قضايا

ابتهال عبد الوهاب: الإنسان هو الوطن

الوطن ليس سؤالا جغرافيا، بل سؤال وجودي يبدأ من عمق الانسان قبل ان يبدأ من حدود الارض. الوطن هو تلك اللحظة التي يشعر فيها المرء ان حياته ليست مجرد عبور، وان خطوته تترك اثرا، وان كلمته تجد صدى، وان قلبه لا يخاف ان ينبض بصوته الحقيقي

الوطن في جوهره العميق ليس خريطة ترسم ولا حدودا تحرس ولا نشيدا ينشد في الصباح. الوطن فكرة ثم شعور ثم اثر يتركه الانسان في طريقه نحو ذاته. هو المساحة التي يتعرف فيها المرء على صوته الحقيقي لا على صدى ما يفرض عليه من شعارات مستهلكة.

 الوطن ليس ما نولد فيه بل ما نولد به من كرامة وما نحمله من شوق الى حياة تستحق ان تعاش. الوطن هو المكان الذي لا تضطر ان تقايض فيه حقيقتك بالولاء. ولا كرامتك بالصمت  ولا احلامك بالتنازل.

انه المساحة التي تقف فيها دون ان يخبرك احد ان قدميك عبء ودون ان يعلمك الخوف كيف تخفي قلبك في جيبك كي لا يصادر.

 الوطن هو المكان الذي لا يطلب منك ان تنحني كي تصبح مقبولا ولا ان تختبئ كي تكون امنا. هو حيث لا تصبح غريبا عن نفسك حتى وان كنت غريبا عن الجميع.

الوطن الحقيقي لا يصنعه التراب بل الانسان الذي يحول التراب الى حياة.. انسان يزرع عدلا لا خوفا ومساواة لا قبيلة وحرية لا طاعة عمياء.

هذا الانسان هو وطنه الاول فاذا صلح صلحت الارض كلها وان انهار. انهار المعنى من حوله مهما اتسعت الخريطة.

في وجهه نظري كل ارض تمنحك فرصة لتنهض هي وطن وكل ارض تكسر ظهرك حين تحاول الوقوف هي منفى مهما حملت من اسماء عريقة واناشيد رنانة. قد تكون قطعة الصدر التي تحتضنك او لحظة صدق مع نفسك وطنا اعمق من ساحات وجبال وحكومات. فالانتماء ليس مسألة موقع بل مسألة معنى.

الوطن مساحة من الطمأنينة لا تقاس بالامتار بل بقدرتك على ان تكون انت دون خوف.

وحين يتبدل الوطن الى سجان وحين يصبح الاختلاف تهمة. والمرأة نصفا. والمذهب هوية. والرأي الحر جريمة. يتلاشى الوطن ويترك الناس في جغرافيا بلا روح.  فالوطن الذي يحتقر ابناءه لا يستحق اسمه والوطن الذي يحرس الكراسي اكثر مما يحرس العدالة هو مجرد صدى فارغ.

والاوطان تتبدد حين يتحول الحاكم الى ظل الله في الارض، ورجل الدين الى حارس ابواب الجنة، والقبيلة الى هوية جاهزة، والمذهب الى وطن بديل.

قد يكون الوطن اغنية قديمة تعيد ترتيب روحك وقد يكون حضن امك الذي لا يسألك من انت.  وقد يكون صديقا يقول لك ابق كما انت.. او كتاب فتح لك نافذة على نفسك. وربما كما قال العظيم نجيب محفوظ..  الوطن المكان الذي تنتهي عنده كل محاولات الهروب.

رغم كل شيء، يبقى للانسان قدرة عجيبة على خلق وطنه من جديد. من فكرة صغيرة، من بيت يضيء بالحوار، من مدرسة تزرع السؤال، من عمل يوقظ الكرامة، من مجتمع يؤمن ان المواطن ليس تابعا بل شريكا. حينها يصبح الوطن فعلا: استمرارية وتاريخ وتغيير، يصبح عقدا اخلاقيا بين الانسان وذاته قبل ان يكون بينه وبين الارض.

الوطن في النهاية هو هذا الامان الداخلي الذي يجعل قلبك يبتسم قبل وجهك وهذا الضوء الذي يسمح لك بان تزهر دون اذن وان تحلم دون شروط وان تقول دون خوف. هنا لا احتاج الى عباءة غير حقيقتي. هنا أكون. وهكذا، لا يعود الوطن مساحة تراب نختلف على حدودها، بل يصبح مساحة روح نتفق على قيمها. الوطن ليس ما نقف عليه، بل ما نقف لأجله. وحين ندرك ان الانسان هو البداية والنهاية، نكتشف ان كل وطن لا يرفع من قيمة ابنه هو وطن ساقط مهما علت راياته.

و الإشكاليه ليست ان نبحث عن وطن، بل ان نصير نحن الاوطان التي تستحق ان تسكن. فالوطن الذي نرجوه لن يولد من سلطة ولا من قبيلة ولا من معجزة، بل من انسان يعرف كيف يحمي كرامته قبل ان يرفع علمه، وكيف يحرس حريته قبل ان يحرس حدوده.

وعند تلك اللحظة فقط، يصبح الوطن وعدا لا خديعة، ومساحة حياة لا مساحة نجاة، ويصبح سؤال الانتماء اجابة واحدة واضحة

هنا لا ينهزم الانسان

وهنا فقط

يبدأ الوطن.

***

ابتهال عبد الوهاب

في المثقف اليوم