قضايا
مصطفى غلمان: حِكم حَلاجِية.. بين الحق والفقر

(النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها. وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلي (الحق) من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين..).. الحلاج
يُسام الفقر بالحاجة. ولولا عفاف الناس وكرامتهم، لما أوعزت إليهم ذات اليد وقلة الحيلة، الوقوع في محظور الشر أو الاقتراب من المعصية الدنية.
ولو كان لخلق الفاقة من دليل، لكفاها أن قيمة النفس الكافية بأخلاقها والصامدة في وجه الملمات والنوازع الشهوانية والغريزية، تعبر كل شديدة وكربة، فوق ما تستطيع وتستوحش. وقد قال الحكماء، "أن الفقير إذا بات في عقارب تلدغه خير له من أن يبيت ومعه المعلوم". كناية على المقدور مما تدبره إرادة العيش، على منحى الموجود والواجد. فهو أبقى لنفسه ولنفسه، من كل لادغة أو فاجعة.
وأعود لتجربة الحلاج مرة أخرى، عند تقاطع طريق الحق مع الصبر على الفقر. وفيه أن الشيخ الرائي كان يوتر الاستبانة بالحق على كل ما يظهر للمخلوق، فيبصر الكفاية بالله والاصغاء إليه بالمحبة والتعبد، ارتقاء بميسم الحق ونبوغه البصيري. ولعله في قوله: " إذا استولى الحق على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمن سواه، وإذا أحب عبدا حث عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرب العبد مقبلا عليه"، يحدد بالتدقيق مرامي الاحساس بالأمان عند الابتلاء. فالحق قوة خفية مستلهمة، والعقل اقتدار على تحقيق نبل الحقيقة. والاستيلاء لا يتجرد من الهيمنة ولا يبلغها مهما وطأته العداوة، ليتلمس بذلك وعاء الحق قيمته في السعادة الخلقية قبل الخلقية.
ويتساءل الرائي قائلا:" فكيف لي ولم أجد من الله شمة، ولا قربا منه لمحة، وقد ظل الناس يعادونني."، فمهما جرت الوسيلة، زاد التقرب، ومهما بلغت الحيلة اغضى البين أو الشك في الاعتبار وكاشفه الحيز المحذور عتمة المصير والعاقبة.
فحتى معاداة الناس مهما برحت أو طالت، فإننا هي من سعة الحق ونفاذ الحيلة وانقطاع الرجاء. والقيمة المثلى لهذه الدائرة الغامضة، التكشف للحق بالحق، والتقرب لله بالحق، والتشبث بالاقتدار عند باب الخالق.
أما همة المرء عند مجابهة الفقر، فهي الأولى بأسا والاوفر إقبالا عند الصابرين القابضين على الجمر، إذ لو إن مسلك السقم والعلة لا ينثني سوى بالمكابدة والترفع عن الجهل ومغالبة النفس والاقرار بالموجود. يقول الامام علي:" ... وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلاّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً.. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرأ ..".
فهل تكون للفقر أوبة لمنازلة البدل والعطاء بالإخلاء والتمرد؟ أم تشفع للمكبودين الذين شق عليهم الحال وضيق، آثام التحول المجدور بين من يستبصر بنعمة المآل وتجسد القناعة، ومن يؤاخذ الزمن ويداهنه، ويستعير صفات البخل وأورامه؟.
وعلى هذا المنحى، يصير السؤال مجازا للتوارد بين الناس، فلا يعاب على من يمد اليد لسد الجوع أو يكسر الفاقة، وإن بذل غير راض أو فداحة عيب يعيبها المجتمع ويرفضها. وفي ذلك يقول سيد الخلق: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مفظعٍ، أو لذي دمٍ مُوجعٍ".
بل إن أكبر من الوازع المجتمعي وبنية الأخلاق فيه، يوجد الإكراه المؤثر على الإرادة، والإذعان القاطع لدورة القدر، حتى إن الرسول الكريم قرن الكفر بالفقر؛ بل إنه قد يسبب الكفر، إذا لم يقترن بإيمان قوي. وهذا الإيمان القوي هو ما عبر عنه الحلاج سابقا "بالحق الذي يجلب الأنس والوحشة" عوض "القبض والحبس"، يقول في ذلك:
أقلب قلبي في سواك فلا أرى
سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
*
فها أنا في حبس الحياة ممنع
عن الأنس فاقبضي إليك من الحبس
***
د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان