اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الغرب والعودة للحرب الأهلية

هل تعود الحرب الأهلية قريباً إلى العالم الغربي؟ هذا ما يتوقعه دفيد بتز، أستاذ العلوم الدفاعية في الجامعة البريطانية، في مقال أخير في «المجلة الاستراتيجية العسكرية» (ربيع 2025). ووفق مقاربة بتز، تتجاوز نسبة هذا الاحتمال 90 بالمائة في كبريات الدول الغربية، بما فيها البلدان الرئيسية في غرب أوروبا. وليس الخطر الاستراتيجي خارجياً، بل هو داخلي بالأساس، ومن عوامله الرئيسية: التفكك الثقافي، والتراجع الاقتصادي، والقطيعة المتنامية بين النخب والشعوب، وانهيار البنيات التحتية.. إلخ. وحسب بتز، سيأخذ هذا السيناريو شكل التصادم الحضري الريفي، والانقسامات الاجتماعية الثقافية الحادة، والحرب الرقمية الإلكترونية.
وقد دخلت بعض الأحياء في كبريات المدن الغربية في هذا المسار فعلاً، فغدت مدار صراع صامت حول الهوية والانتماء والمصالح الحيوية، مما ينذر بفتنة عارمة. لن تبدأ هذه الحرب الأهلية على شكل انقلاب عسكري أو معركة حاسمة، بل من خلال انهيار تدريجي يفضي إلى حدث حاسم تنطلق معه المواجهة الجذرية.
ومن سمات هذا الانهيار تآكل الجسم الاجتماعي، وتزايد المناطق الخارجة عن دائرة السلطة ونطاق القانون، وضعف المؤسسات الأمنية والقضائية، وتردي البنيات الاقتصادية. ويمكن أن تحدث هذه الحرب الأهلية عن طريق أزمة اقتصادية حادة، أو عملية إرهابية عنيفة، أو خطأ أمني فادح، أو مشكل ما بعد انتخابي.. إلخ، وهي أحداث كثيرة الوقوع في السنوات الأخيرة.
والحرب الأهلية التي يتحدث عنها «بتز» هنا هي الأفق الذي كرست معه الحداثةُ السياسية القطيعةَ الصارمة. وفي كتابه «ستازيس» (عبارة يونانية تعني الفتنة الداخلية)، يبيّن الفيلسوفُ الإيطالي جورجيو أغامبن أن منطق الحرب الأهلية لا يزال حياً نشطاً في الحياة السياسية للمجتمعات الغربية المعاصرة، رغم المرجعية القانونية المؤسِّسة لنمط الشرعية السياسية القائم فيها.
والحرب الأهلية، كما يتصورها أغامبن، تأخذ شكلَ سلطة الاستثناء الدائم الذي أصبح هو المعيار التشريعي المعتمد في البنيات القانونية والإدارية للدولة الحديثة. وفي هذا السياق، تلاشت الحدود بين الداخل والخارج والحرب والسلم، فغدت آليات الرقابة والضبط وعسكرة المجال العمومي من الميكانيزمات العادية للسلطة السياسية. وتلك سمات حرب أهلية صامتة تستهدف الوجود البيولوجي للبشر، وتعرِّض مجموعاتٍ متزايدةً منهم للملاحقة والرقابة (من المهاجرين إلى المنشقين والأقليات وضحايا الأوبئة والجوائح.. إلخ).
إنها حرب أهلية عالمية، تعيش في ظلها مختلفُ المجتمعات صراعاتٍ داخليةً مستمرةً، حيث يكون العدو هو المواطن ابن البلد نفسه وليس الدولة الأجنبية.
الفرق الأساسي بين أطروحة «بتز» ونظرية «أغامبن» هو أن الباحث الاستراتيجي البريطاني يوجه النظرَ إلى ظواهر التصدع والتفكك المتزايدة في المجتمعات الغربية، التي تعيش أوجهاً مختلفةً مِن الصراع الداخلي المتولِّد عن عجز الدولة المركزية عن احتواء الانشقاقات الناتجة عن عوامل التطور الذاتي والانفتاح الخارجي، بينما يركز أغامبن على تركيبة الدولة ذاتها من حيث مقوماتها القانونية والسياسية في تدبيرها للمجال العمومي وعلاقات مواطنيها في ما بينهم.
في الحالة الثانية، نلمس بعضَ المحددات النوعية المتعلقة بطبيعة الدولة الليبرالية الحديثة التي قامت على منطق الفصل بين الاعتبارات المعيارية الجوهرية والأدوات الإجرائية التنظيمية التي هي مجال الحوكمة القانونية والإدارية، وفي الحالة الأولى تَظهر المعطياتُ الراهنة التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة السيادية والعودة إلى وضعية «حرب الكل ضد الكل» التي تحدث عنها توماس هوبز.
ولئن كان الفيلسوف القانوني الألماني كارل شميت قد نبّه في منتصف القرن الماضي إلى أن منطق الدولة الليبرالية الحديثة يفضي ضرورةً إلى نمط جديد من الحرب أطلق عليه مقولة «الحرب الكلية»، فإن المفكر الفرنسي ميشال سر تحدث عن ما سماه ظاهرة «التاناتوقراطية» التي هي حصيلة اقتران العلوم والتقنيات والسياسة المؤدي إلى تكريس مخاطر الموت على نطاق واسع. وبالنسبة له، ليست الحرب حدثاً عارضاً أو احتمالاً نظرياً، بل هي نتيجة حتمية للاستخدام الممكن للأدوات التي أبدعتها الحداثةُ التقنية والسياسية. فعبر التقنيات الراهنة، أصبحت الإنسانية لأول مرة في وضع يخول لها أن تقوض التوازنات الطبيعية والاجتماعية الضابطة سابقاً للسلم الأهلي والمدني، بما ينعكس راهناً في الأزمات المناخية والصحية والأمنية التي تعصف بالدول الكبرى، من حيث كونها ستعرف أوضاعاً من الفتنة الداخلية لا تختلف في شيء عن الحروب الأهلية الفظيعة التي تشهدها بلدان عالم الجنوب الفقيرة.
ليست هذه الأفكار من شطحات الفلاسفة أو تشاؤم الباحثين الاستراتيجيين، بل إن بعض الزعامات السياسية الحالية، مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمفكر الفرنسي جاك أتالي، نبّهت إلى جدية هذا الاحتمال الذي له مؤشراته الكثيرة في الواقع الراهن.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 أغسطس 2025 23:45