قضايا
ابتهال عبد الوهاب: هل آن الأوان أن نعيد الاعتبار للإنسان؟
هل آن الأوان أن نعيد الاعتبار للإنسان؟ لا بوصفه ظلا لطائفة، ولا حارسا لعقيدة، ولا مجرد رقم في قطيع، بل ككائن حر، ينبض بالمحبة، ويزدهر في فضاء الاختلاف، ويتوق إلى آفاق يتعذر اختزالها في يقين واحد؟
لقد طال بالإنسان زمن التشييء. تقاذفته الأنظمة، وغربته الأيديولوجيات، وسجنته الهويات في قوالب ضيقة صلبة، حتى غدا يخاف ذاته، ويستبدل أسئلته الحارقة بأجوبة جاهزة، ويكتم حدسه العميق خوفا من العزلة أو الاتهام. ففي مجتمعات تقدس الانتماء على حساب الفرد، تصبح الحرية تهمة، ويصبح الاختلاف جريمة. لكن، أليس في جوهر الإنسان ما يسمو على هذا كله؟ أليس في الكائن البشري نفحة من اللامحدود، من المحبة التي لا تعترف بالحدود، ومن العقل الذي يرفض أن يختصر في سردية واحدة؟
أليس في جوهر الإنسان ما يسمو على هذه القيود؟ أليس هو الكائن الوحيد القادر على أن يشك في يقينه، وأن يحب المختلف عنه، وأن يمد الجسور نحو ما لا يشبهه؟
لقد آن للثقافة، إن أرادت أن تستعيد نبضها، أن تتخفف من أثقال الحراس والمفسرين، وأن تعود إلى ما يجعلها جديرة باسمها: إلى السؤال، إلى الانفتاح، إلى الجمال. فالثقافة، في أنبل تجلياتها، ليست سلاحا في يد سلطة، ولا مرآة لطائفة، بل هي لقاء بين الذوات، وبحث لا ينتهي عن المعنى، ومجال يتسع لتعدد الأصوات.
وإذا كانت الحضارات تنهض حين يمنح الإنسان حقه في أن يكون حرا، فإن الانغلاق لا ينتج إلا العنف، والخوف، والتقوقع. إن الإنسان لا يختصر في لونه، أو جنسه، أو عقيدته، ولا يقاس بمقدار ولائه للهوية. الإنسان كائن عبور، لا قرار له في الجمود، ولا خلاص له إلا في الترحال بين الأسئلة. ولعل أجمل ما فيه أنه قابل للحوار، وللمسامحة، وللاعتراف بالآخر، لا بوصفه خصما، بل مرآة تعكس ذاته في اختلافها.
لم يصنع الفكر الإنساني نهضته إلا حين احتفى بالاختلاف، واحتضن الحرية، وآمن بأن الحقيقة لا يمكن أن تصادر باسم يقين واحد
نعم، نستطيع أن نعيد الاعتبار للإنسان. ليس هذا حلما طوباويا، بل ضرورة أخلاقية وفكرية. فالمجتمع الذي لا يرى في الفرد أكثر من تابع، يعد مشروعا للقمع المؤجل. والثقافة التي تخاف من الحرية، تخفي في طياتها نداء للاستعباد. أما حين نصغي للإنسان لا كناطق باسم جماعة، بل ككائن يفتش عن ذاته، عندها فقط تشرق الثقافة بوجهها الكوني، وتستعيد اللغة عذوبتها، والفكر نُبله، والعالم روحه.
إنها دعوة إلى تحرير الإنسان من الأغلال التي صنعها لنفسه، أو فرضت عليه باسم الخلاص. دعوة لأن نحب لا على الرغم من الاختلاف، بل بفضله. لأن نختار التفكير لا التكرار، وأن نجعل من الثقافة احتفالا بالمعنى، لا مرآة للخوف
فهل نجرؤ؟
***
ابتهال عبد الوهاب






