قضايا

علي الخطيب: حين نحيا بالفكر لا بالخبز.. رؤية فلسفية في اليوم العالمي للفلسفة

في عالم تتسارع فيه اللحظات، وتعلو فيه الضوضاء، وتُختزل فيه معاني الحياة في أرقام وصور عابرة، أجد أن التوقف للتفكير ليس مجرد فضيلة، بل ضرورة يحافظ بها الإنسان على هدوئه الداخلي وإنسانيته. لذلك، لم يكن غريبًا أن تخصص منظمة اليونسكو الخميس الثالث من نوفمبر ليكون اليوم العالمي للفلسفة؛ ليس احتفاءً بعلم يُحفظ في الكتب، بل إحياءً لروح التفكير الحر الذي يرافق الإنسان في كل لحظة وقرار.

أنا لا أرى الفلسفة ترفًا فكريًا كما يُشاع عنها أحيانًا، بل أراها الهواء الذي تتنفسه الروح. فنحن لا نحيا بالخبز وحده، بل نحيا بالفكر، وبالدهشة، وبالأسئلة التي تُبقي وعينا يقظًا، ومنفتحًا، ومبدعًا. والفلسفة في جوهرها ليست مجموعة نظريات تُدرس، بل هي القدرة على أن نسأل: "لماذا؟" وأن نعيد النظر في ما نظنه بديهيًا.

ولم تكن الفلسفة بالنسبة لي مجرد مجال معرفي قائم بذاته، بل كانت وما تزال طريقة حياة. كل مرة أبدأ فيها التفكير، أجد نفسي أمام تحدٍ ذاتي؛ في أن أراجع أفكاري، وأختبر قناعاتي، وأبحث عما هو أكثر عمقًا وصدقًا. والتفكير ليس امتيازًا للنخبة، بل حق ومسؤولية لكل إنسان يريد أن يعيش واعيًا لا مقلدًا.

ورغم أن البعض يظن أن الفلسفة بعيدة عن تفاصيل الحياة اليومية، إلا أنها تسكن لحظاتنا الصامتة. حين تُربي الأم أبناءها على الحوار لا الطاعة العمياء، فهي تمارس الفلسفة. حين يرفض شاب أن يتبع ما اعتاده الجميع دون قناعة، فهو يمارس فلسفة الحرية والمسؤولية. وحتى حين يقف أحدنا أمام المرآة ليتساءل: هل أنا صادق مع نفسي؟ فإن تلك اللحظة تحمل جوهر الفلسفة كله.

ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا نحتاج إلى يوم عالمي للفلسفة؟ لأننا ببساطة نعيش زمنًا تآكل فيه التأمل لصالح الردود السريعة، وغابت فيه مساحة التفكير العميق تحت وطأة الإيقاع المتسارع. أصبح العقل مُستنزفًا بالانشغالات اليومية، فبات اليوم العالمي للفلسفة دعوة لإعادة التأمل، لإبطاء الإيقاع، ولتجديد الصلة مع الذات.

غير أن هناك وهمًا شائعًا بأن الفلسفة لا علاقة لها بواقع الناس. والحقيقة أنها مرآته، بل مرآته الأصفى. فالفلسفة تُعلمنا أن نفهم قبل أن نحكم، وأن نُصغي قبل أن نرفض، وأن نحترم الاختلاف باعتباره مصدرًا للثراء لا للانقسام. ومع أن البعض لا يزال يظن أن الفلسفة بعيدة عن واقع الناس، إلا أنها في الحقيقة مرآة له، تكشف ما قد يغيب تحت السطح. فهي تُعلمنا أن نفهم قبل أن نحكم، وأن نصغي قبل أن نرفض، وأن نحتفي بالاختلاف كمساحة للحوار لا للتنازع. ومن هنا، يصبح المجتمع الذي يتدرب على التفكير الفلسفي مجتمعًا قادرًا على التمييز بين الحقيقة والزيف، وعلى رؤية التعقيد في الأشياء دون أن يستغني عن العقل في معالجتها.

وإني أرى أن إعادة الاعتبار للفلسفة لا تتحقق بمجرد نشر كتب أو تدريس مقررات، بل عبر رحلة تبدأ من التعليم وتنعكس في كل مجالات الحياة. فعلينا أن نُدخل الفلسفة إلى المدارس، ليس كدرس نظري، بل كمساحة للتساؤل الحر، وكتمرين على التفكير المستقل، والاستماع العميق، والنقد البنّاء. ومن تجربتي، أعتقد أن الفلسفة حين تتعاون مع الفنون والإعلام تكون قادرة على تعزيز ثقافة تحترم العقل وتشجع على الحوار. كما أن تربية الأطفال على طرح الأسئلة منذ الصغر هي حجر الأساس، لأن السؤال هو البذرة الأولى لكل حكمة.

ومن هنا، يصبح اليوم العالمي للفلسفة أكثر من مجرد مناسبة سنوية، فهو دعوة لإبطاء إيقاع الحياة قليلًا والإنصات لصوت العقل. لقد تعلمت أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يفكر فيه حين يكون صادقًا مع نفسه ومعزولًا عن ضجيج الخارج. فالفلسفة لا تُغير العالم دفعة واحدة، لكنها تُغير نظرتنا إليه، ومن تلك النظرة يبدأ كل تحول عميق.

وحين نفكر، نقترب من ذواتنا. وحين نحاور، نبني جسورًا مع الآخرين. وحين نندهش، نكتشف أن الحياة تستحق أن تُعاش... بالعقل، وبالقلب، وبالسؤال المفتوح.

***

أ. د. علي محمد عليان الخطيب

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب، جامعة المنيا- مصر

في المثقف اليوم