قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: السيميولوجيا والأدب

من العلامة إلى المعنى ومن الرمز إلى الشعر

منذ أن بدأ الإنسان ينقش على جدران الكهوف رسوماته الأولى، وهو يسعى إلى جعل العلامة امتداداً لوجوده وتعبيراً عن عوالمه الداخلية والخارجية. فالعلامة لم تكن أبداً محايدة، بل هي إشارة مشبعة بالمعنى، جسدت منذ البدء رغبة الإنسان في التواصل مع الماورائيات، وفي التعبير عن سرّ الوجود. ومن هنا يمكن أن نفهم كيف تدرج مفهوم السيمياء من دلالاته الروحية والميتافيزيقية في الثقافات القديمة إلى أن صار اليوم علمًا يُعرف باسم السيميولوجيا أو السيميائيات، أي علم العلامات الذي يبحث في أنساق الرموز ودلالاتها في اللغة والفن والأدب.

أولًا: في معنى السيمياء والسيميولوجيا

السيمياء في الأصل العربي تدل على العلامة؛ ورد في القرآن الكريم: "سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ" (الفتح: 29)، أي أثر ظاهر هو علامة على معنى باطن. بهذا المعنى، السيمياء هي علم العلامات والدوالّ التي تتوسط بين الغائب والحاضر، بين الظاهر والباطن، بين اللغة والوجود.

ومع انتقال المفهوم إلى الفكر الغربي، تشكل مصطلح sémiologie عند فردينان دو سوسير وsémiotique عند تشارلز ساندرس بيرس، ليصبحا معًا أساس ما يعرف اليوم بـ علم العلامات.

- سوسير نظر إلى العلامة على أنها اتحاد بين الدال (signifiant) والمدلول (signifié).

- أما بيرس فقد وسّع المفهوم فجعل العلامة ثلاثية البنية: العلامة، الموضوع، المؤوِّل.

هكذا، لم تعد السيميولوجيا مقصورة على دراسة الرموز الدينية أو الطقوس، بل أصبحت أداة تحليلية لفهم كل أشكال التواصل، وفي مقدمتها الأدب.

ثانياً: السيميولوجيا والأدب – العلامة كلغة جمالية

الأدب بطبيعته خطاب رمزي، لا يقدَّم بلغة مباشرة، بل بلغة مشحونة بالصور والاستعارات والإشارات. ومن هنا يصبح الأدب، كما يقول رولان بارت، "نسقًا من العلامات" يمكن تحليله مثل أي نظام لغوي.

- الرواية تقوم على شبكة من الرموز والشخصيات التي تؤدي وظيفة علاماتية.

- المسرح يزاوج بين العلامات اللغوية والبصرية (الحركة، الإضاءة، الملابس).

- الشعر هو التجلي الأرقى للعلامة، حيث تتحول الكلمة إلى رمز مضاعف يفتح فضاءات لانهائية للتأويل.

وبذلك يمكن القول إن الأدب ليس مجرد نص لغوي، بل هو نسيج من العلامات التي لا تُفهم إلا عبر سيميولوجيا التأويل.

ثالثًا: الشعر بوصفه مختبر العلامات:

إذا كان الأدب عامة حقلًا رحبًا للعلامات، فإن الشعر هو أكثرها تكثيفًا وثراءً سيميولوجيًا.

في الشعر، تتحول الكلمة من مجرد دال إلى أيقونة، تحمل أثرًا موسيقيًا وصورة ذهنية ورمزًا ثقافيًا في آن واحد.

الشعر، كما رأى هايدغر، هو "لغة الوجود"، أي اللغة التي تكشف حقيقة الوجود عبر رمزيتها الكثيفة.

- عند بودلير و"شعراء الرمزية"، كانت القصيدة معملًا للعلامات، حيث تتحول الأشياء اليومية إلى رموز روحية (الزهور، الليل، الطيور...).

- أما عند أدونيس في الشعر العربي الحديث، فالقصيدة هي تفجير للعلامة التقليدية وإعادة شحنها بدلالات جديدة تتجاوز القاموس الموروث.

من هنا، يمكن اعتبار الشعر "السيمياء الحديثة"، حيث لا يُقرأ على مستوى المعنى الظاهر فقط، بل يُفكك بوصفه بنية علاماتية متعددة المستويات.

رابعاً: السيميولوجيا كمنهج نقدي في الأدب والشعر

- النقد الأدبي الحديث استفاد من السيميولوجيا لقراءة النصوص:

- رولان بارت تحدث عن "موت المؤلف" ليحرر العلامة من نوايا صاحبها، معتبرًا النص شبكة علاماتية تنتج المعنى في كل قراءة.

- يوليا كريستيفا ربطت بين السيميولوجيا والتحليل النفسي، فرأت في النص فضاءً للتناص حيث تتداخل العلامات من نصوص مختلفة.

- أمبرتو إيكو اعتبر النص "آلة سيميائية مفتوحة"، لا تُستنفَد دلالاته، بل يظل يولّد معاني جديدة مع كل قارئ.

وهكذا، صار المنهج السيميولوجي أداة لكشف عمق البنى الرمزية للنصوص، خاصة الشعر الذي يتطلب قراءة تتجاوز المباشر إلى استنطاق العلامات الكامنة.

خامسًا: الشعر العربي والسيميولوجيا – بين التراث والحداثة

- الشعر العربي القديم كان زاخرًا بالعلامات:

- في المعلقات، نجد علامات الصحراء (الأطلال، الديار، الإبل) التي لا تحيل فقط إلى الطبيعة، بل إلى قيم البداوة والذاكرة الجمعية.

- في الشعر الصوفي (ابن عربي، الحلاج)، تتحول اللغة إلى سيمياء روحية، حيث الخمر والورد والمرأة رموز لحقيقة ميتافيزيقية.

- أما الشعر الحديث (السياب، درويش، أدونيس)، فقد جعل من العلامة مجالًا للتجريب والتفجير، حيث تتعدد الرموز (المطر، الوطن، البحر، المرأة) لتصبح نصوصًا مفتوحة على التأويل السيميولوجي.

خاتمة

يتضح أن السيميولوجيا ليست علمًا منفصلًا عن الأدب، بل هي عدسة كاشفة تسمح لنا بقراءة النصوص في أفقها الرمزي والتأويلي. فالأدب عموماً، والشعر خصوصاً، هو مختبر حيّ للعلامات، تتقاطع فيه اللغة مع الثقافة، والمعنى مع الرمز، والدال مع المدلول. وكما يقول أمبرتو إيكو: "العالم كتاب مفتوح للقراءة"، فإن الشعر هو الصفحات الأكثر كثافة وإشراقًا في هذا الكتاب، حيث تتحول العلامة إلى فنّ ومعنى، واللغة إلى أفق جمالي وفلسفي يلامس جوهر الإنسان.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم