قراءات نقدية

نزار الديراني: انعكاسات مرايا الانوية التائهة في (مواويل للعشق والشجن)

للشاعرة التونسية كريمة الحسيني

عن دار المسار للنشر والتوزيع - 2024 صدر للشاعرة كريمة الحسيني مجموعتها الشعرية الثالثة والتي تجمع بين دفتيها (34) قصيدة و(9) ومضات.

منذ الوهلة الاولى تجد نفسك أمام عتبة يدفعك التأويل فيها إلى متابعة القراءة لكشف عن ما تخبّئه العنونة (مواويل للعشق والشجن) من التساؤل حول ما تريد الشاعرة البوح به مما يجعل القارئ في جاذبية الشّدّ النفسيّ للصورة، من خلال مواويلها التي تحمل بين طياتها مجموعتين من المواويل (النصوص) بعناوينها الفرعية إحداهما للعشق (مواويل عشق، ليس للحب دائرة، الطريق الى القلب، رسائل عشق، حنين، كيف أتحرر منك....) وكما تقول في ومضتها (ليس للحب دائرة):

باكرا تختلط الموسيقى بالقهوة

فتحدث الولادة

وتحيا الإبتسامات على الوجوه الكئيبة

المكتظة بالمخاوف....

والثانية للشجن (لا ظل يشبهني، معانقة السراب، جحيم الصمت، أكوام رماد، ضياع، فوضى المشاعر، تائهون، خذلان، زيف الغرام، ضياع، انكسار،....) وكما في ومضتها (احتراق):

لنبدأ من اليوم بتبادل الأدوار...

تحترق أنت

وأستمتع أنا بمشهد الدمار

ان الولوج لمجموعتيها هذه لا بد ان يكون من خلال عتبتها والتي هي كالمرآة العاكسة لذاتها أولا ولفضاء تخيلاتها ثانيا، كونها مفتاح الدلالة لقوى الفعل التأويلي الموظف للفت النظر الى (أنا) الشاعرة. هذا البناء الذي وظفتهُ في العنونة الرئبسية والعناوين الفرعية جاء طبقاً للمناخات التي واكبتها وفق الحدث القائم في حينه.

من خلال نصوصها هذه نستكشف ان أنين الحب يسري بتدرج الدلالة من البوح بالحب الى الرجاء، الى الحزن والانكسار من خلال سيل من المشاعر والهموم الرقيقة بوضوحها وجمالها، بوحها وشفافيتها المتراكمة في مخيّلتها والتي هي من نتاج إفرازات الآخر وانعكاساته في أنا الشاعرة. وكما تقول في قصيدتها (مواويل عشق) :

أنا لا أرتب الشوق

تقودني مشاعري إليك

كلما اشتد البرد

تأخذني الذكرى

لأنمو بين أناملك

أزهارا برية

ومواويل عشق

وعناقيد عنب لم يدركها الخريف

تكتسب قصائد الشاعرة كريمة الحسيني مسحة من انعكاسات أناها تجاه الاخر محملة تارة بالجمال والعشق والامل، وفي الاخرى باليأس والضياع، بالحزن والعتاب، لذا تكشف لنا عدستها من خلال نصوصها عن مفاتيح أعماقها وترجمة عنونتها باسلوب سردي محملا بالغنائية من خلال لغة بسيطة خالية من الأقنعة والتوظيف الاسطوري والترميز لتكون لغة سلسة محملة بكل ما لديها من أثقالها ومناجاتها النفسية، فالمتحدثة دائما هي ذات الشاعرة وهي تعكس تجربة إنسانية غنية ومتعددة الأبعاد، حيث تتداخل الذات مع العالم المحيط بها من خلال استحضار موضوعات العزلة، البحث عن الذات، والتحول النفسي للشاعرة وكما تقول في قصيدتها (جحيم الصمت) :

قاسية هي القلوب من حولي

تشبه الموت الذي يزج بك

في الجحيم

أنهض كل يوم على العدم

لا عناق يذيب الثلج

المتراكم على كتفي

لا شمس تطرق نافذتي

أرتب شعري

وصدري المبعثر على السرير

تتكشق سرديتها من قولها (أنهض كل يوم على العدم... أرتب شعري وصدري المبعثر على السرير..) وغنائيتها تتجلى بما يعكسه التوتر والتداخل بين الحضور والغياب (قاسية هي القلوب من حولي / تشُبه الموت الذي يزج بك، لا شمس تطرق نافذتي...)

من خلال هذا التزاوج والبساطة تستدعي في ذهن المتلقي فكرة العلاقة المستمرة بين الذات والعالم الخارجي عبر تحولات نفسية معبرة عن رحلة الشاعرة بين التشتت الداخلي والوصول إلى الاستقرار.

يظهر هذا الصراع بين الأنا والآخر بشكل عميق في حالة وجودية بين الحاضر والماضي، بين الاستقرار والاضطراب عاكسة لنا من خلال مراياها المقعرة نموها النفسي ورغبتها في الانتقال من حالة الانغلاق إلى حالة الانفتاح فيتضح في الصورة أن الحلم كان يشكل عالمًا متخيلًا بينما الرؤية تأتي بعد مرحلة من الضياع والانتظار وكما تقول في قصيدتها (ليس للحب دائرة):

ذلك الشيء الذي يطوقك

لا أعرف ما هو

لكنه يشبهني كثيرا

يجعلني أجري نحوك

بلهفة العالم

وأرمي كل الحزن خلفي

أرسم على الأرض دائرة

لا تسع سوانا...

كلانا مكبل بالخوف

قصائدها تعكس الجدل المتواصل بين أَناها والآخر، فتتصارع في داخلها الحقيقة والوهْم. فتعكس مراياها مجموعة من التناقضات فتعرّي زيف الأَقنعة وكما تقول في نفس قصيدتها (تائهون):

أشخاص تائهون

في الشوارع مبعثرون

شيخ يحمل عكازا بيد تشققت

تيبست من التعب ومعاناة السنين

تحت الحائط سيدة في الستين

لا تكف عن التدخين

تمد يدها للعابرين

لتشتري سجائر

تتناسي بها وجعا وحنينا...

في نصوص مجموعتها هذه تعكس انتصارات الروحِ وانكساراتها فتمتاز قصائدها بانسيابية سلسة بين محاورها محملة بصور لها قيمة عاطفية تعبّر عن المفاهيم التي لها دلالاتها، والمشحونة بطاقة انفعالية مخزونة في أناها...

من هنا جاءت نصوص المجموعة وهي منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي، حيث يحضر الآخر بوصفه رمزاً نابضاً وتحضر أناها بوصفها انعكاساً لتصرفات ندها الآخر عبر سيل من الصور الشعرية الجميلة وكما في قصيدتها (معانقة السراب):

أعرف أنك كل ليلة تشتاقني

وتمد يدك إلى أطراف السرير

لعلك تلامس دقات قلبي

وأعرف أن عطري يطوقك مع كل هبَة هواء

وكل صباح تبحث عني بين اللحاف والوسادة

لتغمرني بالقبلات

القصيدة لدى الشاعرة كريمة تولد داخل ذاتها اولا ثم تخرج من أعماق الشاعرة وهي تحمل هاجس الأنا وشظايا الألم والحنين، وذلك لأن رهافة الحس لديها قد فرض عليها هذا التماهي مع التأزمات وفقا لما تقتضيه خبرتها الشعورية... فالأنا لديها هي تعبير عن ذاتيتها ومن خلالها تمتلك بعداً انسانياً مفعما بخصائص متعددة كالفرح والحزن والأمل وكما في قصيدتها (الله):

لا شيء أكتبه حين يهطل المطر

فقط أرسم من قطراته على النافذة

قلوبا وقُبلا

طفلة تجري وتبتسم...

أرقبُ السماءَ بكلِّ حزمها

تُلمَع الأسطح القديمة

أرقبُ الأشجار العارية

تغتسل

أرقبُ الأرضَ تبتهج

أرقبُ العمر يمضي..

من خلال قصائدها تشعر وكأن الشاعرة نصبت عدستها على السطح وأخذت معها عدة الرسم وهي تراقب من خلالها ما يجري على الأرض لتجسده في صور شعرية جميلة.

ولكون الشاعرة تشتغل ضمن القصيدة الغنائية لذا تراها دوما تبحث في مضمونها الروحي من خلال تصوير ذاتيتها أي عالمها الداخلي فجاءت قصائدها وكأتها مرآة الذات الفردية فمثلت أناها في أعماق التمركز الأنوي لتكون وسيلة تفاعل وتواصل مع أنا الآخر.

ومن خلال فيضها الشعري تتحسس منذ خطوتك الاولى في المجموعة ما تصبو اليه الشاعرة من اقتناص اللحظات الهاربة التي تمكنها من ايجاد معادلا نفسيا لحالات الارهاق النفسي وكما في قصيدنها (إمراة من ضوء):

لا تنتظر مني

أن أجلس في الظل

أعد خيوط الشمس

ودرجات الإنتظار

أنا إمراة من ضوء

يغويني عرقي

المستلقي على جسدي

أعاند الصيف

وختاما نقول:

تمظهرت ظاهرة اللامنتمي الى المكان في قصائدها الشعرية كشكل من أشكال التمرد على الواقع كونها ترى تلك النسمة التي تستحق المغامرة من أجلها، فبدأ شعرها يتجه ليتقمط دلالة الذات بوصفه الفضاء الحضوري، فجاءت قصائد المجموعة منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي فاشتغلت الشاعرة على أسلوب السيرذاتي وهو شكل من أشكال السرد الشعري وكما تقول في قصيدتها (عسكر وخيام):

حرب تتجدد كل لحظة

لن أخرج منها بسلام..

أحلامي عسكر وخيام

تلاحقني أصواتهم

تحاصرني..

كرشاشة في وجهي

ولست قادرة على الكلام

***

نزار حنا الديراني

 

في المثقف اليوم