قضايا

علي حسين: فلسفة يومية

اعترف بجهلك: حكمة سقراط التي لا يمكنك تفاديها

في محاورة فيدروس أو الجمال لأفلاطون هناك فقرة توضّح الدور الذي لعبه سقراط في تاريخ الفلسفة، إذ يروي لنا أفلاطون أن سقراط كان يتمشى مع صديق له عندما سأله الصديق وهو ينظر إلى السماء، ما إذا كان يؤمن بقصص اليونانيين عن بورياس الإله الذي يرسل الرياح، وكان الصديق يقصد أن دراسة علمية عن المناخ أفضل بكثير من أسطورة قديمة. أما سقراط فقد قال للصديق أنّه لا وقت لديه للتفكير بقضية كهذه أو السعي خلفها وشرح فكرته قائلاً: "والسبب يا صديقي هو أنني ما زلت غير قادر على معرفة نفسي، ومن الحماقة بالنسبة لي النظر في أشياء خارجية، وأنا لم أتمكن من فهم داخلي بعد" - محاورة فيدروس، ترجمة أميرة حلمي مطر -

طرح سقراط أسئلة على الناس، محاولاً دفعهم إلى التفكير بأوضاعهم، والتأمل في وجهات النظر الأساسية التي واجهت أعمالهم وأقوالهم، ويمكننا القول إن سقراط حاول أن "يوقظهم"، وهو لم يُرد من الناس أن يرددوا ما كانوا قد سمعوه من غير أن يستوعبوه. وكان القصد من المحادثات التي كان يجريها في الأسواق بطريقة استفزازية، هو استنباط ما يمكن أن نسميه المعرفة الشخصية من الذين استنطقهم. وسوف نرى أن الفلاسفة الوجوديين يحاولون أن يتبعوا طريقتهم في إثارة الأسئلة.

شبه سقراط نفسه بالسمكة الرعّاشة، فأسئلته تُجمّد الذي يحاوره وتخلع عن الأشياء قناعها العادي، يهتف التلميذ "ثبايتيتوس" بمعلمه سقراط بعد أن جعله يقرّ بجهله: "بحق الآلهة يا سقراط، إنني لا أفيق من الاندهاش من معنى هذه الأشياء، وأحياناً يصيبني الدوار"، يردّ سقراط بشكل مرح وبسيط: "أجل إن هذه الحال بعينها هي التي تميّز الفيلسوف، هذا هو وحده الاندهاش، هو أصل الفلسفة". فقد كان سقراط يحاول أن يقدم لمستمعيه طريقة بسيطة تمكنهم من تمييز ما هو صحيح بأنفسهم، فهو يصرّ على أن بإمكان أي شخص يملك عقلاً فضولياً أو سعياً إلى التدقيق في المعتقدات السائدة، أن يبدأ محادثة مع شخص آخر في أحد شوارع المدينة بحيث يصل إلى فكرة خلاقة. وكان من عادة سقراط أن يبدأ أسئلته بالإفصاح عن جهله العميق بالموضوع، حتى يجذب الآخر إلى حلبة للمناقشة، ويحوّل بصره إلى الصعوبة الحقيقية في الموضوع، ثم يدخل إلى عمق الموضوع، وكذا كان يشجع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة إلى كرسي المعلم، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على أن يجعل المحاور يصل بنفسه إلى الحقيقة. وقد رأى سقراط أن الفضائل تعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة، وإذا كان الشخص يجب أن يُعلن أنّه لا يمكن أن يُلمّ بكل جوانب الحقيقة وأنه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم، فإن الفضيلة تشير إلى وعي الإنسان، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة، وهذا هو جوهر الفضيلة: "إن الفضيلة ما هي إلّا دعوى دائبة لإعمال العقل".

كان سقراط يقول: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئاً"، فالفلسفة لا تتقدم إلّا عن طريق تبنّي منهج الشك والبحث الدائم.696 ali hussein

إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الإنسان بتعلم الشك، خصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ولهذا قال سقراط: "اعرف نفسك". وهي العبارة التي حاول كارينجي أن يعيد صياغتها، فقد كان يعتقد أن المرء يتعين عليه أن يؤمن بقدراته، لكي يجعل الآخرين يثقون بهذه القدرات.

كثيرون اعتبروا الأسئلة التي كان يطرحها سقراط في الأسواق جنونية، واضطهده البعض وسخر منه آخرون. في مسرحية (السحب) حاول إرستوفانيس أن يقدم صورة كاريكاتيرية للفيلسوف الذي رفض قبول الفهم السائد دون محاججة، وظهر الممثل الذي يلعب دور سقراط على الخشبة في سلة معلقة في السقف، إذ كان يدعي، حسب قول إرستوفانيس، أن عقله يعمل أفضل في مكان مرتفع. لقد كان مشغولاً بهذه الأفكار المهمة إلى حدّ عدم امتلاك وقت للاغتسال.

تبدأ محاورات سقراط التي دوّنها أفلاطون، دائماً بالإفصاح عن جهله العميق بالموضوع، حتى يجذب الآخر إلى حلبة للمناقشة، ويحوّل بصره إلى الصعوبة الحقيقية في الموضوع، ثم يدخل إلى عمق الموضوع. وكذا كان يشجّع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة إلى كرسيّ المعلم، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على أن يجعل المحاور يصل بنفسه إلى الحقيقة. وقد رأى سقراط أن الفضائل تُعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة، وإذا كان الشخص يجب أن يعلن أنّه لا يمكن أن يلمّ بكل جوانب الحقيقة وأنه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم، فإن الفضيلة تُشير إلى وعي الإنسان، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة، وهذا هو جوهر الفضيلة: "إن الفضيلة إلّا دعوى دائبة لإعمال العقل".

نصائح سقراط الحياة متوازنة

في عالمنا المضطرب تبرز حكمة سقراط، كنجم مرشد لأولئك الذين يسعون إلى التعمق في نسيج الحياة. ترك سقراط إرثًا يتحدانا للتأمل والتساؤل وزراعة حياة الفضيلة. ويمكن ان نستنتج منه اليوم الخطوات التالية:

1- فن التأمل الذاتي:

"اعرف نفسك" - دعوة للانطلاق في الرحلة النهائية في الداخل، واستكشاف كهوف رغباتك ومعتقداتك وجوهرك. إنها الخطوة الأولى نحو رسم مسار لحياة ذات معنى

2- البحث عن الحقيقة:

تبنى روح الاستقصاء طرح الأسئلة حول جوهر كل شيء من حولك لتكتشف حقائق أعمق مخفية تحت سطح الحياة اليومية

3- ثروة الحكماء:

في سوق الحياة، حيث يتم تبجيل الثروات، يعلمنا سقراط أن نعتز بالحكمة والفضيلة فوق كل شيء - العملة الحقيقية لحياة مكتملة

4- تبني جهلنا:

إن الاعتراف بأنني "أعلم أنني لا أعرف شيئًا" ليس هزيمة بل انتصار هدفه عن المعرفة. إنه يفتح الأبواب للتعلم والسعي وراء الحكمة.

5- تشكيل الفضيلة:

لترتدي روحك زيا من العدالة والشجاعة والاعتدال والحكمة. هذه الفضائل لا تتلاشى أبدًا مع مرور الاعوام، لكنها بريقًا لشخصيتك يلمع عاما بعد آخر

6- العدالة في كل الأفعال:

إن العيش في عالم عادل ومعاملة الآخرين بالإنصاف والشرف هو حجر الزاوية في المجتمع حيث يسود الانسجام. العدالة كماوصفها سقراط هي اللحن الذي يهدئ الروح وأساس الحياة الطيبة.

7-  السيطرة على الذات:

إن العلامة الحقيقية للحرية ليست في السيطرة على الآخرين بل في ضبط النفس. تحكم في رغباتك لتتمكن من اجتياز رحلة الحياة بهدف وكرامة.

8- رابطة الرفقة الحقيقية:

قم بتنمية الصداقات التي تعكس أعماق روحك القائمة على الاحترام المتبادل والسعي المشترك للفضيلة. هذه هي العلاقات التي تثري رحلتنا، وتقدم العزاء والإلهام على طول الطريق.

9- الشجاعة وسط العاصفة:

واجه عواصف الحياة بثبات الفيلسوف، وانظر إلى كل تحدٍ باعتباره فرصة للنمو. واجه سقراط نهايته بتوازن، وعلمنا أن نواجه تجاربنا بشجاعة.

10- السعي وراء الحياة الطيبة:

بالنسبة لسقراط، فإن جوهر الحياة الطيبة لا يكمن في الإشادات الخارجية التي تنهال عليك، بل في الانسجام مع العقل والفضيلة. إنها رحلة بحث عن الجمال الأخلاقي الذي يتفوق على بريق الإنجازات السطحية.

كان سقراط يؤمن بمقولة: "المعرفة فضيلة". كان يعتقد أن فهم جوهر الخير من شأنه أن يقود الشخص بشكل طبيعي إلى التصرف بشكل فاضل لأن من في عقله الصحيح يعرف ما هو جيد ويختار غير ذلك؟ كانت هذه النظرية طريقته في القول، "كن ذكيًا، افعل الخير".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

.........................

* الصورة في متحف اللوفر بابو طبي اقف بالقرب من المرحوم سقراط

 

في المثقف اليوم