قضايا
عبد العزيز قريش: البحث عن الذات.. امتداد الموجود في اللاوجود

عندما يبحث الإنسان في الوجود، لا ينحصر هذا البحث في المرئيات أو ما يسمى عالم الشهادة، بل يجد هذا العالم مرتبطا ارتباطا عضويا بعالم آخر، هو عالم الغيب أو اللاوجود، الذي يُعبر عن الميتافيزيقي بالنسبة للفيزيقي، مما يثير في الإنسان التساؤلات حول الحياة والموت، الحضور والغياب، الفعل ومآل الفعل، والله وعالم الغيب الذي نجهله إلا ما أخبرنا به الدين في الكتب السماوية، لا في الحواشي والملحقات على النصوص الأصلية. فهل نعيد قراءة هذا الوجود من جديد أم نستمر في تأمل القديم؟ هل نقرأ امتداد الموجود في اللاوجود؟ وكيف؟
في أواخر العمر، حينما ترسم نسمات الغياب ملامحها الرقيقة على وجه الإنسان، وتلامس الجسد علل النسيم القادم من عالم الضباب، وحين يخف الصوت العالي للطموح وتبهت أصداء العالم من حوله، ويصبح الجسد أخف، وظلا يرتاح من أعباء الماضي، يتأمل الإنسان في ما كان وما سيكون من وراء نافذة المساء، ويبدأ في البحث عن ذاته مجددا، لا تلك التي شكلتها مرايا الآخرين، ولا تلك التي تقمصتها الألقاب والمواقع وهالة الناس، بل ذاته الأصلية، العميقة، الصفية، النقية، الطاهرة مثل ميلاد جديد ونسمات الحياة الأولى، قبل أن تتشكل الذات وتذوب في مياه عوالم الشهادة.
هنا، يحدث انقلاب التأمل، ويبدأ الإنسان في إعادة قراءة نفسه، حيث يتحول بحثه من الخارج إلى الداخل، ومن المرئي إلى الخفي، ومن المحسوس إلى اللامرئي. يكتشف الإنسان، في مرحلة متأخرة أو تحررية، أن الوجود الذي عاشه ليس مستقلا عن ذاته، وأن عالم الشهادة، بما فيه من تجارب وأشياء، وأشخاص، وعلاقات، ليس سوى سطح هش لوجود أعمق وأكثر تعقيدا وغموضا، وجود ممتد في عالم الغيب.
إن عالم الشهادة، بما فيه من عناصر قابلة للقياس والرؤية، لا يمكن أن يشبع تطلعات الذات الباحثة في نهاية الرحلة عن نفسها. فالإنسان، حين يفقد لذة التراكم، ويستيقظ من أوهام الامتلاك والألم الناتج عن التفاعلات الاجتماعية، يدرك أنه كان يسعى وراء صور وهمية، يعانق السراب، ويعيش جزئيا في عالم لا يتكامل إلا بالانفتاح على عالم الغيب. بعقله وروحه، يبدأ في استكشاف إمكانيات السؤال، وأي نوع من الإجابات قد يُحَصَّل.
الغيب هنا ليس مجرد مفهوم ديني أو عاطفي، بل هو الامتداد الخفي للموجود، هو سؤال اللامرئي الذي يتخلل كل ما نراه. هو ذلك العمق الذي نجهله ولكننا نحس به، كنبض بعيد في قلب الحياة. هو الله، الروح، الموت، الزمن، المعنى، والغاية. هو حضور اللاوجود في جوهر الوجود وصلبه ونطفته الأولى؛ لا كغياب، بل كأثر نابض يتخفى وراء حدود الإدراك، لا يُحتوى، بل يتجلى فيما لا يمكن إدراكه. فالأثر موجود وإن كان أصله مفقودا...
ولذلك، فإن قراءة الوجود في أواخر العمر تقتضي من الإنسان شجاعة مضاعفة؛ شجاعة التماهي مع ما هو أبعد من الوجود. ليست الهروب من الواقع، بل اختراق ذات الوجود لاستكشاف ما وراءه. كالماء في السراب، لا يعدو أن يكون سرابا، لكنهما دلالة على الحقيقة، غائبة في وهم الوضوح، ويبقى الماء حقيقة لا توجد إلا في لحظتها. وقراءة الحضور المتخفي تستدعي:
* تأملا فلسفيا يجعل من كل حدث سؤالا، ويحول كل فقدان إلى إشارة وعلامة، ويبني وجودا من غياب، وغيابا من حضور، ويُشيد المعنى من ظلال المعنى، وظلال المعنى من المعنى. تأمل لا يفقد عقل الجهل صوابه بل يصنع منه عقلا جديدا.
* إيمانا ناضجا لا يتطلب اليقين الكامل أو المطلق، بل يتقبل الغموض المضيء. ففيما بين الماء والسراب يكمن غموض يستنطقها الإيمان الناضج.
* لغة رمزية توسع المعنى لا لتغلقه، بل لتفتح آفاقه في زمن ومكان اللامرئي.
* وعياً روحيا يعيد تنسيق الذات، ضما لما تشتت منها، ويشفيها بلحظات من التأمل والتدبر، بصمت وذكر وحنين في أعماقها، التي تتجلى في تفاصيل حياتها وأفعالها.
عند هذه النقطة، يعي الإنسان أن ذاته لم تكن يوما معزولة عن الغيب، ولكنها كانت مشوشة الرؤية، منشغلة بتفاصيل البقاء، مؤجلة دائما إلى "حين آخر" من رحيل. والآن، وقد اقترب الرحيل، تصبح العودة إلى الذات هي العودة إلى أصلها في الأصل، إلى المطلق، إلى الغيب... إلى الله، المصير الأخير.
ما نعيشه في عالم الشهادة ليس هو الكل، بل هو مرحلة من مراحل الرحلة؛ قوسان: الأول في عالم الغيب "الخلق/الحضور"، والثاني في الغيب "الرجوع/الغياب". بينهما توجد رحلة بحث مستمرة عن الذات، والتي تبدأ من البحث عن الأنا في الوجود عبر الأسئلة الوجودية: من أنا؟ كيف ينبغي أن أكون؟ أين أكون؟ وعندما يقترب الإنسان من نهاية العمر، يبدأ في إعادة البحث عن ذاته من الحاضر الذي ينبثق من ماض بعيد. تبرز الأسئلة من جديد: كيف كنت؟ أين كنت؟ وأين سأكون حين يزول الوجود ويحل اللاوجود، وتغيب الأزمنة والأمكنة؟
هكذا، يصبح بحث الإنسان عن ذاته في أواخر العمر بحثا عن امتداد الموجود في اللاوجود... بحثا عن ضوء مغمور فينا، لم نره في منظور الوجود اللاوجودي، ولكنه كان يسكننا بصمت. وكان أغلبنا يعتقد أن لا وجود لظل خفي خلف ظلال المنظور، فغابوا في الضباب. حين تكتمل رحلة السؤال، وتذوب ظلال المرئي في أفق الخفي والمتواري، لا يعود السؤال "من أنا؟" مجرد صدى داخلي للضمير، بل يصبح تجليا لأثر الأصل في المآل، ما انمحى لكن بقي ذكرى حدث في الزمان والمكان، وانعكاسا لنور الله في مجاهل الذات. فليس الأنا التي تجيب، بل الأثر الذي تركه الله فيها منذ الأزل، حين قال لها "كوني"، فكان ما كان، ثم انقضى ما كان.
وهنا، يتلاشى معنى ما عرفناه عن أنفسنا، ليبرز ما يعرفه الله فينا، في ما جبلنا عليه، وخلقنا لأجله، وصرنا إليه... فمن عرف الله، عرف نفسه، ومن عرف نفسه بالله، لن يغيب في المرايا ولا عنها، ولن يتلاش في السراب، ولن يُدفن في التراب ويغيب عن الأبصار ولا البصائر، بل يعود إلى حضن الأبد، إلى وجهه الأول، حيث كان الوجود نفخة... وهويته أثر باق خالد لنور لا يغيب، وحضور دائم لذكرى.
***
عبد العزيز قريش