قراءات نقدية
كاظم اللامي: مقالة نقدية للعرض المسرحي "وين رايحين؟"
عن نص بعنوان (الحافلة) لـ (خالد جمعة) كتابة 1994 وسينوغرافيا وإخراج ومعالجة نصية لـ (د. حيدر منعثر). بطولة لمياء بدن وزهرة بدن ولؤي أحمد وطلال هادي وأياد الطائي وآخرون والذي تم عرضه على خشبة مسرح الرشيد يوم الثلاثاء الموافق ١٧/ ١٢ / ٢٠٢٤ ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح 5/ دورة الفنان الراحل الدكتور شفيق المهدي.
حين يتحوّل سؤال بسيط كـ "وين رايحين" إلى صرخة وجودية تهز أركان المسرح العراقي، تدرك أنك أمام عمل استثنائي يتجاوز حدود التقليد ليؤسس لرؤية مسرحية معاصرة. على خشبة المسرح، تتجسد حافلة معطلة، ليست مجرد ديكور ثابت تراه وتحسه من الخارج بل حقيقة تعيشها من الداخل وتتماهى معها لأنك احد ركابها بامتياز، وهي استعارة درامية لوطن محاصر بأسئلة المصير وقلق الهوية. يقودها سائق متوهم مغتر بحنكة زائفة، بينما يجلس على مقاعدها مانيكانات جامدة تنتظر لحظة التحول، في مشهد يختزل مأساة مجتمع يترنح بين سلطات متعددة وأيديولوجيات متصارعة.
يقدم المخرج حيدر منعثر في "وين رايحين" معالجة إخراجية فريدة تمزج بين نظرية ستانسلافسكي في تحريك الكتل وأسلوب بريخت في التغريب المسرحي. فالمانيكانات الثابتة التي تولي ظهرها للجمهور ليست مجرد عناصر سينوغرافية، بل هي تجسيد لحالة الصمت والخضوع التي تسبق الثورة، في انتظار لحظة التحول الدرامي التي ستهز وعي المتلقي.
لنرتقي سلم مستويات العرض البصرية ونطأ العتبة الأولى فيه التي هي العنوان "وين رايحين؟" حيث تجلى العنوان كسؤال وجودي عميق يتجاوز حدود الاستفهام البسيط عن الوجهة، ليطرح إشكالية فلسفية وجودية واجتماعية متعددة الأبعاد.
فعلى المستوى الفلسفي، يستدعي العنوان أسئلة الكينونة الأساسية: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وما معنى وجودنا في عالم يفقد بوصلته كلما مضت خطواتنا فيه بعيدا؟ إنه سؤال يستبطن القلق الوجودي الذي تحدث عنه هايدغر، حيث يجد الإنسان نفسه "مقذوفاً" في عالم يفتقد فيه اليقين ويبحث عن معنى لوجوده.
اجتماعياً، يكشف العنوان عن أزمة مجتمع يعيش حالة من التشظي والضياع. فالسؤال "وين رايحين؟" يعكس حالة جماعية من فقدان البوصلة في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العاصفة. إنه صدى لصوت جيل كامل يجد نفسه عالقاً بين موروث ثقيل وحداثة مربكة، بين سلطات متعددة تفرض وصايتها، وبين هويات متصارعة تسعى كل منها للهيمنة.
أما على المستوى الوجودي، فيتحول "وين رايحين" إلى صرخة احتجاج ضد العبثية والعدمية. إنه سؤال يحمل في طياته بذور التمرد على واقع مفروض. يتجاوز الاستفهام هنا مجرد السؤال عن الوجهة ليصبح تعبيراً عن قلق الهوية في عصر تتآكل فيه المعاني وتتشظى فيه الذوات.
الحكاية: مجموعة من الركاب تحتضنهم حافلة معطلة وسط مكان يجهلونه بتعمية قصدية ليشمل وطنا بأكمله تواجههم عقاب الوصول لوجهاتهم بألوان مختلفة لكنها واقعية عشناها كذاكرة جمعية لا تفارق وجداننا وخوفنا الدائم من عودتها. في سياق المسرحية، يكتسب العنوان بُعداً درامياً خاصاً، حيث تتحول الحافلة المعطلة إلى استعارة مكثفة لحالة الضياع الجمعي والزمن المتحجر. ولو توغلنا عميقا في مفهوم "الزمن المتحجر" لوجدناه يفجر كتعبير عن الجمود الحضاري باعتباره حالة وجودية معقدة تعكس المسار التاريخي للمجتمع العراقي، حيث تتحول الحافلة إلى رمز للوطن المعطل والمحاصر. حيث مرت تلك الحافلة بمراحل للتدهور: جعلتها تنتصب في مسار طريق العراقيين ممثلة لـ "ميتافورا" الرحلة المعطلة رمز للتيه الوطني محاكاة لحالة الجمود السياسي التناقض بين حركة السيارة وثبات الواقع . شكلت سيارة التاتا في السياق المسرحي استعارة مركبة تتجاوز بعدها المادي المباشر لتؤسس فضاءً دلالياً عميقاً يختزل أزمة حضارية شاملة. يتجلى هذا التكثيف الدلالي في تضافر المستويات المختلفة للاستعارة، حيث يمتزج المادي بالرمزي، والواقعي بالمتخيل، ليشكل نسيجاً دلالياً متكاملاً.
تكتسب الميتافورا عمقها من خلال تعدد مستويات القراءة، فعلى المستوى المادي تمثل السيارة المتهالكة البنية التحتية المتداعية للمجتمع، وقِدم طرازها يعكس التخلف التكنولوجي، بينما يتجلى على المستوى الرمزي توقف مسيرة التنمية والتقدم في صورة الرحلة المعطلة. أما على المستوى الوجودي، فيتحول التعطل إلى حالة وجودية تعكس أزمة الهوية والعجز عن التغيير.
يتعمق البعد الدلالي للاستعارة في سياق الواقع العربي المعاصر، حيث تمثل السيارة المعطلة توقف المشروع النهضوي العربي، والركاب العالقون يجسدون شرائح المجتمع المختلفة في مواجهة قصور الحلول الاجتماعية. يتجلى البعد السياسي في رمزية النظم المتهالكة وغياب الإرادة السياسية للتغيير، بينما يعكس البعد النفسي حالة الإحباط الجماعي والشعور بالعجز والضياع.
يتعزز عمق الاستعارة من خلال اختيار "التاتا" تحديداً كنموذج للتخلف التكنولوجي، وقِدم طرازها كانعكاس للتمسك بالقديم وعدم مواكبة العصر. أما التعطل المتكرر يتحول إلى رمز للأزمات المستمرة، والعجز عن إصلاحها أو العثور على حل ولو على سبيل المزحة يشير إلى تجسيد لقصور الحلول المطروحة، بينما يمثل الانتظار العبثي حالة اليأس الجماعي الغودوي.
تقدم هذه الميتافورا المسرحية صورة مكثفة لأزمة حضارية شاملة، تختزل في مشهد واحد إشكاليات التقدم والتخلف، الحداثة والتقليد، التغيير والجمود. إنها تتجاوز كونها مجرد عنصر سينوغرافي لتصبح وثيقة درامية تؤرخ لحالة التوقف الحضاري وتكشف عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية في مختلف مستوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مؤسسة بذلك لحالة مسرحية تتجاوز التعبير المباشر إلى فضاء رمزي عميق يستفز الوعي ويحرض على التفكير في أسباب هذا التوقف وسبل تجاوزه.
يصبح السؤال "وين رايحين" بمثابة المرآة التي تعكس صورة مجتمع مأزوم، يبحث عن مخرج من متاهة التيه، ويسعى لاستعادة قدرته على تحديد مساره. وعبر تحول المانيكانات من حالة الجمود إلى الحركة، يتحول السؤال من مجرد استفهام يائس إلى إعلان عن إرادة التغيير والتحرر.
وهكذا يتجلى العنوان كنقطة التقاء بين الفلسفي والاجتماعي والوجودي، حيث يختزل في كلمتين بسيطتين عمق المأساة الإنسانية المعاصرة، ويفتح الباب أمام تأملات عميقة في معنى الوجود والهوية والحرية. إنه ليس مجرد سؤال عابر، بل هو صرخة جيل كامل يبحث عن ذاته في خضم عالم يفقد معناه، ويسعى لاستعادة حقه في رسم مصيره والإجابة عن سؤال: إلى أين نحن ذاهبون حقاً؟
يتجلى في العنوان نفسه جوهر الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان المعاصر عموماً، والعراقي خصوصاً. المسرحية تختزل تاريخ العراق المعاصر. من حروب صدام إلى داعش، مروراً بالاحتلال وتمزق النسيج الاجتماعي الى قادة الديمقراطية المزعومة. كل مشهد يحاكم زمناً أطاح بالإنسانية. "وين رايحين" تتجاوز كونها عرضاً مسرحياً لتصبح وثيقة فنية تؤرخ لحالة التشظي والضياع، مستخدمة أدوات المسرح الحديث لتقديم رؤية نقدية عميقة للواقع. المسرحية تمثل صرخة وجودية في وجه منظومات القمع، محاولة استعادة الإنسانية المسلوبة عبر الفن والإبداع، عبر مسرح يشهق بألف لغة، ويروي مرثية وطن يحتضر على خشبة التاريخ. يتجاوز العرض المفهوم التقليدي للدراما. الحبكة تتفكك لصالح لحظات بصرية كثيفة، حيث يصبح المشهد البصري هو البطل الحقيقي للعرض. عبر أسلوب مسرحي حديث يزاوج بين التغريب البريختي والاحتجاج المجتمعي، نرى أنّ الحافلة المعطلة التي تقل ركّاباً مهمشين منكوبين تائهين هي استعارة لوطن معلّق على حافة الهاوية، يتقاذفه ضجيج أيديولوجيات متناحرة وسلطات تُحكم قبضتها باسم الدين أو السياسة أو العرف وهذا التأرجح القلق نتيجة تجاذب هذه القوى فيمن يحكم قبضته على هذه الحافلة المعطلة وامتهان ركابها. يتوهّم السائق قدرته على القيادة بينما هو مفتقر للبوصلة الحقيقية في الاستدلال، لتتعاقب بعدها على الركاب نتيجة هذا الركود المتمثل بعطل السيارة شخصيات سلطوية تمارس قمعها بذرائع متنوعة، وسط غيابٍ تامّ لحريّة المرأة والفكر والثقافة وتمييع الانتماء لنقع في مستنقع حقيقي مفاده "حيثما كان العراقي وبأي مسمى له كانت التهمة حاضرة لتغييبه" ربما يكون هذا المسمى هو الدين، ربما نوع المهنة، الثقافة العامة، الشكل، كلها اتهامات نتيجتها قطعة حديد ساخنة في الجبهة (طا ، طا) وإعلان خاتمة لبنيان الله الذي اسمه الإنسان. وكل ذلك إشارة لحقبة مريرة عاشها العراقيون وهم يخوضون غمار الوجع وسط مركبة وطنهم المحتجز عن الشمس.
إنّ الأسئلة المضمَنة في "وين رايحين" ليست مجرّد تمتمات على خشبة مسرح، بل هي احتجاج حيّ على واقع مأزوم، واستنطاق لرغبة جامحة في بناء رؤية أكثر رحابة للإنسانية ولا تمثل نقمة واعتراض على عهد بائد دون غير فالامتداد الزمني ما زال يحمل معه كل حرائق العالم المدمرة. يصير الزمن عبئاً يقمع الحاضر، فيرتفع العرض إلى مستوى الأطروحة الفلسفية: هل نحن رهائن لقوى تهمّشنا وتقتات على خوفنا؟ وهل من خلاص سوى باكتشاف الذات ونفض غبار الاستلاب؟
هكذا تسطع المسرحية كشرارة تهزّ وعينا وتهشّم المقولات الجاهزة. فبين ظلال الحافلة وأضواء التقنيات الحديثة، يبرز جوهر الصراع: حريّة تخبو تحت أثقال الماضي، وإنسان يقاوم لاعناً قيود السلطة والتابوهات، متأهّباً لعبور بوابة الرجاء. وفي هذه الرحلة الصاخبة، يظل العنوان "وين رايحين" صرخةً مفتوحة على احتمالات التغيير، واحتمالات التيه في آن واحد، كتنبيه أخير يحدّث كلّ من يجرؤ على الإنصات لنداء الحرية، ويمهِّد الطريق أمام وعيٍ جديد قد ينهض من رماد الصمت. السؤال "وين رايحين" يتردد صداه في كل مشهد، ليس فقط كسؤال عن الوجهة المادية، بل كاستفهام وجودي عميق عن مصير الإنسان ومعنى رحلته في الحياة نجهل من أين أتينا؟ وبجهل أعمق والى أين هي وجهتنا؟.
الحوار في المسرحية وعلى لسان شخصياتها يستفيد من تقنيات مسرح العبث في تفكيك اللغة، لكنه يوظف اللهجة المحلية بطريقة تجعل العبث أكثر قرباً من الواقع المعاش. هذا المزج بين العبثي والواقعي يخلق أسلوباً مسرحياً متفرداً. لذلك تتجلى براعة البناء الدرامي في توظيف الشخصيات كرموز سوسيولوجية: حيث المرأة الكبيرة (لمياء بدن) بسؤالها النابع من رحم عنوان العرض وين رايحين؟ "بعد شكد ونوصل؟" ممثلا صرخة للخلاص من حصار الزمكان الخانق الممل لتجيبها الفتاة الأيزيدية (زهرة بدن) مترددة "والله يمه ما أدري"، ليمعن الشاب "لؤي أحمد" بتأجيله المستمر في تيه وجودنا في غيابت جب الحياة بقوله "بعد وكت يمه"، وحينما توجه كل هذه الأسئلة وغيرها للسائق نجده أي نجد القائد والدليل على الخلاص والذي يجسد السلطة العاجزة تائه هو الآخر. إذن أي خراب ضياع تعيشه هذه المجموعة التي تمثل شعبا عمره 7000 سنة في حافلة بل قل في خربة معتمة تخرج يدك فيها لم تكد تراها. هذا التوظيف يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المسرح السياسي التشخيصي" الذي يتجاوز التناول المباشر للقضايا السياسية نحو فضاء رمزي أكثر عمقاً وتأثيراً والذي استقيناه من إشارة للسائق في معرض وصفه الدعائي لعمر سيارته في مشهد ساخر جمعه مع أحد قطاع الطرق الطائفيين هذه السيارة التي تمثل الوطن كما قلنا نزولا عند ميكانزمات الميتافورا.
يشكل مشهد طلب السائق من لمياء بدن الرقص بدلاً من الحكي تحولاً درامياً عميقاً في بنية العرض المسرحي. فحين يقول السائق النعسان الذي يريد الاحتيال على نعاسه من خلال "ما أريد أسمع... أريد أشوف"، يتحول المشهد من سرد شفهي لمعاناة المرأة إلى تجسيد حركي مُفعم بالدلالات.
يتجلى في هذا التحول مستويان من القهر: الأول يتمثل في سلطة السائق الذي يمارس هيمنته على الراكبة، والثاني في تحويل المأساة من نص مسموع إلى عرض مرئي، وكأن معاناة المرأة تتحول إلى مادة للفرجة. لكن لمياء بدن تحول هذا القهر المزدوج إلى فعل مقاومة عبر الرقص، مستخدمة جسدها كأداة تعبيرية تتجاوز حدود الكلمات.
تأتي حركات الرقص متناغمة مع الموسيقى الحزينة، حيث يتحول الحجاب من قيد اجتماعي إلى عنصر درامي يشارك في تشكيل لوحة راقصة تعبر عن الألم والقهر. فالجسد المتحرك في فضاء الحافلة المعطلة يروي قصة صامتة عن العنف والظلم، ويتحول كل دوران أو انحناء إلى جملة احتجاجية صامتة.
يكتسب المشهد عمقاً إضافياً حين نفهم أن تفضيل السائق للرقص على الحكي يعكس رغبة السلطة في تحويل المعاناة إلى مشهد استعراضي يُفرغها من محتواها السياسي. لكن لمياء بدن تقلب المعادلة، فتحول الرقص إلى خطاب جسدي مقاوم، يقول ما لا تستطيع الكلمات قوله. يمثل هذا المشهد ذروة في توظيف الجسد كأداة للتعبير السياسي، حيث يتحول صمت المرأة المحجبة إلى صرخة حركية، وينقلب طلب السائق المتسلط إلى فرصة لفضح العنف المجتمعي. وحين تنتهي الرقصة، لا يكون المشهد مجرد استجابة لطلب السائق النعسان، بل يصبح شهادة حية على قدرة الفن على تحويل القهر إلى جمال، والصمت إلى احتجاج.
هكذا يقدم المخرج حيدر منعثر معالجة بصرية وحركية عميقة تتجاوز السرد التقليدي، مؤكداً أن الجسد المتحرك في الفضاء المسرحي يمكن أن يكون أبلغ من آلاف الكلمات في التعبير عن المأساة الإنسانية. ويبقى مشهد الرقص علامة فارقة في العرض، يؤكد أن الصمت المفروض يمكن أن يتحول إلى لغة احتجاجية بليغة حين يقترن بالحركة الواعية والتعبير الجسدي المدروس.
تتجلى السبورة في مسرحية "وين رايحين" كفضاء رمزي يتجاوز كونه مجرد أداة للكتابة، ليتحول إلى مختبر فكري يوثق تاريخاً من الوجع. وعند محاولة زهرة بدن كتابة حرف الدال، الذي يفتتح كلمتي "دار" و"دور"، تنفتح بوابة الذاكرة على مأساة شخصية تختزل مأساة جماعية.
تتصاعد المأساة حتى تتفجر في صرخة "بيتنااااا"، التي تتجاوز حدود الصوت الفردي لتصبح علامة سيميائية مركبة. يمتد المد الصوتي في الصرخة ليوثق عمق الجرح وفداحة الخسارة، محولاً البيت من مجرد مكان مادي إلى فضاء وجودي يحمل معاني الهوية والانتماء.
تتحول "بيتنا" إلى قصيدة مسرحية مكثفة، تختزل في لحظتها العابرة تاريخاً من الألم والفقد. إنها جسر يربط بين زمنين: ماضٍ مفقود وحاضر مشوه، لتصبح وثيقة إنسانية تؤرخ للحظة انكسار جماعي، محولة الصوت الفردي إلى ملحمة تحكي قصة شعب بأكمله.
وهكذا يتحول مشهد السبورة من مجرد لحظة درامية إلى فضاء للمقاومة، حيث تتداخل الذكريات الشخصية مع الهم الجماعي، مطلقة سؤالاً وجودياً عن إمكانية استعادة الحرية المسلوبة في ظل واقع قمعي.
كذلك من المثابات الإخراجية المهمة التي اعتنى بها كثيرا المخرج الفذ "د.حيدر منعثر" هو مشهد التصويت على اختيار ما يذاع من راديو السيارة الغناء أو القرآن والذي شكل ذروة درامية تؤسس لنقد لاذع للديمقراطية الشكلية التي صرح وبخطاب مباشر الشاب لؤي احمد بأنها مؤامرة اخترعها السياسيون للضحك على الذقون . هنا يتجلى "التناقض الدرامي المقصود" بين أهمية القرار المطروح للتصويت (غناء أم قرآن) وحجم المأزق الوجودي الذي تعيشه الشخصيات (الضياع والتيه). هذا التناقض يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المفارقة السياسية المسرحية" لعامة شعب مستلب حيث الاهتمام بالقشور وإهمال اللب والحقيقة الكبرى بإيجاد حل جذري للمشكلة. وهذا من خصائص "المسرح السياسي المركب" الذي يمزج بين النقد الاجتماعي والتجريب التقني والعمق الفلسفي.
أبدع المخرج حيدر منعثر في صناعة مشهد مسرحي يؤسس لخطاب درامي يتجاوز البنية السطحية للحدث المسرحي إلى البنى العميقة المؤسسة للصراع القيمي في المجتمع العراقي المعاصر. يتمحور المشهد حول ثنائيات ضدية تؤسس لجدلية درامية عمقة: النور/الظلام، الإنسانية/التوحش، التسامح/التعصب، مجسدة في الصراع بين شخصية الداعشي "اياد الطائي" (الأنا المتطرفة) وشخصيتي الأم والزوج برفقة الفتاة الايزيدية(الأنا الإنسانية). يتجلى من خلال هذا المشهد المستوى الأيديولوجي في تفكيك الخطاب المتطرف وإعادة بناء خطاب إنساني مضاد، يتأسس على قيم التسامح والتعايش. يتحول ادعاء الأمومة والزوجية من قبل لمياء بدن ولؤي أحمد إلى استراتيجية درامية تؤسس لخطاب المقاومة السلمية، متجاوزة حدود المواجهة المباشرة إلى تأسيس فضاء إنساني بديل.
تجاوز الدكتور "حيدر منعثر" الأطر التقليدية للنظريات المسرحية، مقدماً نموذجاً هجيناً يستجيب لتعقيدات الوعي المعاصر وتعدد مستويات الإدراك لدى المتلقي المعاصر. حيث تجلت هنا براعة السينوغرافيا المسرحية في توظيف المايكروفونات الثلاث المعلقة في سقف الخشبة والمحصورة في كادر الداتا شو وهي تستعرض مشاهدا مؤلمة من أرشيف حياتنا الضاجّة بالعويل كعنصر سيميولوجي مزدوج الوظيفة. فمن الناحية التقنية، تمثل المايكرفونات أداة صوتية تنحصر وظيفتها في وصول مديات الصوت لكافة الجمهور بوضوح تام ، بينما تتحول في المستوى الدلالي الأيقوني إلى تجسيد مادي لجثث الشخصيات الثلاث (زهرة بدن، لؤي أحمد، لمياء بدن) وهم يمثلون ثلاثة أجيال متفاوتة الحصار الزمني والمكاني (الجد والابن والحفيد) قد حكم عليهم بالاغتراب بالنفي بالمرض بالتجاهل بالإعدام.
من خلال هذه الجزئية الميزانسينية وظف المخرج تقنية التغريب البريختي، حيث جعل من العنصر التقني (المايكروفونات) أداة درامية تحمل دلالات سياسية واجتماعية عميقة. حتى تجاوز الميزانسين وظيفته الجمالية التقليدية ليؤسس فضاءً مسرحياً يحمل خطاباً احتجاجياً ضد الظلم الاجتماعي من خلال تداخل الصور التجريدية بالواقعية.
تتحقق جدلية التلقي الجمالي عبر صدمة المشاهد أولاً بالشكل البصري "غير الجمالي" للمايكروفونات المتدلية، ثم تحويل هذه الصدمة إلى وعي نقدي بالدلالة السياسية للمشهد. وفق نظرية المسرح السياسي، يتحول المتلقي من مجرد مشاهد سلبي إلى عنصر فاعل في العملية المسرحية، مدعو للتفكير النقدي والفعل الاجتماعي خارج إطار العرض.
هكذا تتكامل العناصر السينوغرافية والسيميولوجية في بناء خطاب مسرحي يتجاوز الوظيفة الجمالية إلى التحريض على الفعل الاجتماعي، محققاً غايات المسرح السياسي في إثارة الوعي النقدي وتحفيز التغيير الاجتماعي.
أسس المخرج حيدر منعثر لتقنية "التراكم السيميائي" في بناء مشهديته المسرحية، مستثمراً ثنائية السؤال/اللاإجابة كمحرك درامي رئيسي. تتجلى هذه التقنية عبر "السينوغرافيا الدلالية المتحولة" التي تتشكل من خلال معالجة إخراجية متقنة للإضاءة والبقع الضوئية. تتحول الإضاءة في العرض من عنصر تقني بسيط إلى مكون درامي مركب، حيث تؤسس "الإضاءة الفيضية" لما يمكن تسميته بـ"خداع البصيرة المسرحية". هذا التوظيف يتجاوز البعد الجمالي ليخلق "تشكيلاً بصرياً دالاً" يعمق المعنى الدرامي للعرض.
وذلك من خلال هذا التبسيط الدلالي حيث تتصاعد حدة التوتر الدرامي مع انتشار البقع الضوئية وتلاشيها، مجسدةً حالة القلق المتنامي للشخصيات وهي تواجه أزمة الخزان المثقوب والطريق الطويل. تبلغ المفارقة ذروتها حين يأتي الجواب ساخراً من قبل السائق مقابل اقتراحات الركاب المختلفة والقابلة للتحقيق في مواصلة الرحلة "بس آني نعسان" مصحوباً بإضاءة فيضية، كعنصر درامي يؤسس لما يمكن تسميته بـ"خداع ساخر للبصيرة المسرحية". لتتحول الإضاءة من أداة كشف إلى عنصر تضليلي يعمق حالة التيه والضياع.
يتجلى التقاطع العميق بين نظرية ستانسلافسكي حول الكتل وتوظيف المانيكانات في مسرحية "وين رايحين" عبر مستويات متعددة من المعالجة الدرامية. فبينما يؤكد ستانسلافسكي على ضرورة التحفيز الداخلي والتبرير المنطقي لتحريك الكتل الثابتة، نجد أن المخرج د.حيدر منعثر قد وظف هذا المبدأ بشكل معاصر وعميق، حيث جاء تحول المانيكانات من حالة الثبات التي ظن المتلقي بدوامها حتى ختام العرض إلى الحركة مدفوعاً بضرورة درامية واجتماعية ملحة مثلت خطاب العرض.
يتجسد "الفعل المنطقي" الذي نادى به ستانسلافسكي في العرض من خلال التحول التدريجي للمانيكانات، حيث لم يكن تحولها مفاجئاً أو اعتباطياً، بل جاء كنتيجة طبيعية لتراكم الضغط الاجتماعي والسياسي. فالمانيكانات المولية ظهرها للجدار الرابع لم تتحرك منذ بدء العرض إلا حين بلغ الوعي بالمأساة ذروته، محققة ما يسميه ستانسلافسكي "الخط المتصل للحركة". حيث تجلى التوظيف الفينومينولوجي لهذه المانيكانات المزروعة على مقاعد المسافرين في مسرحية "وين رايحين" من خلال المفهوم الفلسفي السياسي"الميتاثياتر السياسي" كتجسيد عميق للتحول من "الوجود بذاته" إلى "الوجود لذاته" بمفهوم سارتر الوجودي، فــ "الوجود بذاته" كما هو معروف يمثل حالة الأشياء الجامدة التي لا تملك وعياً أو إرادة للتغيير، وهو ما جسدته المانيكانات الثابتة في المسرحية في إطلالتها الأولى، بينما يمثل "الوجود لذاته" حالة الإنسان الواعي القادر على الاختيار وتحمل المسؤولية، وهو ما جسده ظهور كادر الممثلين جميعا كشخصيات متحولة في نهاية العرض.. فثبات المانيكانات في الكراسي مع توجيه ظهورها للجدار الرابع كان يشكل استعارة بصرية صارخة لحالتنا كمتفرجين سلبيين على جحيم جروحنا، غير قادرين على المشاركة في تغيير واقعنا. يتعمق هذا المعنى مع تحول هذه المانيكانات الجامدة إلى شخصيات واقعية بريختية ترفض العبودية وتعلن بوضوح "احنا نحدد مصيرنا ولازم نوصل" في سعي حثيث لمعرفة "وين رايحين" حيث زامن ظهور الكادر التمثيلي برمته وهم يصرخون بحرقة مواطن حقيقي مجروح يتحدث بلغة الـ "آه" والـ "ونّة" (لازم نوصل). اختفاء جميع مانيكيانات مقاعد المسافرين في مشهد التحول وهو ما أراد إيصاله الدكتور حيدر منعثر في ثمرة التحول بأننا سننهض ونعلم صرختنا بوجه الذل والعبودية والاستسلام وكل صورها.
هذا التحول الدرامي كشف عن قدرتنا الآن على نجدة من كنا نستمع لقصص معاناتهم كالسكران المكسور المهمش، والمرأة الإيزيدية المعتدى عليها التي تحوّل بيتها المربع إلى مستطيل بعد بيع نصفه، والأم التي زفت أبناءها واحداً تلو الآخر لمحارق الحروب المتتالية - من موت الملك إلى موت الزعيم، ومن صعد لحم نزل فحم الى حرب الشمال إلى حرب الكويت والخاتمة في المفخخات وتشرين. كل هذه المآسي تتكشف مع تحول المانيكانات من مجرد دمى جامدة إلى ذوات واعية تطالب بحقها في تقرير المصير.
وهكذا يتحول الجمود الأولي للمانيكانات إلى حركة درامية فاعلة، والصمت المطبق لها إلى صرخة احتجاج جماعية، والعزلة الفردية للكراسي المتفرقة إلى وحدة بآصرة متينة تسعى للخلاص، في تجسيد عميق لقدرة المسرح على تحويل الألم إلى أمل، والعجز إلى فعل، والصمت إلى صوت. كما يمثل مشهد الختام برفع الكراسي بالمقلوب في مسرحية "وين رايحين" لحظة فارقة في الوعي الجمعي للمجتمع العراقي، حيث يتحول الممثلون من حالة الصمت والاستسلام إلى حالة الرفض والتمرد. التمرد على القوى المتحجرة من خلال الطيران في فضاءات نقية والرفض لكل عمليات التجزئة والتهميش والقتل وتحجيم معنى الوطن وأثره الكمالي في ذات المواطن
الدلالات الرمزية للمشهد الأخير:
1. قلب الكراسي يعني: رفض الواقع المفروض قسرا والذي لا تستحقه هذه الجموع الغفيرة التي تبحث عن نفسها في المكان ووجهتها في الزمان وكسر منظومة الخضوع التي أصبحت مؤسساتية تحتكم الى تخطيط ممنهج مبرمج للعالمية يد طولى فيه وفي تحقيق نتائجه. وكذلك دلالة أخرى بإعلان التمرد على السلطات الظالمة وأبجديات سلوكياتها الغبية.
2. الصراخ الجماعي (لازم نوصل) للكادر يحمل معاني: استعادة الإرادة الجماعية ورفض منطق الضحية والتأكيد على حق تقرير المصير. أما الإصرار على الوصول فهو يمثل: الأمل والرغبة الصادقة في التغيير مع تفعيل لحقيقة رفض حتمية الهزيمة والإيمان بإمكانية التحول كنوع من الإجابة على التساؤل العقائدي والوجودي والإنساني (وين رايحين؟) هذا التحول بنزع جلد قد بلى وضخ دماء جديدة وبناء روح تكتمل بزرع مفاهيم التعايش السلمي وتحمل المسؤولية في رسم خطوط عبور آمنة. المغزى النهائي يتجلى في رسالة واضحة: نحن قادرون على قيادة أنفسنا، وسنتجاوز كل محاولات التركيع والإذلال، مهما كانت التحديات. فالمشهد ليس مجرد حركة مسرحية، بل بيان سياسي واجتماعي عميق يعلن ميلاد وعي جديد يرفض الاستسلام ويؤمن بقدرة الإنسان على التغيير. قلب الكراسي هو حقيقة كبرى بأن الإنسان ليس مجرد كائن يُدجن، بل هو مشروع حرية مستمر. التحرر الحقيقي يكمن في استعادة القدرة على التفكير النقدي، ورفض منطق التبعية. وكل كرسي مقلوب هو صرخة في وجه منظومات القهر. المسرح هنا ليس مساحة للتمثيل، بل مختبر تفاعلي للذاكرة المنسية. الكراسي المقلوبة في النهاية ليست استعارة، بل حفل تشييع للواقع المقلوب. كل كرسي يحمل جغرافيا روحية مهشمة تعكس شظايا الذات العراقية في لحظة استثنائية من التجلي المسرحي.
لمياء بدن ليست ممثلة، بل شاهدة عصر. رقصتها المكسورة تروي قصص نساء سلبت إراداتهن. كل حركة جسدها تختزل مقاومة، وكل إيماءة تتحدى منظومات القهر. الجسد هنا يتحول إلى نصب تذكاري للمنفى. كل حركة تختزن طبولاً صامتة، وكل إيماءة تحمل أرشيف المدن المهجورة. لمياء بدن لا ترقص، بل تُعيد اختراع الحركة كلغة مقاومة. في "وين رايحين" تتجلى الشخصيات كأيقونات لذاكرة وطن:
لمياء بدن ليست مجرد جسد راقص، بل هي أرشيف متحرك لصرخات النساء المقهورات. جسدها يتحول إلى نصب تذكاري يختزل في كل حركة مكسورة تاريخاً من المقاومة الصامتة، وكل إيماءة تحمل في طياتها أنين المدن المهجورة. زهرة بدن تتجاوز دور الضحية الإيزيدية لتصبح رمزاً للوطن النقي الممتد طويلا وعميقا كثوب ابيض من زاخو للفاو، لكنه يئن من ظمأ الإهمال وقسوة النسيان. لؤي أحمد ليس مجرد صاحب لعب ودمى وتماثيل فهو يتجسد ككيان شفاف نُحِتَ من وجع الحروب، جسده صفحة تاريخية كُتبت بمداد الدم، وتماثيله شواهد على زمن الفجيعة. طلال هادي، ليس مجرد سائق مأزوم بين دفة القيادة وبوصلة التيه، فهو يتجسد كاستعارة صارخة للسلطة الضائعة في متاهاتها. قائدٌ يقود بلا وجهة، يختزل في حيرته تاريخاً من الخراب المنظم، وفي عجزه عن تحديد المسار تتجلى مأساة قيادة أضاعت البوصلة في زحمة المصالح.
أما إياد الطائي، فيتخطى دور الداعشي المتطرف ليجسد كل لحظات الظلام التي عشناها، كل أيامنا السوداء التي أنفقناها في يومنا الأبيض الوحيد الذي كنا ننتظره خمسا وثلاثين سنة عجاف من الانكسار. هكذا يتحول المسرح إلى فضاء للذاكرة الجمعية، حيث تتحول الأجساد إلى نصوص حية تروي حكاية وطن.
الديكور يتحول من مجرد خلفية إلى شاهد عيان. السبورة ليست سطحاً للكتابة، بل سجل تاريخي يسطر مراثي الهزيمة. سيارة التاتا المعطوبة تحمل أرواح مدن كاملة، متوقفة عند محطات الموت والخراب. حيث تتحول الكراسي وهي جامدة إلى خرائط جغرافية للألم، وكل فراغ يحكي حكايات لم تُروَ. الكراسي هنا ليست أدوات جلوس، بل شواهد قبور. كل كرسي يحمل روح مدينة، وكل حركة تختزن مأساة جيل. حيدر منعثر يمسرح الألم بتلك البراعة التي يذبح بها الجلاد الضحية، متقناً فن التشريح المسرحي. شكرا من الأعماق لجميع من شارك برسم خارطة وجعنا على خشبة المسرح وحرض فينا ماردا يقلب الصفحات من سوداء الى بيضاء ناصعة. محبتي الكبيرة.
***
كاظم أبو جويدة