قضايا
عدي عدنان البلداوي: الخروج من الدين

لا يزال العقل الديني العربي في القرن الواحد والعشرين واقعاً في المأزق نفسه الذي مرّ به في القرن العشرين عندما تمكنت الآلة من التطور، وظهر الحاسوب كإختراع متقدم. فقد كان على العقل الديني العربي حينها ان يعمل على تطوير وتحديث ثقافته الفكرية كي يبني على مرحلة التطور العلمي تلك مباني عدّة تذهب به الى مزيد من الإستعداد لإستيعاب المرتقب من تطور العلم والتقنية، ذلك التطور الذي وصل الى إختراع الموبايل والإنترنت وشيوع استخدام تطبيقاتها في بدايات القرن الجديد، وهو ماضٍ بإتجاه تقنيات الذكاء الإصطناعي. كان من المفروض ان يعمل العقل الديني العربي منذ ذلك الوقت على النهوض بالفكر الديني بما لا يجعله مستخدماً للتقنية في إعادة انتاج الأفكار والطروحات الكلاسيكية دون التعمق في استنباط إستفهامات مرتقبة يفرضها واقع الإستخدام التقني في الحياة العامة، يضاف الى ذلك ما يمكن توقعه من ميول نفسية وانطباعات جديدة يطبعها حضور الآلة المتطورة في حياة الناس ما قد ينعكس سلباً على الإنطباع المألوف في علاقة الفرد بالدين وفي حاجته اليه.
لا يشير الواقع الى وجود هكذا تجديد، أو هكذا نهضة، أو هكذا تطور في آلية تفكير العقل الديني، دلالة ان الأجيال التي أخذت تعاني من مشاكل إجتماعية ومشاكل شخصية افرزتها استخدامات التطور التقني، ومع ان العقل الديني موجود وسط هذه المشاكل الثقافية والاجتماعية، لكنه.
لم يظهر قدرة عالية على تدارك هكذا نتائج سلبية في المجتمع.
ربما بسبب الادوات والوسائل التقليدية التي يستخدمها العقل الديني في التعاطي مع المتغيرات الجديدة، تلك الأدوات والوسائل التي لم تعد قادرة على الصمود أمام الأدوات الجاذبة الأخاذة التي يجدها الفرد العربي المسلم اليوم في وسائل التواصل الإجتماعي وفي صفحات ومواقع الانترنت، وفي الأجهزة الرقمية والاجهزة الذكية.
فأمام انبهار المستخدم العربي بما يحققه العقل العلمي الغربي، لجأ العقل الديني العربي الى إسناد الريادة في هذا التطور العلمي الى القرآن الكريم عبر ربط نوع المنجز العلمي الغربي بنص قرآني.
ان ربط الإنجاز العلمي في الغرب بالإعجاز العلمي في القرآن، يكشف في اعتقادي عن ضعف قدرة العقل الديني العربي على مواكبة ما يترتب على الإنجاز العلمي الغربي، وهذا ناتج عن قلق تشهده طبيعة تفكير العقل الديني بسبب إدراكه لضعف قوة جاذبيته للمتلقي العربي أمام تنامي قوة الجذب التي يعيشها الفرد العربي مع ما يصله من منجز علمي غربي، فهناك مثلاً جهود لبعض الخطباء في التعريف والتذكير بقدرة الإمام علي عليه السلام العلمية في حل مسائل رياضية وفيزيائية صعبة جداً في عصره، فضلاً عن احاديثه عليه السلام عن آخر الزمان، منها انه اخبر بما سيأتي من أيام يسمع فيها الرجل صوت أخيه من مكان بعيد ويراه :
(يأتي زمان يسمع ويرى من في المشرق في المغرب ومن في المغرب في المشرق). اكتفى العقل الديني العربي بذكر هذه الأقوال لجذب القارئ والمستمع الى الدين من خلال الإشادة بعلم الإمام وعظمة إدراكه في قراءة المستقبل، وكان على العقل الديني ان يتخذ من هذه القاعدة الرصينة والتراث الإسلامي الضخم منطلقاً لتوسيع مدارك التفكير العقلي بما يوسع حضور الدين في النشاط الثقافي للعقل العربي، حتى إذا ما وصل الى القرن الواحد والعشرين كان على درجة من الوعي لا يقع معها في الحيرة التي هو فيها اليوم .
تواجه الثقافة العربية المعاصرة انتقادات كثيرة يوجهها العقل المعاصر لتاريخ الثقافة العربية، فكثير من الكتابات والآراء والكتب تنتقد الواقع العربي ومآلات الحالة الإجتماعية والثقافية والسياسية والدينية للفرد وللمجتمع من دون ان تقابلها أفكار ورؤى وبحوث توازي ذلك النقد.
هذا اللاتناسب بين النقد الهدّام والنقد البناء أخذ ينعكس على النضج النفسي للفرد العربي الذي أصبح مقتنعاً بأنه يعيش في مجتمع متأخر، وان هذا التأخر بات صفة ملازمة لطبيعة المجتمع العربي المعاصر، وانه من الصعب عليه ان ينهض بأمره من دون مساعدة قوة خارجية. وبات مدركاً الى حد ما ان هذه القوة الخارجية لن تقدم له يد العون من دون ان تطالبه بمقابل. وكثيراً ما يأتي هذا المقابل على حساب الموارد الطبيعية والموارد البشرية، وعلى حساب الهوية الدينية، في الأحوال كلها فإن الفرد العربي المسلم يعيش حالة من القلق النفسي المزمن ثقافياً. على الرغم من وجود مفكرين عرب وفلاسفة وعلماء، يتعذر انعاش الواقع. لقد بحث العقل في اكثر الأحيان عمّا يرضي المزاج النفسي لصاحبه، لذلك تتباين الآراء حول حدث واحد، فمنهم من يراه صحيحاً، ومنهم من يراه عكس ذلك. إلا الذين اوتوا نصيباً من العلم، فأولئك يقولون آمنّا، وهذا الإيمان يحملهم على قول الصدق والتثبت من الحقيقة، لذلك أكد العليم الحكيم سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على استمرارية حفظه لكلماته التامات، كي تكون هي المعيار والمرجع الذي نقيّم به رؤانا وتصوراتنا وقناعاتنا وافكارنا وقراراتنا، في زمان تستخدم فيه كثير من انظمة حكم العالم العربي ثلاثية: التجهيل، والتدجيل، والتدجين.
كانت صعوبة مهمة الأنبياء في إيصال رسالة السماء الى الناس تكمن في كيفية تأهيل الوعي الذاتي عند كل شخص لتقبل الطرح الجديد لمفاهيم غير جديدة مثل الإله، العدالة، العبادة، وغيرها. فما من مجتمع إلا وله دين كما يقول التاريخ. أو هو يبحث له عن دين، وسواء أكان ذلك الدين سماوياً أم وضعياً، فإن اجنداته كانت تتحدث عن إله وعن عدالة، وهذه المفاهيم تحتاج الى وعي ذاتي يتحرك بصاحبه لاستقبال الدعوات الجديدة التي جاء بها الأنبياء.
لأن كثيرين على مرّ السنين كانوا قد شكلوا وعيهم على اساس انماط حياتهم اليومية، لذلك كانوا يواجهون فكرة الإله الواحد برغم انهم كانوا يعبدون إلهاً أو آلهة متعددة، فليست القضية قضية عدد بقدر ما هي قضية حاجة، فحاجتهم الى استبدال إلههم أو آلهتهم لم يكن لها ضرورة، لأن اوضاعهم الحياتية كانت ماضية بشكل مقنع ومرضي بالنسبة لهم. فهم يزرعون ويحصدون ويبنون ويتزوجون ويبيعون ويشترون.، لذلك عزفوا عن اتباع الأنبياء. وعندما وجدوا الأنبياء مصرين على دعوتهم الى التوحيد، واجهوهم، حرصاً منهم على خط حياتهم من ان ينحرف بعيداً بهم عما يطمئنون اليه، خصوصاً وان الطرح الجديد الذي يقدمه الأنبياء يقوم على نمط حياتي مختلف عن انماط حياتهم. من هنا جاء استغراب الأقوام من دين يساوي بين السيد والعبد، ويرى في اموال الأغنياء حق للفقراء، وهي طروحات تهدد نظام حياتهم وتقلب الموازين التي مضت عليها مجتمعاتهم سنين طويلة.
قد يمثل عصرنا الحالي اخطر مرحلة تاريخية يمر بها الوعي الإنساني. سبب ذلك ان تطور المعرفة والصناعة ودخول الشعوب عصر التقنية الرقمية والأجهزة الذكية جعل مفهوم الحرية الشخصية يتحرك في جو من القلق الثقافي والإضطراب الإجتماعي والفوضى السياسية والمشاكل الإقتصادية، مما اثر في فهم العدالة الإجتماعية . لذلك أخذ بعضهم يتوجه الى قبول فكرة الخروج من الدين من داخل دائرة الدين كظاهرة اجتماعية. فهو خروج لا بمعنى التمرد العلني او الرفض الظاهري او الإلحاد، بقدر ما هو لا تقيد بالتزام النص التشريعي. فمثلاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يدرك الجميع ان الدين هو الإسلام. وان الشريعة المحمدية هي السبيل السليم لتحقيق العدالة الإجتماعية ولحياة آمنة. وفي الوقت ذاته يذهب كثير من الناس الى ان ذلك لم يعد ممكناً على ارض الواقع إلا بمشقة واضحة، ومع ذلك بقي الدين في حساباتهم يمثل الإطار العام لحركة الحياة. اما تفاصيل المشهد الإجتماعي ففيها الوان كثيرة غير محببة لعامة الناس، ولا حتى للمعنيين بالدور الرسالي للانسان في الحياة، فنرى في تفاصيل حياة كثير من الناس غياباً واضحاً لتفاصيل الدين، بل لعله خروج غير مباشر من الدين. هنا تبرز قضية الغربة التي تناولها الحديث النبوي الشريف (بدأ هذا الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) وهو حديث صحيح ذكره غير مصدر من مصادر التاريخ المعتمدة. من المقبول ان يبدأ الدين غريباً، فكيف سيعود غريباً وقد تجاوزت أفواج الداخلين في دين الله مليار نسمة حول العالم؟
ان المشكلة في اعتقادي تكمن في الكيفية التي لم يتم فيها إيصال الفكر الناضج الذي انتجته عقول الأنبياء في جو الوحي الى المتلقين من الأجيال، ممن يتباينون في معدلات نضجهم النفسي والعقلي، إذ لم يكتب للمجتمع العربي خلال التاريخ ان يمر بمرحلة غير قلقة يتحقق فيها ارتفاع لمعدلات النضج النفسي والعقلي بمناسيب متساوية.
بمرور الوقت وبدخول الإقتصاد كعامل قوي فاعل في تحريك تفاصيل الحياة اليومية تعقدت الأمور أكثر، لأن المال يشغل العقل بالارقام والانفعالات التي ينتج عنها اهتمام بالغ بالذات والفردية وبالأنانية، حيث يتم تجاوز معنى الصالح الى معنى المصلحة، هذا المفهوم الذي يحتمل الخاص والعام، في حين ان مفهوم الصالح له وجه واحد، لا يحتمل الخاص والعام. لذا كان الإهمال أو الإغفال مصير كثير من القيم والمثل العليا والمبادئ السامية في الجانب العملي، في حين بقيت تحظى بالتعظيم والتقدير وربما بالتقديس في الجانب النظري. سبب ذلك هو قلة النضج النفسي الذي تسبب في تكوين فهم جزئي، غير مكتمل أو غير ناضج، ودخول الزمن كعنصر أساس في حركة التطور العلمي في العالم، كان له دور مؤثر في إنتقال النضج الجزئي الى مراحل متقدمة من الوعي الجزئي، فكثير من الناس هم من أصحاب وعي جزئي كان يفترض بهم تنميته في ظروف نمو صالحة للوصول الى الوعي الكلي او الوعي الناضج او الوعي الجمعي. لكن الوقت مرَّ من بينهم حتى وجدوا انفسهم أمام واقع علمي عالمي متطور مذهل، جعل في متناول ايديهم تقنيات رقمية جبارة وجذابة، وآلات ذكية متفوقة.
هنا لم يعد بالإمكان تدارك ذلك الوعي الجزئي والنضج الجزئي للنفس وللعقل، لكن بالإمكان ان يكون ذلك الوعي الجزئي، هو كل الوعي الموجود. وفي ضوء ذلك ستأخذ المفاهيم الكبيرة التي نادى بها أنبياء الله معاني جديدة. فالحق مقدّس، والعدالة مطلب حق، لكن آليات الوصول الى هذه المعاني الكبيرة عملياً لم يعد سهلاً، لذلك تخللت هذه المفاهيم الكبيرة تطبيقات خطيرة نتج عنها غياب حقيقي مخيف لهكذا مفاهيم، مما حمل بعض الناس على ان يفرّوا من الدين وهم في داخل دائرته الإجتماعية التي يتعامل فيها بعض الناس مع المسجد كمكان آمن، ومع الصلاة كطقس بدني تلقائي، ومع المصحف كمصدر مجرب لدفع البلاء وجلب الرزق وطرد الشر.واصبحت الأنانية غير منفصلة عن الإنسانية في جو المصلحة العامة والخاصة، فصرنا نقيم مهرجانات واحتفالات كبيرة على شرف أسماء تاريخية وشخصيات كان لها دورها البارز في رسالة الإنسانية والدعوة الى الأخلاق والمثل العليا، وصرنا نقيم نصباً تذكارية لشخصيات تاريخية وأدبية وفنية وسياسية وعلمية، ونذكر سيرهم في كتبنا وبحوثنا وفي مناهج الدراسة، وصرنا نطلق اسماءهم على مشاريع سكنية وشوارع ومشاريع خدمية واماكن عامة وخاصة، لكن ليس هناك حضور جوهري لآثار هذه الأسماء والشخصيات النزيهة والمستقيمة في تعديل الإنحراف الذي يأخذنا اليه الواقع. الأمر الذي ترك في أذهان البسطاء من قليلي المعرفة والوعي، قلقاً نفسياً وثقافياً، سببه استقامة الجوهر وانحراف المظهر، خصوصاً ان حاملي القيم والمبادئ هذه الأيام، هم أقل وعياً بالذات الإنسانية من سابقيهم، وهنا تبرز مشكلة كبيرة تواجهها الثقافة العربية المعاصرة، وهي ان الأفكار العظيمة انتقلت الى أذهان لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الإستعداد الكافي للتفكير بمستوى عظمة هذه الأفكار، أوانها لم تعد قادرة على الإستعداد للوصول الى هذا المستوى من التفكير العميق بعد ان سرق العصر الجديد اوقاتهم واودعها في بنك الإستهلاك الخدمي المعاشي.
الواقع الإجتماعي والثقافي العربي يمضي في اتجاه حصر منظومة رسائل ووصايا وحكم وقيم انبياء الله والمصلحين، في مرحلة الماضي او الجانب النظري الروحي للخبرة والمعرفة الانسانية، أما الجانب العملي المادي فمرهون بيد متغيرات مرحلية ومحلية وعالمية، تمضي بالفهم الى أفكار جديدة تؤثر فيها أدوات العصر بحيث لا تجعلها تتجاوز الماضي ولا ترى انها تسيئ الى حضوره عندما تضعه على الرف.
سعادة الانسان مرتبطة بفهمه للحب. والحب مرتبط بفهم العدالة. والعدالة مفهوم اختلط معناه بين العقل الديني والعقل السياسي، وهذا ما جعل مجتمعاتنا تفتقر الى الحب الحقيقي.
يقول ج. ب. شيشولم (ان الخطر الحقيقي الوحيد الذي يتهدد الإنسان هو الإنسان نفسه. والسبب في ذلك انه يعجز عن استخدام تفكيره الذي بلغ درجة رفيعة من التطور استخداماً فعالاً. وذلك نتيجة لمخاوفه وتحيزاته وتعصبه لآرائه وللكراهية القائمة على غير أساس والتفاني الذي لا يقل عنها بعداً من العقل، وكلها اعراض للمرض النفسي الذي يدل على اخفاقه في تحقيق النضج الانفعالي والصحة العقلية) (1).
***
د. عدي عدنان البلداوي
...........................
(1) كتاب العقل الناضج - ص133 - اوفر ستريت.