قراءات نقدية

آمال بوحرب: العبث والمواجهة.. في قصة حين يتلاشى النبض لعبد الزهرة عمارة

قراءة فلسفية ونفسية في سردية الزمن والتمزق الوجودي

فن السرد وعبثية الحياة
الحياةُ، في جوهرها، ضربٌ من العبث. فهي لا تمنحُ إجاباتٍ واضحة عن الغايات أو تفسيراتٍ مرضية لمعاناة الإنسان، بل تتركهُ مُعلَّقًا بين الأمل والعدم، بين الرغبة في الفهم وحتمية الموت ويأتي الأدب كوسيلة لمساءلة هذا العبث، كأداةٍ لفضح هشاشة المعنى وتعرية الصراع الوجودي. عبر السرد، فيصبح القارئ شاهدًا على محاولات الشخصيات مواجهة الفراغ أو الهروب منه، سواء عبر التمرد كما فعل ميرسو في “الغريب” لألبير كامو، أو عبر السقوط في العدمية كما نرى في “المسخ” لفرانز كافكا، حيث يتحوَّل غريغور سامسا إلى كائنٍ منبوذ بلا سبب واضح، رمزًا لانقطاع الإنسان عن ذاته وعالمه.
الأدب، إذن، لا يمنح حلولًا، بل يعكس أزمة الكائن في عالمٍ غير مبالٍ. في “في انتظار غودو” لصامويل بيكيت، يُجسَّد الانتظار كرمزٍ لعبثية الحياة، حيث الشخصيات لا تفعل شيئًا سوى انتظارٍ لا طائل منه، فيما الزمن يمضي بلا اكتراث. وكذلك في “الغثيان” لجان بول سارتر، حيث يتحول إدراك البطل لوجوده إلى عبء، فتغدو الأشياء فاقدة للمعنى، ممتلئة بثقل الوجود نفسه.
من هنا، نجد أن السرد العبثي لا يهدف إلى تقديم حلول، بل إلى جعل القارئ شريكًا في التساؤل: هل يمكننا التعايش مع العبث؟ وهل المواجهة الحقيقية تكمن في الهروب منه، أم في تقبُّل عدم جدواه؟ هذه الأسئلة تتجلّى بقوة في قصة “حين يتلاشى النبض” لعبد الزهرة عمارة، التي ترصد لحظة مواجهة بين الفرد وعبث الحياة، حيث يتقاطع الصمت مع الخوف، والهروب مع الفناء
البنية الفنية والرمزية
البنية الثنائية:
تنقسم القصة إلى مشهدين: ليل المرأة المضطرب وصراعها مع الأفكار، وصباح الغرفة المُثقَل بآثار مازن. يعكس هذا التقسيم ثنائية الوجود الإنساني: الداخل (العقل والقلق) والخارج (الواقع والتداعيات). فكما نجد في أعمال كافكا وسارتر، يكون الصراع الحقيقي في الداخل، حيث تدور أزمات الشخصيات في متاهات الفكر أكثر من الأحداث الخارجية.
هذه البنية الثنائية تُذكّرنا بالسرد العبثي عند كامو في “السقطة”، حيث يعيش البطل صراعًا داخليًا بين الشعور بالذنب واللاجدوى، وكأن الوعي الإنساني محكوم عليه بأن يكون مسرحًا للقلق والتناقض.
ب. اللغة الشعرية:
تستخدم القصة استعارات غنية (السرير “مرفأ”، الوقت الذي “يسحب بأهداب رقيقة”) لخلق جوٍّ وجودي يربط بين الواقع والميتافيزيقا. هذه اللغة تتجاوز الوصف السطحي إلى تكثيف المعنى، كما نجد في “الغثيان”، حيث تتحوّل الأشياء اليومية إلى كيان غريب يثير القلق والوحشة ويُشبه استخدام الاستعارات هنا ما يفعله هاروكي موراكامي في أعماله، حيث تصبح الأشياء العادية ذات طابع سريالي، كأن الواقع نفسه مُفكّك وعاجز عن تقديم يقين حقيقي.
الرموز:
الساعة: تجسيدٌ للزمن الذي لا يرحم، والصراع بين الإنسان وقدرته على التحكم في مصيره.
النافذة: بوابة نحو المجهول، محاولة للهروب من الفوضى الداخلية، لكنها تبقى محدودة بقيود الواقع.
زجاجات الكحول والسجائر: أدوات الهروب من الذات، رمزٌ للعجز عن مواجهة الفراغ الوجودي.
غياب النبض: النهاية الحتمية للهروب، حيث يصبح الموتُ تعبيرًا عن انطفاء الجوهر الإنساني.
وكما في “المسخ”، تمثل الغرفة الضيقة التي يُحتجز فيها غريغور سامسا رمزيةً مشابهة للنافذة في القصة: مكانٌ يفصل بين الداخل والخارج، بين الأمان المزيَّف والواقع القاسي، حيث يصبح الإنسان سجينًا لوجوده العبثي.
الرؤية الفلسفية
أ. الوجودية والعبث: تُصوِّر القصة الإنسانَ في مواجهة العبث كانت المرأة تسعى لهدوء مؤقت عبر الانسحاب إلى الذات، بينما ينهار مازن تحت وطأة الفراغ. يُذكرنا هذا بفكرة كامو عن “الغريب” الذي يواجه عدمية العالم.
الهروب كخيار: يختار مازن الهروب عبر التخدير (الكحول)، بينما تبحث المرأة عن سلام في اللحظات الهادئة لكن كلا الخيارين لا يُجيبان عن سؤال المعنى، مما يعكس أزمة الوجود البشري في غياب “الإله” أو الغاية،يتلاقى هذا الطرح مع شخصية أنطوان روكانتان في “الغثيان”، حيث يتعذّر على البطل إيجاد معنى ثابت لحياته، فيغدو كل شيء مجرد وجود خالص بلا تفسير، تمامًا كما يشعر مازن قبل تلاشيه.
ب. الزمن والموت: من ابعد الزمن الشعور بأنه سجن من أكثر المواقف إيلاما في الحياة وقد برع الكاتب في التعبير عنها فالساعة التي تمسكها المرأة تُشير إلى محاولة التحكم في الزمن، لكنه يفلت كالرمال. هنا يتجلى مفهوم هايدغر عن “الكائن-نحو-الموت”، حيث الوعي بالزمن هو وعي بالفناء.
النبض المتلاشي: يشير توقف قلب مازن إلى انتصار الموت كحقيقة وجودية، لكنه أيضًا رمز لموت الروح قبله، حين يُهدر الإنسانُ حياته في الهروب من ذاته.
في “الطاعون” لكامو، نرى كيف يصبح الزمن عدوًا غير مرئي، حيث يدرك الأفراد أنهم يعيشون في انتظار موتٍ حتمي، مما يجعل كل محاولاتهم للهرب بلا جدوى.
الصمت فضاء وجودي: يسود الصمتُ المشهدين (ليل المرأة، وغرفة مازن)، كتعويض عن عجز اللغة عن التعبير عن العمق الإنساني. يُذكر هذا بصمت سارتر في “الغثيان” الذي يعكس عجز الكلمات عن احتواء الوجود.
الكلمات غير المُنطَقة: همسات المرأة (“ألم تمل بعد؟”) تُظهر الصراع بين الرغبة في الفهم والخوف من المواجهة، كأنما الكلام يصبح عبئًا في عالم يفتقر إلى الإجابات. يوازي هذا الصمت ما نجده في “في انتظار غودو”، حيث يغدو الصمت أكثر تعبيرًا من الكلمات نفسها، كأنه اعترافٌ ضمني بلا جدوى الحوار في عالمٍ بلا يقين.
التمزق بين الذات والعالم:التمزق في القصة لا يقتصر على الجسد أو الفعل، بل هو تمزقٌ داخلي، حيث تنشطر الشخصية بين وعيها بذاتها وعجزها عن تغيير واقعها. تعيش المرأة حالة من التوتر الدائم بين ما تريد أن تكونه وما هي عليه، بين الرغبة في الفهم والخوف من المواجهة. هذا التمزق يُشبه ما يُعبِّر عنه دوستويفسكي في “مذكرات من تحت الأرض”، حيث يشعر البطل بالغربة حتى عن نفسه، وكأن وعيه بذاته هو عذابه الأول.يجسِّد مازن هذا الصراع بطريقة مختلفة؛ إذ يتخذ الهروب وسيلةً لتجاهل التمزق الداخلي، لكنه في النهاية لا يستطيع إنكاره. فكما نرى في “الجدار” لسارتر، عندما يُجبر البطل على مواجهة حتمية الموت، يدرك فجأة عبثية كل محاولاته للهرب. في “حين يتلاشى النبض”، تمثل لحظة موت مازن ذروة هذا التمزق، حيث يصل إلى مرحلة ينفصل فيها تمامًا عن الحياة، ليس فقط جسديًا، بل على مستوى المعنى والروح.
5- الأبعاد النفسية في القصة
تتجلى في القصة طبقات متعددة من التوتر النفسي الذي يعيشه كلٌّ من المرأة ومازن. فبينما يعاني مازن من انعدام المعنى الذي يقوده إلى الفناء، تواجه المرأة شكلًا آخر من القلق: خوفٌ من أن تكون عالقةً في دورةٍ لا تنتهي من العبث. هذا التناقض بين الرغبة في الحياة والخوف منها هو جوهر الأزمة الوجودية التي تحدث عنها كيركغارد، حيث يكون الإنسان مُجبرًا على الاختيار بين “اليأس النشط” (كمازن، الذي يختار الهروب والموت) و"اليأس السلبي” (كما في المرأة، التي تعيش القلق دون قدرة على تغييره) وغالبا ما يكون البعد النفسي عاملا أساسيا في إبراز العقدة والحل او ربما يضفي على القصة عمقا من نوع آخر يظهر في تعامل الشخصيتين مع الزمن فالمرأة تحاول الإمساك باللحظة عبر مراقبة الساعة، كأنها تسعى لفرض نظام على الفوضى، بينما يترك مازن الزمن يسير بلا مبالاة حتى يصل إلى التلاشي. هذا يعكس ما يتحدث عنه فرويد حول “تكرار المعاناة”، حيث يُعيد الإنسان إنتاج أزماته الداخلية دون وعي، تمامًا كما يكرر مازن هروبه حتى ينتهي به الأمر إلى موت لا يبدو مفاجئًا بقدر ما هو نتيجة حتمية لمسار حياته
القصة تُقدِّم سردًا وجوديًا عن أزمة الإنسان الحديث: العجز عن مواجهة الذات، والاختباء وراء الهشاشة الزائفة. موت مازن ليس مجرد نهاية جسدية، بل انهيارًا لمعنى الوجود حين يُفقد الحوار مع الذات. المرأة، رغم بقائها حية، تواجه سؤالًا وجوديًا: هل سيصير مصيرها كمازن، أم ستجد في صمتها قوةً للمواجهة؟ هنا تترك القصة القارئ في حافة السؤال الفلسفي الأبدي: كيف نعيش حين يكون النبض مجرد إيقاعٍ فارغ؟.
***
د. آمال بوحرب — كاتبة

في المثقف اليوم