قضايا

عبد الهادي عبد المطلب: لماذا يقف العرب في الهامش؟

الوقوف والهامش، إشكالية العقل العربي

توطئة: باستحضارنا للكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، نقول، بعيداً عن فلسفة هذا الكوجيتو، ما أحوج العربي اليوم لممارسة فعل التفكير، وإعمال العقل، ليوجد بالفعل لا بالغياب، ولينظر إلى غاية وجودِه في عالم لا ينتظر التّافهين الواقفين في الهامش، لأن اليقظة الفكرية، رمزٌ للتّحرُّر من القيود التي تشُدُّ إلى القاع، وقيود العربي التي تُحْكم شَدَّهُ لا تُحصى، بدْءاً من استهلاك الفكر دون إنتاجه، إلى أبسط الحقوق وهي التّحكّم في مصيره والتّخطيط له، وهو في خضمّ عملية إعادة تدوير مُخلّفات الآخر، وما تقيّأه، استحْلى الانتظار، وتوقّف عقله عن التّفكير فتوقَّف الزّمن عنده، وانسلّ من بين سنين وجوده الوقتُ، ووقفَ كأبْلَه في لُجّة الزّحام وفوضى الحياة، ينتظر صدقات تُؤجّل أو تُطيل شقائه الإنساني، ف "أَخْلَدَ إِلى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ"[1] يجمع ثروته، يُحصيها، يُراكمها في غير وعي بقوة ما يملك، حتى ترهّلت كرشه، وارتخت عضلاته، فاصبح، بثروته المخيفة، أقلّ ثمنا من برميل الزّفت الأسود، لا يُساوي في سوق الإنسانية المتقدمة مثقال ذرّة، يعيش الفواجع بكل صنوفها بعيدا عن الصّحوة الذّهنيّة، والانتباه العقلي، واليقظة الفكرية.

انطلاقا من السؤال أعلاه الذي يحمل داخله مؤشرات أجوبته، وانطلاقا مما يقول الشيخ جلال الدين الرومي "ابحث عن الإجابة بداخل سؤالك"، هذه المؤشرات تضعنا أمام مفتاحين للسؤال نعتبرهما سبب تعطيل وتراجع فعالية العقل العربي الإبداعية وإصابته في مقتل بالفقر والخوف والتخلّف والعجز، هما الوقوف والهامش، أو كيف انتهى العرب/العقل العربي إلى هذا الحضيض من العجز والتخلف الحضاري والإنساني؟ وما الذي جعل العرب، من بين أغلب شعوب الأرض، يصلون إلى هذه الحال من التخلف والزراية والهامشية والاغتراب عن المسار الإنساني ليقفوا على حافة الاندثار والموت؟ ثم، لماذا لا يُسهمون في تقدم الإنسانية ورفاهيتها؟ وكيف أضاعوا وِجهتهم التي كانوا عليها قرونا مشاعل؟

نحن في حاجة إلى أن نعرف ما نريد، "وهذه هي الحلقة المفقودة في تفكيرنا وممارستنا. هذا هو العائق الجوهري، وهو إنّنا لا نطرح الأسئلة ولذلك نقنع بأشباه الإجابات التي نتجاوزها بسرعة"[2] إجابات تريح تفكيرنا وتعفينا من البحث في الحال والمصير، وفي حاجة أيضا لطرح الأسئلة الواخزة التي نعتبرها أداة مواجهة ووسيلة نقد وبناء، ورفض الجاهز والثّابت والمكْرور والمُزيّف، ونقد الحال وما يؤسّسُه وما يتأسسُ عليه، وما نؤمن به من أفكار ومسلّمات، وبناء نظريات وأفكار تعتمد العقل والتفكير كمنطلق للبناء، وتجاوز النّقاشات والتّراشقات والاتهامات والاتهامات المضادة، من أجل الوقوف على حالات الإخفاق والتراجع والانكسارات، والانتقال من المستوى الأدنى والصّفر، إلى المستوى الأعلى، والنّظر في المسبّبات التي تأسّس عليها التّخلّف العربي، وإحداث قطيعة تدريجية معها، وإعادة بنائها على أسس عقلانية، تنهض على العقل والفكر لتجاوزها.

إنّ نقد ما نحن فيه، مُتجرّدين من أنانا الفارغة، أصبح مطلبا مُلحّاً من أجل إعادة بناء إنسانٍ يعي إنسانيته وحقيقة وجوده، لا نريد أن "يكون الشرق من اختراع الغرب" كما قال إدوارد سعيد، أو يكون الشرق اختراعا غربيا كما قال بورخيس، أو شرقا عربيا صفرا على اليمين، لا تقوم له قائمة، يستهلك ويضحك وينتظر، بل نريد عالما عربيا ينتج، يؤسس، يساهم في بناء حضارة الإنسان، نريد أن نكون نحن، نفكّر بعقولنا ونتحدّى أنفسنا، ونضع أساسات عالم يتساوى مع الآخر، يُنتجُ أكثر ممّا يستهلك، يفكّر أكثر ممّا ينام، يسأل أكثر مما ينتظر الجواب، "ولا سبيل إلى أن ننكر أننا شجرة أينعت وأثمرت زمناً ثم ذَوَتْ"[3]، وحان أن تُسقى بماء الفكر لتيْنع وتُثْمر من جديد.

بناء على ما سبق، من يملك آليات السؤال والبحث فيها، من بيده أدوات الرفض والنّقد والبناء، من يملك آليات تدوير مآزق الحال لإيجاد مفاتيح مآل سليم ينهض على السؤال والفكر وإعمال العقل، ومن باستطاعته إيقاظ العقول المُغلّفة بالتفاهة والجهل والتواكل، من يغامر مبادِراً غير ناظرِ وراءه أو منتظر معجزة تنتشله من خيبته، هو من يتحَكَّم في وجوده ومصيره.

في الحاجة إلى السؤال..

إذا كانت "الأسئلة روح الوجود، وبالسؤال بدأت المعرفة وبه عرف الإنسان هويته، فالكائنات غير الإنسان لا تسأل، بل تقبل كل ما في حاضرها، وكل ما يحاصرها... السؤال جرأة على الحاضر، وتمرّد المُحاصَر على المحاصِر.. فلا تُحاصرك الإجابات فتذهل، وتسلبك هويتك"[4]، والسؤال رغبة قوية ودافع أكيد يُنبئنا موقعنا الحقيقي من العالم، وسرّ وجودنا وهدفه، كما أنه تحصينٌ من أن نكون نسخاً مشوهة متكررة ممجوجة ومبتذلة من الآخر الذي عرف كيف يُمسك زمام السؤال يجيب عليه بما يخدم تقدمه ومصالحهُ أوّلاً، وبما يُبقي العقل العربي في سُباته يتفرّج مبتسما كالأبله يراقب قطار الحضارة يسير مسرعا، لا يُجيد إلاّ التصفيق والتقليد.

السؤال استعدادٌ ومواجهة قبل الجواب، لأن الجواب، مهما صدر، يفضح المسكوت عنه ويُعرّي فضائح العرب التي أصبحت عقائد ومعتقدات يؤمنون بها حتى أصبحت تحكم مسار وجودهم وكينونتهم، وتحوُّل فكرهم من الأزمة إلى الانهيار، ومن النّظر إلى مسببات هذا التّخلّف والتراجع والوقوف في الهامش على أنه قدرٌ، كما أنّ "السؤال بحثٌ، إنّه الاستقصاء والغوص حتّى الأعماق والحفر في الأسس وتقصّي الأصول"[5] وتفتيت بنيات الجذور لمعرفة مسببات هذا الوقوف الذي طالت عقوده.

قبل الجواب، والأمر هنا، فصلٌ ليس بالهزل، والتاريخ يفتح سجلّاته للسائرين، ويرمي الواقفين إلى مزابله النّتنة، وفي معترك السؤال، على العرب أن يتواضعوا قليلا، ويُوَلّوا خطوهم شطْرَ النّهوض بالوضع المتردّي، ويبتعدوا عن أناهم المخنّثة الفارغة، ويفكّروا في الخلاص من التّيه والقلق الثّاوي فيهم والذي يُقيدهم بأستار التّبعية والتقليد والرضوخ التي زرعت فيهم الخوف والخشية من طرح سؤال وجودهم الذي يفضح عُرْيهم ويكشف انكساراتهم واغترابهم، والفراغ الذي يغرقهم في الدّونية التي تمرغ كرامتهم وانسانيتهم حد الغياب من التّشكيلة الإنسانية العالمية.

إن الخشية من طرح السؤال، واستحلال الهامش والوقوف حد اليباس في المكان وعدم المحاولة لتجاوزه وبراحه، والأنانية المقيتة، والتّعويل والتّواكل، وعدم الإصغاء، وهذا أكبر معيقات تجاوز الوقوف في الهامش، هو أن العربي غير مهيأ للإصغاء والحوار وقبول الآخر والفهم منه، وعدم الاعتراف بالخطأ، تلك، لا محالة، عقلية يحكمها الخوف من مواجهة السؤال، وقبول الإخفاقات المتوالية، وانعدام القدرة على المنافسة أو الرّغبة فيها وتقبّل نتائجها وتحكيم العقل فيها.

قبل السؤال، الإنسان العربي في حاجة ماسّة إلى فهم البدايات التي زجّت به في الركن المظلم، وفهم الهامش المرير الذي يقف فيه، والتّفكير بجدية وتبصّر في الذي مضى، والحال والمآل وذلك قبل أن يخوض مغامرة الأجوبة والعمل بها، عليه أن "يصنع نموذجه ويغيّر واقعه على طريقته. ربّما يحتاج الأمر إلى "ولعة" كي تندلع الشرارة، ويتداعى البناء، ويحتاج إلى حدس مفاجئ كي يشتعل الفكر المتكلّس ويتحرّر العقل المستعبد، يحتاج إلى خيال خصب وسيناريو خلاّق لكي تنطلق القوى المعطّلة والطّاقات المشلولة.."[6]، يحتاج إلى فكر نهضوي تنويري يؤمن بأخذ المبادرة والسّبْق لها، وإعمال العقل لخلق واقع "جديد" يقود إلى المستقبل من دون خوف أو تردّد، كما يحتاج إلى وضوح الرؤيا قبل المغامرة، ليجعل من السؤال معركته الوجودية محسوبة النتائج للقضاء على الاغتراب والصّدإ الذي يأكل عقله.

قبل خوض غمار السؤال، والبحث داخله عن الأجوبة ومحاولة الخروج من مخْلبيْ الوقوف والهامش، نطرح سؤالا بين يدي تلك الأسئلة السابق طرحها، ونعتبره أولى الخطوات لبسط إشكالية الوقوف والهامش، هل العربي أو العقل العربي عصي على الفهم والقراءة والتحليل، أو أنه استمرأ واستحلى حياة الدّعة والكسل والخمول وتمرُّغه في "الأنا" الفارغة من كل نخوة وكرامة إنسانية حين اكتنز الدرهم والدولار لدرجة أنه أصبح يخشى طرح سؤال وجوده؟

أكبر مصائب العربي أنه يُعلّق تخلّفه على شمّاعات ومشاجب سهلٌ إيجادها، وتسميتها بمسمّيات تخدم تخلفه وتبعث فيه الاطمئنان لحاله المتدني، وتفسر هوانه على نفسه وعلى الإنسانية، وتوقفه مُنْتظراً معجزة تنتشله وتُخلّصه من واقعه، وتأخذ بيده إلى بر الأمان وتحقق أمانيه؛ كما، أعتقد جازما غير مجانب للصواب، أن مصدر التدني والاغتراب والتخلف، وكل المسميات التي تطعن في المستوى الذي وصله العربي وتعيبُه، عائد إلى "التّعوّد والألفة" مع ما يصدره الآخر ويتشربه من غير سؤال، والابتعاد عن المغامرة والإبداع وإعمال الفكر واقتحام مجاهل الحياة، إذ في غياب الوقوف الند للند، ومجابهة المجهول بالسؤال والحراك للتّصدّي للوضع الرّديء، وتقبّل الوضع بالصّمت والرضى والرضوخ والابتسام البليد، والتبرير والتّشكّي والبكاء عوض طرح السؤال بالجرأة عليه، ومواجهة الحال لتحليله وتغييره لعل المآل يعتدل ويستقيم.

من الوقوف إلى الانتفاضة..

من المؤكّد أن الانسان العربي قاسى من الويلات ما يقصم الظّهر، ويزُجُّ به في أتون الركن المظلم القصي كالاستعمار والتّبعية "والقابلية" للذل، والفساد السياسي والأخلاقي، وطغيان أصحاب السلطة والمال، وغياب الديموقراطية الحقة...وهذا الأمر لا يسمح لنا بإيجاد فجوة ننسلُّ منها لتبرير هذا التّخلّف، نقف عند بعض أسباب التراجع لتفكيكها ومحاولة تجاوزها وإضاءة موضع الخطو لتثبيت القدم وتأكيد السر نحو الأمام، ونعرضها هنا، لا لتبرير الواقع، بل للوقوف أمام السؤال بجرأة وتحدّ وتشريح الحال، إذ لا يمكن توصيف الدواء في غياب معرفة علمية دقيقة بالداء، فالداء هنا معروفٌ ومعروفةٌ أسبابه، ومشخّصٌ وظاهرٌ للعيان، والْتزام الصمت والرضى بالهوان والتّخلّف، هو الدّاء العضال، الذي ينخر الجسم العربي ويضرب عميقاً في العقل العربي، فلا بد من المواجهة والانتفاضة لتحقيق التغيير  دون خشية أمام السؤال، لماذا هذا الوقوف المخزي في الهامش؟

صحوة العربي تحتاج للتفكير الجدّي في حقيقة وُجوده، وإشكاليات واقعه، ونبذ التّصوّرات والآراء الجاهزة، وفتح الطّريق نحو الأصول لنبشها واستخراج كنوزها، والارتواء ممّا جعل الأولين منّا يأخذون بزمام العلوم قروناً، والأخذ بآليات سبْرِ الواقع لاستخلاص مواطن القوة وتفعيلها وتحريكها نحو التغيير، ومواطن الزّلل لمسائلتها والتّحرّر منها، وطرح الافتراضات والفرضيات القمينة بالدّفع بالقطار العربي إلى التّحرّك نحو الأمام، والمشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية، والانطلاق إلى آفاق جديدة للبحث في كل الميادين التي تدفع به إلى الغوص في إنسانيته، لاستخراج ما يجعله فاعلا ومؤثّرا سائقا غير مساق، كبهيمة بكماء لا تُحسن إلاّ  الأكل والراحة.

قبل أن نلج تخوم الإجابات، على العربي أن يواجه ذاته والمحيط الذي ينتمي إليه، إذ بين الوقوف والهامش، واقتحام معاقل الأسئلة المقلقة، تنبجس الانتفاضة، بعيدا عن التسرع واللوم، ويستنفر العقل ليتحرّك، والفكر ليخوض في التراجعات والإخفاقات التي قصمت ظهره وأحالته شيئا لا قيمة له بين أهل الأرض. كثيرة هي التّحدّيات التي تنتظر العربي ليكون، ليرفع هامته بين الأمم ناظراً إلى الأمام دون خوف أو تردّد، ويجعل من السؤال هزّة ورجّة تعيده إلى وعيه، وتدفع به إلى الانخراط في صناعة المعنى الإنساني، والقطع مع العادات السيئة التي تحكم فكره منذ قرون، والتّيقّن بأن تقليد الآخر يُنسي الأصل، واقتباس الأفكار ولّى زمنه، والوقوف انبهاراً أمام النموذج الغربي يزيد في تخلّفه، لذا عليه أن يغامر، ويستيقظ من غيبوبته التي طالت، ويفهم جيدا أسباب تراجعه، والصراعات الخائبة والخاسرة التي تتنازعه، عليه، الآن، عاجلا غير آجل، أن ينتفض ليُعيد بناء وجوده منبعثا من رماده، من القمقم المظلم الذي يرزح سجينا في حضيضه، وينطلق من حطامه حيّاً حراً ينافس بكل جرأة صنّاع الحياة ورفاهية الإنسان.

لقد "شغل العرب الدنيا بقضاياهم ومشكلاتهم على وجوه السّلب والعُقم والعجز" [7]، وأصبحوا موضوع نقاش مستهلك للشماتة والاستهزاء، وعلى العربي أن يُغيّر نظرة الآخر إليه، إذ ما دام يُنظر إليه كموضوع، فإن الأمر لا محالة سيُرسّخ لديه حالة "القابلية" للوقوف في الهامش والتّفرّج، الشيء الذي جعل الآخر يركب موجاته ضد كل ما هو عربي أو إسلامي، "والواقع، أن المجتمع [العربي والإسلامي] مالم يهتدِ إلى إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنّها من إبداعه ابتداءً، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التّيه الفكري الذي أصاب العقول فيه"[8]، أما ونحن في غياب تام عن فهم ما نحن عليه من تخلّف ومسكنة والرضى بالواقع والحال والمآل، وأن لا نُبدي أي استعداد لتغييره دون تجاهله أو إلصاق مسبباته بغيرنا، دون أن نجد له خلاصا، فهذا سيفاقم الأزمة وتنهار كل المرجعيات.

اختيار صعب، لكنه ليس مستحيلا..

هذا الوضع العربي التراجيدي هو الذي دفعنا إلى طرح السؤال بكل جرأة ومن دون خوف أو خشية من ردود أفعال الآخر عن سبب تأخرنا في طرح السؤال وخوض مجاهله، لأننا بهذا لا نريد أن يملأ بنا العالم الفراغ، أو أن نسير متعثرين بين الحُفر، أو نكون وصمة عار في جبين الإنسانية. لهذا وبكل الجرأة الصّادقة، لمواجهة ذاتنا أولا ثم العالم والتاريخ، نقول، لا نريد للعربي والعقل العربي، أن يكون موضوعاً للنقاش، أو شيئا يملأُ فراغ العالم، تلوكُه الألسُن وتتجاوزه خطوات المسير، وتنظر إليه العيون احتقارا، بل نريده أن يقْتحم معاقل السؤال، وأن ينظر إلى الحال بعين ناقدة تخترق الحال والمآل، وتفتح رحباً للأجوبة أن تدفعه إلى التّحرّك والخروج من الهامش،" وإعادة ترتيب علاقته بذاته وبالعالم، وعلى نحوِ يجعله يفكّر ويعمل كذات تمارس فاعليتها وحضورها، بقدر ما تملك استقلاليتها وتمارس حرّيتها في المبادرة والاختيار والمشاركة في صنع المصائر"[9]. إن استمراء دور الضحية المستهدفة أبدا، المقهورة والمغلوبة دائما على أمرها، والباحثة عن "هولوكوست" عربي تغرس فيه آلامها وظلم العالم لها، جعل العربي، يقف في الهامش خارج المسار الإنساني، لدرجة يصعب معها إعطاء تفسير علمي واضح لحالة العجز، التي تلتصق به، والتقهقر والتخلف والذل الحضاري الذي أصبح يسِمُ حضوره ويهدده في عقر داره وهو واقف لا يُبدي أقل استعداد للنهوض والسير والتغيير، يُداري جمرته رغم انطفائها في غير محاولة لإعادة شرارتها.

من الهامش إلى المركز..

التاريخ يطأ الضعفاء والمتخاذلين والمستمرئين الوقوف في الهامش، والمتفرّجين على حالهم دون حراك، ولا ينظر إليهم ولا يبالي بوجودهم، بل يبسط كفَّيْه لمنْ يغامر مقتحما معاقل السؤال من دون خوف أو تردد، لمن يسير جنبه يسجل بفخر انتمائه للإنسانية، لمن يؤمن بطاقاته وممكناته ولو في حدودها الدنيا، لكنه يسير رغم تعثّره، لا يتوقف، لمن يُحدث القطيعة مع مخلّفات ماضيه التي تشدّه إلى الأرض شدا، تثبّط عزائمه، تُزيّن له الذي مضى، لمن "يصنع مستقبلا جديدا تنكسر معه الصور النّمطية السلبية عن العرب، لكي تتشكل صورة جديدة مشرقة، بوصفهم، كانوا، بُناة الحضارة ومن صنّاع المعرفة والحداثة والتّقدّم، للمشاركة مع بقية الجماعات والأمم في رسم مستقبل أفضل للبشرية"[10].

التاريخ يمد كفيه لمن ينتقد ذاته عوض البكاء وانتقاد الآخرين وإلصاق عجزه بهم، لمن يؤمن بأن التغيير ممكن وليس مستحيلا، وأنّه مطلبٌ يرتكز على الصبر وإنكار الذّات، وإعمال العقل والفكر والذكاء، والإبداع والخيال، وفهم الحراك الهادر الذي يعرفه العالم وهو يموج يسمّي جبروته بمسميات وأفكار ومفاهيم ونظريات ومواقف وممارسات، تخلق الريبة والتراجع والخوف لدى العربي الذي يستكين للأمر الواقع فيغوص عميقا من القعر.

صحيح أن العقل العربي يعيش مخاضا عسيرا وتحوّلا قاسيا ومواجهة عنيفة مع ذاته والآخر، والمتغيرات العالمية المتسارعة والمتمثلة في العولمة المتوحشة والرأسمالية البغيضة، والصراعات الطبقية واستغلال الثروات، والفقر والجهل، وغياب الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، وصحيح أيضا أن هناك أصوات ترتفع بما أوتيتْ من فكر وعلم ومعرفة، في محاولات لتغيير الحال، والابتعاد عن الهامش، لا تتفرّج على العالم يصنع وجوده ووجود الإنسان على مقاسه، بل تُجابه مع صانعي الحراك الثقافي العربي في الثغور، لا "ليحصوا خساراتهم وهزائمهم التي تثقل ذاكرتهم وعقولهم وملامحهم، ولا ليمارسوا طقوس الحزن التي يُقيمون لها مواسم وأعياد أدمجوها في عقائدهم، بل ليواجهوا متطلّبات بقائهم قيد الوجود الآن وهنا، وينطلقوا خفافا نحو مستقبل ممكن ومتاح"[11] وهذا دافع قوي للتغيير، للخروج من المأزق وأزمة الموضوع، "والدخول إلى التاريخ من باب جديد وبملامح جديدة".

لا خيار ثالث، إمّا أن يستفيق العربي من سُباته ويتحرّر، أو يظل واقفا راسِفاً في عجزه وتأخّره يملأُ الفراغ الإنساني، يُرقَّع به الوجود كبيدق زائد لا يُرجى نفعُه، لأن العالم في مسيرته نحو المستقبل واقتحام معاقل الفكر والمعرفة والإبداع، يُحرّر العاجز إن أبدى استعدادا للانتفاض والتحرّر "من سجنه الفكري على النّحو الذي يُمكنه من ممارسة علاقته بوجوده كذات حرة، مستقلّة، تفكّر بصورة حية، خلاّقة، فعّالة، من غير وصاية من أي نوع كان"[12]، وإذا كان التّحرّر هو "خروج المرء من قصوره العقلي"[13] ودخوله فضاء البحث عن أسباب التنوير، ينهض على إبداع أفكار وقيم ومفاهيم عربية تصنع نجاحاته وتقدّمه بعيدا عن الهامش والعقد والحساسيات التي قيّدت عقله لقرون خلت، فالتاريخ والآتي من زمن التقدم وهيمنة المعرفة ونُظم الذّكاء الاصطناعي يسير مبتعدا عن الواقفين في الهامش.

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

.........................

[1] قرآن كريم، سورة الأعراف 7، الآية 176.

[2] سعيد يقطين. اللغة، الثقافة، المعرفة، (إشكالات ورهانات)، دراسة. خطوط وظلال للنشر والتوزيع 2023 . (ص 121).

[3] يحيى إبراهيم حقي. قنديل أم هاشم(رواية). سلسلة إقرأ عدد 18. دار المعارف المصرية، ط 3. ص 52.

[4] يوسف زيدان، أنثى الأفعى. دار الهلال 2006، (ص 104)

[5] موريس بلانشو. أسئلة الكتابة. (ص 9)

[6] علي حرب. ثورات القوة الناعمة في العالم العربي من المنظومة إلى الشبكة. ط 2. الدار العربية للعلوم 2012. (ص 52)

[7] طه عبد الرحمن. روح الحداثة (ص 181)

[8] طه عبد الرحمن (ص 11)

[9] طه عبد الرحمن. روح الحداثة. (ص 164)

[10] علي حرب. توراث القوة الناعمة. (ص 55)

[11] فتحي المسكيني.

[12] علي حرب. (ص 119)

[13] علي حرب (ص119)

 

في المثقف اليوم