قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: فتنة التاريخ بين غواية السؤال وشعرنة الذاكرة
دراسة هيرمينوطيقية - سيميائية في شعر ناديا نواصر (ورّاقة الجزائر)
يمثّل الشعر الجزائري المعاصر فضاءً حيّاً وقلقاً في آن، تتجاذبه أسئلة الكينونة والهوية واللغة في سياق الانكسارات الوطنية والإنسانية التي شهدتها المنطقة العربية. وفي هذا الإطار تأتي تجربة الشاعرة ناديا نواصر، الملقّبة بـ ورّاقة الجزائر، لتقدّم صوتاً يتوغّل في الجرح الجمعي، ويعيد تفكيك العلاقة بين الإنسان والتاريخ والمعنى.
قصيدة «فتنة التاريخ» ليست مجرد بناء لغوي، بل هي معمار رؤيوي يتشابك فيه:
١- الصوفي بالوجودي.
٢- الأسطوري بالتاريخي.
٣- المنفى بالذاكرة.
٤- الذات بالروح الجمعية.
تنهض القصيدة على توتّر لغوي ودلالي يتجاور فيه القدري واليومي، ويغدو السؤال محوراً مركزياً يشطر العالم إلى معنى ولا معنى، إلى وجود يُكتب في الهامش، وإلى مقاومة تتشكّل على صهيل القصيدة.
أكتب هذه الدراسة لأكشف عمّا تحت الجلد الشعري من:
١- نبض وتوتّر ورموز.
٢- حركة دلالية تتجاوز ظاهر العبارة.
٣- طاقات تأويلية تنتج طبقات متعددة للقراءة.
٤- سرد شعري يؤرّخ لما يتجاوز حدود التاريخ المدون.
وسوف تنبني الدراسة على تكامل المناهج:
١- الهيرمينوطيقيا التأويلية لفك شفرات المعنى العميق.
٢- الأسلوبيّة لتحليل الانزياحات وطرائق التعبير.
٣- الرمزية لاستجلاء البنى المجازية الدافعة لمحمولات النص.
٤- السيميائيات ومنهج غريماس لاستخراج محاور الأدوار وقوى الصراع
٥- المستويات الجمالية واللغوية والانفعالية والتخييلية.
بهدف إبراز كيف يتحول النص إلى حقل مقاومة لغوي وفلسفي يسائل التاريخ ويعيد تشكيل أفق المعنى الإنساني.
ثانياً: تحليل هيرمينوطيقي تأويلي:
تقوم القصيدة على مفهوم «الفتنة» لا بوصفها غواية جمالية فقط بل:
١- فتنة التاريخ حين يخون الذاكرة.
٢- فتنة المعنى حين ينزلق إلى اللاجدوى.
٣- فتنة الوجود حين يصبح المنفى قدراً.
اللغة ليست أداة توصيفية، بل فاعل في إنتاج العالم. فالقصيدة تصعد من اللحن إلى الحكمة، ومن الأسطورة إلى الوعي.
المعنى هنا متردّد كما ورد في النص:
«للراهن المتردد على فلسفة المعنى»
وهذا التردد هو بوصلة القراءة التأويلية:
معنى يبحث عن نفسه عبر تأويل لا ينتهي.
ثالثاً: تحليل أسلوبي:
أبرز الظواهر الأسلوبية:
1. الشعرنة الكونية
«الأغاني القادمة من هندسة الكون.
2. تأنيث اللغة وديننتهاتقول وراقة الجزائر ناديا نواصر:
«وكأن اللغة أنثى تمشط صباح ظفيراتها»
3. الصورة المركّبة والمتعدّدة الطبقات، تقول:
«السنابل حديث العشيات الندية»
4. تكرار الثنائيات الضدية:
(وجود/غياب — معنى/لا معنى — حرية/قهر).
اللغة هنا تتوتّر بين الانسياب والغموض، بين الوضوح والانزياح.
رابعاً: التحليل الرمزي:
الرمز دلالته المحتملة:
السنابل الحياة، الخصوبة، المستقبل
نهر الحكمة المعرفة التطهيرية
سيزيف العذاب الأبدي والمقاومة
الريح الاغتراب والهوية المراوغة
الوردة المذبوحة اغتيال الجمال بالواقع.
الرمز ليس حلية، بل محرّك دلالي يفتح النص على أفق وجودي عميق.
خامساً: التحليل النفسي–الوجودي
النص يفصح عن:
١- قلق المصير (نكون أو لا نكون).
٢- إحساس الجمع بالخذلان والغياب.
٣- نزوع صوفي نحو الخلاص الروحي.
٤- اغتراب وجودي أمام تاريخ عقيم.
الذات الشعرية هنا ممزقة بين:
الانتماء إلى الوطن / والبحث عن وطن داخلي // الهويّة الجمعية / والفردانية الحارقة
سادساً: التحليل السيميائي وفق منهج غريماس:
نستخرج البنية السردية الخفية:
محاور الأدوار في النص:
الدور السيميائي التمثيل داخل القصيدة:
١- المرسل التاريخ/الذاكرة/الجرح
المرسل إليه الذات الجمعية/الإنسان
الفاعل القصيدة – اللغة – المقاومة
الموضوع المعنى – الهوية – الخلاص
المساعد الحكمة – الأسطورة – الصبر
المانع الخذلان – القهر – اللاجدوى
٢- الصراع السيميائي هو جوهر القصيدة:
المعنى ⇽⇿ العبث
الهوية ⇽⇿ التيه.
سابعاً: مستويات التحليل النصي:
- المستوى أبرز ملامحه:
١- الانفعالي التوتر الوجداني الدائم بين الأمل والانكسار
٢- التخيّلي صور كثيفة تُحيل على ذاكرة رمزية وأساطير
٣- العضوي صور الجسد: اللحن/القلب/الرغبة → دلالة الحياة
اللغوي انزياحات تركيبية – جمل اسمية ذات ثِقل دلالي.
ثامناً: التحليل البلاغي والنحوي
١- بلاغياً:
استعارات متلاحقة، تشخيص مكثف، مزاوجة بين الحسي والمجرّد
٢- نحوياً:
سيادة الجملة الاسمية → ثبات الوجود في مواجهة التبدد
استخدام فعل المضارع → استمرارية القلق والمقاومة
تاسعاً: مقارنة دلالية ضمن الأنساق المعرفية للنص:
- نسق التاريخ نسق الأسطورة نسق الوجود.
- ذاكرة الخيبات سيزيف / الفتنة سؤال «نكون أو لا نكون»
- سرد الألم الجمعي الوردة المذبوحة رحلة بحث عن معنى.
- النص يرفض أن يكون وصفاً للحاضر… بل إعادة كتابة للتاريخ على صهوة الشعر.
الخاتمة:
تكشف قصيدة «فتنة التاريخ» لورّاقة الجزائر الشاعرة ناديا نواصر عن رؤية شعرية تمارس النقد الوجودي للتاريخ، وتعيد مساءلة الحقيقة من موقع الجرح، وتحوّل الشعر إلى فضاء مقاومة رمزية يستعيد إنسانية الإنسان المهدّدة.
لقد أظهر التحليل بأن القصيدة:
١- تنحت ذاتها كترويج فلسفي جمالي.
٢- تنحاز للحياة رغم وطأة الخذلان.
٣- توظّف الأسطورة والتصوّف لإضاءة العتمات.
٤- تبني بنية صراع دلالي بين معنى يتولّد و لا معنى يتوحش.
وهكذا يتحوّل الشعر إلى ما يشبه مانيفستو روحي
يعلن أن عندما تقول:
"الإنسان ليس ابن التاريخ فقط… بل ابن مقاومته للتاريخ".
هذه الدراسة لا تُغلق النص، بل تفتح احتمالات قراءة جديدة،
فالنص العميق — كما التاريخ نفسه —فتنة لا تنتهي.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
........................
نص: فتنة التاريخ
شعر: نادية نواصر
الاغاني القادمة من هندسة الكون
تكابد احتباس اللحن في مضيق اللغة
وكأن اللغة أنثى تمشط صباح ظفيراتها
الشعر الأشقر يمضي الى فتنة التاريخ
بإيماءة المتصوف يلقي عصاه في نهر الحكمة
الوافدون إلى صخب المساءات يتهجون تقاسيم النهارات
للراهن المتردد على فلسفة المعنى
للسنابل حديث العشيات الندية
وهي تعجن طين الرؤيا لتشكل ما انبلج عن فجر الاغاني الشفيفة
الراحلون على ممرات الجمر
كتبوا رسائل خيباتهم واستووا في صفوف الغياب
عند أول هزيع للخذلان
والوافدون إلى صخب السؤال يتهجون قطار العمر
في ممرات الحلم المؤجل
وعلى صهيل القصيدة يرتبون اوراق الرفض
لابسين عباءة الوقت وجبة القهر المبين
أيتها الطلاسم المتشكلة في رغوة البحث
الممزوجة بكيمياء الريح الهاربة إلى اللامعنى
كيف توغل كينونة الاشياء في اللاجدوى
ويظهر التاويل على شفاه الوردة المذبوحة بسكين الرغبة
الهندية الحمراء التي هيأت الارض لعاشقها
دست تحت وسادة الليل المفتون بآخر نجمة
كراسة الأساطير المنسية على صخر المحنة
واردت دانتيل الريح الصاخبة عند أول موسم للقطاف
نكون او لا نكون هي خطانا المكللة بالصندل والريحان والصبار
هل يأتي الخفق على شكل ضربة شمس؟
وهو يمشي إلى تفاصيل السؤال
ميراج خيول الجريئة باتجاه سيزيف الذي عشق صخرته
إذ اتماهى في تعب التدحرج
وهو يعيد نشيد الروح إلى الصدر المفتون بغوايات العراء
النازحون إلى فداحة اليقطين
ياتون على شكل الجرحى حين يناسبهم انين الروح
باحثين عن منفاهم الجميل في وطن بلا بحر، بلا مدن، بلا كل شيء
لا هوية للريح، لا طعم ولا لون، ولا رائحة، غير شكل الاوراق المتساقطة على جسد الطين
والطيور المحلقة خارج السرب تقول تفردها عند امتزاج الأبيض بالاسود
يا مرايا الوقت الجحود كيف نمضي إلى صفوة العمر
في ظل الذي غالط المعنى، وغافل النسيان






