قضايا

عصمت نصار: الكذب في الثقافة الإسلاميّة وغرابيل الفلسفة النقديّة (2)

إذا ما انتقلنا إلى علم الكلام أو الفقه الأكبر؛ فسوف نجد جل أعلامه بمختلف فرقهم لا يختلفون عن الفقهاء في قدحهم للكذب في ذاته، وذمّهم لكل مشتقاته، ومدحهم للصدق واستحسانهم لكل ما يؤدي إليه، وإن بدا في صورة مناقدة لواقع يمكن تأويله على وجه مغاير لما ذاعت دلالته بين العوام أو يخالف أصول مذهبهم الكلامي مثل (فرقة الخوارج والشيعة والأشاعرة).

ويرجع ذلك لتقديمهم النقل على العقل وأخذهم بالتأويل على حرفية دلالة النص مع اختلاف درجاته - باستثناء فرقة المعتزلة وهي التي ينسب إليها تأسيس هذا العلم في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري- وحجتهم في ذلك، آيات القرآن الكريم ذاتها مثل أمر القرآن للنبيّ صلى الله عليه وسلم (أقرأ) والقراءة هي إحدى روافد المعرفة والتفكر، وكذا إخبار الباري سبحانه وتعالى بأن من أوائل مخلوقاته سبحانه هو القلم، وهو أيضًا أحد آليات التعلم والأخبار أضف إلى ذلك توجيه الإله لقوم (يتعقلون، يتفكرون، يتدبّرون) وكذا إعلائه من قدر العلماء، وغير ذلك من أدلة تفيد أن العقل هو المرشد إلى حقيقة الوحي، أي (النقل المقدّس).

كما أن للمتكلمين – ولا سيما فرقة المعتزلة - ضروب مقيمة للأحاديث النبويّة لا تعتمد على صحة السند فحسب، بل يقدم عليها منطقية الدلالة والمقصد من الحديث، ودون ذلك يعدونه ضربًا من الكذب أو التجديف أو التأويل أو الانتحال حتى لو كان مصدره أكابر جمّاع الحديث، فلا يتحرّجون في تكذيبه أو استبعاده بحجة أنه يخالف صحيح عين اليقين، لذلك كله تذهب العديد من الدراسات الكلامية التي استحسنت الفكر الاعتزالي مثل كتاب "تحكيم العقول في تصحيح الأصول"؛ للقاضي أبي سعد الحاكم الجشمي (1101:1022 م)

 وكتاب " قبول الأخبار ومعرفة الرجال" لأبي القاسم البلخي (931: 886 م) وكتاب "المغني في أبواب العدل والتوحيد" للقاضي عبد الجبار الهمذاني (1025:935 م)، وكتاب "البيان والتبيين" لأبي عثمان الجاحظ (868:775 م) وغيرها من أمهات كتب التراث الكلامي الإسلامي بالإضافة إلى "تفسير أبي مسلم الاصفهاني (934:868 م)، وتفسير أبي علي الجبائي (915:849 م) " وتفسير أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (1143:1075 م). أمّا في العصر الحديث نجد كتاب (في الفلسفة الاسلامية: منهج وتطبيقه) لإبراهيم مدكور (1995:1902 م) وكتاب "التفكير فريضة إسلامية " وسلسلة كتب العبقريات وكتاب "الفلسفة القرآنية" لعباس محمود العقاد (1964:1889 م) (كما أن الفكر المعتزلي على وجه الخصوص من أكثر الكتابات الجامعة بين الحكمة العقلية والبنية العقدية الإسلامية اعتمادًا على غرابيلهم النقدية في فحص الفكر الإسلامي ومزاعم الأغيار وطعون المجدفين والملاحدة.

ومن أهم أقوالهم التي عنيت بتوضيح مفهوم رذيلة الكذب قول أبي القاسم الأصفهاني (1108:954 م) (اعلم أن كل كلام خرج على وجه المثل والاعتبار، دون الإخبار، فليس بكذب على الحقيقة. ولهذا لا يتحاشى المحترزون من التحدّث كقولهم في الحث على مداراة العدو، والتلطف في خدمة الملوك).

أمّا راغب الأصفهاني؛ فراح يعدد أشكال الكذب والقدر الذي يحدثه من شرور على الأفراد والعقل الجمعي ويقول (إن الكذب عار لازم، وذل دائم، ويعود صاحبه على النفاق ويرغبه في إذاعة الأكاذيب والواقعات المختلقة - رغم درايته بمخالفتها للحقيقة - فمن استحلى الكذب بات من العسير عليه فطام نفسه عنه، فيصبح من جراء ذلك أحد صناع الكذب الذين يكتب عليهم المهانة والدناءة وصغر النفس، وهم بذلك الشر محتقرون بين الناس ولا يؤخذ برأيهم في مجالس الجد والحسم).

كما يحذر الأصفهاني من الاستشهاد بأخبار أو روايات يأبها العقل في التثاقف، لأن ذلك الفعل يعرض صاحبها إلى الاتهام بالكذب من قبل مناظريه حتى لو كانت الرواية صادقة، وعليه يجب عرض المنقول والمتواتر والمجمع على صحته على العقل ولا ينبغي استخدامه في المحاجاة إلا إذا كان معقولًا، فإياك أيها الكاذب أن تتخذ من الأكاذيب والشائعات، مطية لرفعة ذاتك وإيهام الناس بغزارة علمك؛ فكل ذنب يُرجى تركه إمّا بتوبة أو إنابة، عدا الكذب فإن صاحبه يزداد به ولوعًا على الكبر.

وللمعتزلة مواقف متشددة من الاجتراء والدّس والكذب على الله ورسوله ويعدون ذلك خيانة لعهد التصديق، وحنث بيمين الإيمان، وإفساد للملة، وتشكيك في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، كما وصفوا صاحبه بأنه يُبدّد الدين، ويهدم مقاصد الشريعة.

ومن أمثلة ذلك الشر؛ الكذب على الله ورسوله، (وهذا أعظَمُ أنواعِ الكَذِبِ، (والكَذِبُ على اللهِ نوعانِ:

النَّوعُ الأوَّلُ: أن يقولَ: قال اللهُ كذا، وهو يَكذِبُ.

والنَّوعُ الثَّاني: أن يُفَسِّرَ كلامَ اللهِ بغيرِ ما أراد اللهُ؛ لأنَّ المقصودَ من الكلامِ معناه، فإذا قال: أراد اللهُ بكذا كذا وكذا، فهو كاذِبٌ على اللهِ، شاهِدٌ على اللهِ بما لم يُرِدْه اللهُ عزَّ وجَلَّ، لكِنَّ الثَّانيَ إذا كان عن اجتهادٍ وأخطأَ في تفسيرِ الآيةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يعفو عنه؛ لأنَّ اللهَ قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، وأمَّا إذا تعمَّد أن يفسِّرَ كلامَ اللهِ بغيرِ ما أراد اللهُ، اتِّباعًا لهواه أو إرضاءً لمصالحَ يضمرها أو ما أشبه ذلك، فإنَّه كاذِبٌ على اللهِ عزَّ وجَلَّ.

وقد قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] . (يقولُ تعالى: لا أحَدَ أعظَمُ ظُلمًا ولا أكبَرُ جُرمًا ممّن كَذَب على اللهِ، بأن نسَب إلى اللهِ قولًا أو حُكمًا، وهو تعالى بريءٌ منه، وإنما كان هذا أظلَمَ الخلقِ؛ لأنَّ فيه من الكَذِبِ وتغييرِ الأديانِ أُصولِها وفروعِها ونسبةِ ذلك إلى اللهِ - ما هو من أكبَرِ المفاسِدِ.

ويدخُلُ في ذلك ادِّعاءُ النُّبُوَّةِ، وأنَّ اللهَ يوحي إليه، وهو كاذِبٌ في ذلك؛ فإنَّه - مع كَذِبِه على اللهِ، وجرأتِه على عظمتِه وسُلطانِه يوجِبُ على الخَلقِ أن يتَّبِعوه، ويجاهِدُهم على ذلك، ويستَحِلُّ دِماءَ من خالفه وأموالَهم.

ويدخُلُ في هذه الآيةِ كُلُّ من ادَّعى النُّبُوَّةَ) بداية من مُسَيلِمةِ الكذَّابِ إلى ادعاءات ابن تومرت (1130:1077 م) ومحمد بن عبد الوهاب (1792:1703 م) وأبي الأعلى المودودي (1979:1903 م) وحسن البنا (1949:1906 م) وسيد قطب (1966:1906 م) محمد بن أسد (ن 1948 م) ومن لقبوا أنفسهم بالمهدي المنتظر والفقيه الولي الناسخ للشريعة، والملهمين من المصلحين الذين يزعمون بأن أقوالهم هي فصل الخطاب وخلاصة الجواب من أرباب البدع المعاصرة وأتباع الفرقة الناجية والقائلين بالحاكمية وقتل المخالفين وتكفير دون مذهبهم سواء كانوا من الخوارج أو الشيعة أو المارقين عن أهل السنة والجماعة وذلك في كل عصر.

(وقد بدأت الآيةُ أوَّلًا بالعامِّ، وهو افتراءُ الكَذِبِ على اللهِ، وهو أعمُّ من أن يكونَ ذلك الافتراءُ بادِّعاءِ وَحيٍ أو غيرِه، ثمَّ ثانيًا بالخاصِّ، وهو افتراءٌ منسوبٌ إلى وحيٍ من اللهِ تعالى، وهذا فيه تنبيهٌ على مزيدِ العقابِ فيه والإثمِ، وقد أخبَرنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محذِّرًا ممَّن يدَّعون الدَّجَلَ والنُّبُوَّةَ بالكَذِبِ، فقال (لا تقومُ السَّاعةُ حتى يُبعَثَ دجَّالون كذَّابون قريبًا من ثلاثين، كُلُّهم يزعُمُ أنَّه رسولُ الله).

وينسحب ذلك على الثابت من أحاديث رسول الله والموافق للمعقول والمنقول في لفظه ومقصده، وكذا الساخر والمتهكم والمتشكك في الثوابت العقدية المقطوع بربانيتها، وما يتعلق بالشعائر والغيبيات والسنن ومن أمثلة ذلك (الكَذِبُ في الحديثِ الجاري بَيْنَ النَّاسِ؛ يقولُ: قُلتُ لفُلانٍ كذا. وهو لم يَقُلْه. قال فلانٌ كذا. وهو لم يَقُلْه. جاء فلانٌ. وهو لم يأتِ، وهكذا، هذا أيضًا عندهم محرَّمٌ ومن علاماتِ النِّفاقِ.

والحِكمةُ من هذا المنعِ أنَّه يجُرُّ إلى وضعِ أكاذيبَ مُلفَّقةٍ على أشخاصٍ مُعَيَّنين، يؤذيهم الحديثُ عنهم، كما أنَّه يقوي حرفية التَّدرُّبِ على اصطِناعِ الكَذِبِ وإشاعتِه بين الناس.

وتؤدي كل أشكال الكذب السابقة إلى خلط الحق بالباطل، والكذب بالصدق، ولا سيما إذا ورد ذلك في خطابات المشاهير من المتعالمين الذين لهم أثر على الرأي العام (القائد والتابع) في كل عصر.

وتُدْرج المعتزلة المعاريض والتوريّة والتلبيس، وغير ذلك من أشكال التعمية الدلالية التي تلبس الباطل لباس الحق وخداع الحكام والمربيين والمعلمين وأجهزة الأعلام في العصر الحديث تحت ظلمة الإفك والإضلال، أي تعتبر جميعها من صور الكذب.

كما أن لشيوخ المعتزلة موقفًا من أحاديث الآحاد وهي تلك الأخبار التي لا تبلغ رواياتها قدر التواتر وذلك إمّا لضعف الثقة في الرواة أو في عددهم القليل الذي لا يبلغ العُشر؛ فيعرّف الأصوليون حديث الآحاد (بأن مضمونه لا يخبر عن أمر مهم أو ضروريّ أو يتوقف عليه حكم شرعيّ، وأن رواته يختلفون فيما بينهم على حرفيته ومقاصده وملابسات سرده وهو أيضًا الخبر الذي لا يحوي مضمونه برهان صدقه، بل اعتمد على قرائن لا تخلو من الريبة فيها.

وقد تباينت أحكام شيوخ المعتزلة حول درجة صدقه من عدمه؛ الأمر الذي يجعلنا لا نجزم بالشروط التي وضعتها كل مدرسة من مدارسهم التي بلغت العشرين؛ فمعقوليّة الدلالة وأهمية المحتوى وخلو المضمون من جراثيم الارتياب من أي وجه، هو المعيار الذي تكاد كل مدارس المعتزلة اتفقت عليه سواء في تصديق الحديث أو الاستشهاد به في التشريع والحكم على السلوك في التطبيق سواء كون الحديث آحاداً أو متواتراً.

أمّا موقف المعتزلة من حد الردة؛ فكان من أكثر الآراء سببًا في شهرتهم؛ الأمر الذي جعل العديد من الكتابات المعاصرة وصفت جل ما انتهوا إليه في أحكامهم العقليّة تجاه الملحدين والمجترئين بأنه أجرأ آرائهم.

فقد ذهب معظم شيوخ المعتزلة إلى الأخذ بعذر الجهل أي أن المرتد لا يكفر إذا كان علة إلحاده ترد إلى معتقد كاذب أو التباس في الفهم أو عدم التقصي عن حقيقة خبر ما لا أساس له في العقيدة، فمن الواجب في هذه الحالة تبيان له موضع التجديف والتدليس الذي دفعه للإلحاد أو انكار الثوابت العقديّة ذات الصلة بما لم يتحقق من صدقه سواء كان هذا المنقول وحي مجتزأ من سياقه أو حديث للنبيّ صلى الله عليه وسلم يعني واقعة بعينها؛ فعندهم لا ينبغي اتهام هذا الجاهل بالكفر.

أمّا قتل المرتد فلا يجوز معاقبته على شكه أو ارتيابه أو جنوحه إلا إذا ذاع اعتقاده بين العوام أو راح يزدري غيره من المسلمين أو يستحل دماء الأغيار (اليهود والنصارى والصابئة ...) إلا إذا كان فعلهم يشكل ضررًا على أمن الأمة أو إضلالاً للعوام أو إفساداً لأصول الملة، فيطرد أو يقتل إن استخدم القوة والسلاح في فرض ادعاءاته.

وللحديث بقيّة عن الكذب عند المعتزلة وغرابيلهم النقديّة.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم