قضايا

رحموني عبد الكريم: المفكر لخضر شريط ألم الصمت ومعاناة التهميش

حينما غضب التوحيدي وحرق كل كتبه، أدرك يقينا لا مكانة لفكره في عصره ولا أهمية لإبداعه المتنوع المشارب من علم الكلام إلى الفلسفة، الأدب والشعر، الفقه والذوق، النقد والحجج العقلي، نظرية الجمال والنظرة الثاقبة للحياة، حتى نعته العديد من أدباء عصره بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لكن ما قيمة هذا النعت؟  إذا عَده ابن الجوزي من الزنادقة الثلاث الكبار، ما قيمة هذا الوصف؟ إذا كان التوحيدي عبر بنفسه عن حاله قائلا: « لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص ».

مكانة الفكر نابعة من الفلسفة اللوغوسية والحكمة التأملية، ففيتاغورس اليوناني كان محبا للبشر، محبا للحكمة، وهذا الشيخ الطبيب الرئيس ابن سينا تغلب عليه الحكمة بدل الضلال ويتحكم فيه العقل بدل الهوى، والرازي أبو بكر يحاول بجهد صادق، وضع العقل موضع الحاكم الأول على الأشياء جميعاً، ويورجين هابرماس فيلسوف القرن العشرين، فلسفته متحررة من التسلط والهيمنة والبيروقراطية والرأسمالية ووضع قواعد للفكر تقوم على الحوار الحر واللغة بين الأفراد وهي أسرع وسيلة للتفاهم وأسرع وسيلة لتواصل. لكن جسر التواصل سرعان ما يَنقَضَّ في الجزائر، شأن جسر العلم والفكر وغربة المفكر والمتعلم في الوطن الذبيح سرعان ما ينطفئ نوره مثل المفكر لخضر شريط الذي أقام قنطرة العبور في بناء الحضارة وأسس متينة في تحديات المجتمع المغاربي،  فلست أتردد لحظة إذا قلت أن الكتابة ميكانيزم الحياة، مثل الغابة الجميلة، سُبلها عديدة وظلالها وفيرة توقظ الذات المحبة، هي نبض الكاتب في لحظات التجلي الإبداعية، لحظات إخراج فعل الكتابة على شكل نصوص وروايات، قصص ومسرحيات، أشعار ومقالات من دائرة الكتمان والتستر إلى دائرة البوح والتصريح ، فكتبت يا لخضر شريط وألفت درر نفيسة و جواهر منسية: أسس في البناء الحضاري، المجتمع المغاربي قواعد إعجاز وتحديات، في الثقافة والعامل الاستعماري، في بديهية الرد والبرهان بالتراجع، مدخل لخلفيات العلم في الحضارة الإسلامية، مدخل في الفكر الإسلامي وخلاص الوسطية، أفكار من النور، ومضات بن نبي على مشكلات معاصرة.

رفقاً يا قلم أتحدث عن الكتابة الفلسفية ومؤلفاتك الغنية في مجتمعنا؟

رفقاً يا يراع أتحدث عن زخم كتبك يا لخضر شريط في جزائر غيبت المثقف ونبراس العلم والمتعلم؟

هي الكتابة التي لا تغيب في سماء قبة الجزائر، تتحقق عن طريق امتلاك ناصية اللغة « هذه القوة السحرية التي تكمن في اللغة – و لتي تقوم كون اللغة تستبدل بالواقع ذاتها حين تحيل ما تسميه إلى شيء واقعي موجود- هي أيضاً أساس كل نميمة مثلما هي أساس كل إطراء.»1.

بالقوة السحرية سحرنا الفيلسوف المناضل والمجاهد الثوري الفذ عبد الله شريط الذي خاصم قلمه المفهوم في مؤلفه معركة المفاهيم لكنه رحل دون أن تذكره أقلام المثبطين، الناقمين والشامتين يقول عبد الله شريط: « نحن نميل بطبعنا إلى التعود على السلبيات أكثر من الإقبال على الإيجابيات. وعندما نريد أن نفكر ننصرف أولا إلى الانتقاد: إلى انتقاد غيرنا طبعا، وتحميله المسئولية فيما نعانيه، السلبية هي أن لا أفعل شيئا، وإن فعلته فهو تهديم ما بناه غيري. وكادت هذه العادة أن تصبح مرضا مزمنا مع مرور السنين والأجيال والقرون.» 2.

رحلت يا أستاذ لخضر في شهر ديسمبر من سنة 2023 في صمت دون أن يسلط عنك الإعلام و الصحافة الضوء ودون أن يذكرك الساسة ورجالات الدولة، رحلت في صمت كما رحل الفيلسوف التوحيدي إذ مشكلة غربة الفكر في هذا العصر وفي الصمت الشبح الذي يحوم على المفكرين ، الغربة التي أصبح كاتب "الإمتاع والمؤانسة" يصبح معها ويمسي، كسرت نفسه وحيرت عقله وانفطر لها قلبه في قيامه وقعوده طيلة يومه، عبر التوحيدي بنفسه عن حاله قائلا: « لقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص.»

رحلت في صمت كما رحل الفيلسوف بن ساعي الضمير الصامت أمام الآلام الكبرى، ألم التهميش ومعاناة تحقير الفكر، فإذا كان  حظ القراء من الكتابة وقراءة النصوص في عصرنا ميسور، وحظ النخب الفكرية في الجزائر المحروسة من الاهتمام والتكريم يسير،  لكن لا يمنع ذلك  القلم بل يجب عليه أن  ينادي الإنسان المبدع ويدعوها للوجود رغم استقامة الرأي ومتعة القراءة « فهذا ما ليس يصنعه إلا الفكر، ذلك الجوهر الخالد الذي لا مكان له ولا زمان، والذي لا قرابة أقرب منه بين إنسان و إنسان.»3.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر

...................

قائمة المراجع:

1.  ميخائيل نعيمة: الغربال، الطبعة الخامسة عشرة سنة 1991 ، مطبعة نوفل، بيروت- لبنان.

2.  عبد الله شريط: معركة المفاهيم، الطبعة الثانية سنة 1981 ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر.

3.  نكولا غريمالدي: الرغبة والزمن، المطابع الجامعية الفرنسية، باريس سنة 1971 .

4. نكولا غريمالدي: الرغبة والزمن، ص: 426 .

5. عبد الله شريط: معركة المفاهيم، ص 19 .

6. ميخائيل نعيمة: الغربال ، ص 05 .

هوامش

1- نكولا غريمالدي: الرغبة والزمن، ص: 426 .

2- عبد الله شريط: معركة المفاهيم، ص 19 .

3- ميخائيل نعيمة: الغربال ، ص 05 .

في المثقف اليوم