال والمدلول، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى، وشيء غير موجود في العلامة على الاطلاق.

2-الأثر: إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها، ولهذا السبب فإن ما موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة.

3-الكتابة الأصيلة: أطلق دريدا هذه التسمية على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق، وتعمل الكتابة الأصيلة في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية، والكتابة بمعناها الضيق تعتبر كتابية، أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم