قضايا
ابتهال عبد الوهاب: فلسفه الجفاف الإنساني ومحنة الوعي
الجفاف لا يهبط على الارض وحدها، بل يهبط على الانسان حين يفرغ داخله من نبض الحياة. فهناك جفاف لا تراه العيون، لكنه يلتهم ارواحنا بصمت اشد من كل العواصف. الجفاف لا يصيب الارض فقط. فالارض حين تجف تنذر بالمجاعة، اما الانسان حين يجف في داخله فانه ينذر بانطفاء الوجود نفسه.
هناك جفاف شعور، ذلك النوع الذي يكسو القلب بطبقة من الملح، كلما حاول ان يحب احترق. يحول القلب الى صحراء واسعة، تمتد رمالها كلما حاولنا الاقتراب من الاخر. جفاف يجعل المشاعر هشة، كاوراق خريفية لم تعد تحتمل لمسة ريح. انه جفاف لا يرى، لكنه يسمع في الصمت الطويل بين شخصين كانا يوما قادرين على صنع موسيقى معا.
وهناك جفاف اسلوب، حين تصبح اللغة فقيرة، جافة كغصن ماتت فيه العصارة. الاسلوب الفقير ليس فقرا لغويا، بل فقر رؤية؛ كاتب يرى العالم بعين باهتة، فينقل الينا صورة بلا حرارة ولا عمق. الجفاف هنا ليس في الحروف، بل في الروح التي وراء الحروف.
الجاف لا يكشف عن نقص في البلاغة، بل عن نقص في الوعي، اذ لا يكتب الانسان بيده، بل يكتب بروحه، فاذا جفت الروح تكسرت اللغه. وجفاف المعاملة، حين يتعامل البشر مع بعضهم ببرود يجعل دفء الوجود يتبخر. يصبح العطف ترفا، والاهتمام عبئا، واللطف استثناء نادرا حين يتحول البشر الى الات تؤدي الواجب ببرود، كانهم فقدوا نعمة اللمسة الانسانية. جفاف المعاملة لا يكسر القلوب فقط، بل يكسر الاحساس بان العالم مكان صالح للعيش. انه يجعل الشخص يشعر انه ضيف ثقيل في حياة الاخرين، لا احد يلاحظ غيابه كما لم يلاحظوا حضوره.
لكن اسوأها جميعا هو جفاف العقل.. ذلك الجفاف الذي يجعل الذهن ارضا منزوعة الدهشة، خالية من السؤال. عقل جف هو عقل توقف عن النمو، عن التامل، عن مقاومة القبح الذي يتكاثر من حوله. حين يجف العقل تموت القدرة على التمييز، وتضمحل الفضيلة، وتغدو الحياة مجرد تكرار ميت لحركة بلا معنى. وهو اشدها خطرا. فعقل بلا سؤال هو عقل بلا حياة، وعقل بلا دهشة هو عقل بلا أبواب.
الجفاف العقلي يجعل الانسان يسير في العالم بعيون مطفأة، لا يرى، لا يتساءل، لا يعترض، بل يكرر ما قيل له كما تردد الجدران صدى الاصوات بلا فهم. ومع جفاف العقل يموت الخيال، وتضيق الافكار، ويصبح العالم سجنا من المسلمات.
جفاف العقل لا يهدد صاحبه فقط، بل يهدد المجتمع باكمله؛ اذ يتحول الناس الى نسخة واحدة من الصمت الفكري، يخشون التفكير كما يخشى الظمآن الاقتراب من بئر مسحورة.
ان مقاومة الجفاف الداخلي ليست ترفا، بل فعل بقاء.
علينا ان نسقي ارواحنا بالصدق، ولغتنا بالجمال، ومعاملاتنا باللين، وعقولنا بالسؤال. ولنعلم ان الجفاف الحقيقي ليس ما يحدث في التربة، بل ما يحدث في انسان توقف عن النمو من الداخل، ونسي ان الحياة لا تستمر الا لمن يحافظ على نبع روحه جاريا ومفتوحا.
وفي النهاية، ليست الحياة معركة ضد الموت كما نظن، بل معركة ضد الجفاف الداخلي. فالموت حدث واحد، اما الجفاف فهو موت يتكرر كل يوم.
والانسان الذي ينجو ليس الاقوى، ولا الاكثر علما، بل الاقدر على ان يحفظ في داخله قطرة نور، قطرة حب، قطرة سؤال، تقاوم تصحر الروح وتعيد تشكيل معنى الوجود.
ان خلاص الانسان يبدأ من لحظة يدرك فيها ان اعظم ثرواته ليست ما يملكه، بل ما يبقيه حيا من الداخل. فاذا حافظ على نبع روحه متدفقا، وعلى عقله متسائلا، وعلى قلبه دافئا، فلن يخشاه جفاف، ولن تهزمه صحراء، لان بداخله مطرا لا ينقطع.
***
ابتهال عبد الوهاب






