قضايا
همام طه: ترييف المدينة.. بين التحوّلات الحضرية والتحامل الطبقي

سؤال المصطلح وسياقه
في ظل التحوّلات الاجتماعية والديموغرافية المتسارعة التي تشهدها المدن العربية، برز مصطلح "ترييف المدينة" باعتباره توصيفاً شائعاً للتغيّرات التي تطال البنية الحضرية والقيم السائدة فيها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يُعد هذا المصطلح توصيفاً علمياً محايداً لظاهرة عمرانية واجتماعية فعلية، أم أنه يعكس تحاملاً طبقياً ضمنياً ونزعة إقصائية تجاه الريف وسكانه وثقافته؟ تهدف هذه المقالة إلى مناقشة المصطلح من زوايا معرفية متعددة، واستكشاف مدى دقّته وحياده في قراءة الواقع الحضري.
إشكالية المفهوم: انحياز لغوي وتحامل خفي
يُستخدم تعبير "ترييف المدينة" في الخطاب العام كثيراً للإشارة إلى تغيرات تُصوَّر على أنها انتكاسة حضرية، وغالباً ما يُحمّل الوافدون من الريف مسؤولية هذا "الانحدار" المفترض في الطابع المدني للمدينة، سواء من حيث العمران، أو القيم الاجتماعية، أو السلوك العام. غير أن هذا الاستخدام ينطوي على حكم قيمي مسبق، يفترض ضمناً وجود جوهر مديني نقي يُفسَد عند اختلاطه بالريف، وهو تصوّر اختزالي يفتقر إلى الدقة العلمية.
من منظور أكاديمي، المدينة ليست كياناً ثابتاً، بل فضاء متحوّل دائم التأثر بعوامل الهجرة، والتفاعلات الاقتصادية، والتحولات الثقافية. ما يُطلق عليه أحياناً "ترييف" قد لا يكون سوى نتيجة طبيعية لعوامل بنيوية مثل غياب التخطيط الحضري الشامل، أو تفاقم الفجوة الطبقية، أو ضعف دور الدولة في إدارة التحوّلات الحضرية. وبالتالي، فإن توجيه اللوم إلى الفئات الاجتماعية القادمة من الريف يُعدّ نوعاً من الإزاحة الرمزية للمسؤولية الحقيقية عن تلك التحوّلات.
قد يكون من الأجدر، إذن، استبدال المصطلح بمفاهيم أكثر حيادية وتخصصاً، مثل: "تحوّلات المدينة"، أو "إعادة تشكُّل الفضاء الحضري"، وهي تعبيرات تحلّل الظاهرة ضمن سياقها البنيوي والاقتصادي والثقافي دون إلقاء أحكام مسبقة.
المصطلحات المقارنة في الأدبيات الغربية
وعلى صعيد المقارنة المفهومية، لا يوجد في اللغة الإنجليزية مصطلح يطابق "ترييف المدينة" من حيث الحمولة القيمية الطبقية. إلا أن هناك مصطلحات تقترب من توصيف بعض أوجه الظاهرة من زوايا مختلفة، مثل:
1- التوسع الحضري غير الرسمي (Urban Informalization): يشير إلى نمو العشوائيات والاقتصاد غير المنظم، دون تحميل هذا التوسع دلالات ثقافية أو طبقية.
2- التحضّر التابع أو الهامشي (Subaltern Urbanization): يصف عمليات تمدّن تقودها فئات مهمشة، وغالباً ما تكون خارج التخطيط الرسمي.
3- التدهور الحضري (Urban Degradation): يركّز على التدهور الفيزيائي والبيئي في المدينة، دون ربطه بالضرورة بهجرات ريفية.
4- التحضّر المعكوس (Counter-Urbanization): يُستخدم لوصف عودة بعض المناطق الحضرية إلى نمط معيشي أقرب للريف، لكنه لا يحمل نفس الدلالات الطبقية أو الثقافية.
"ترييف المدينة" في السياق العربي: مصطلح اجتماعي أكثر منه عمراني
ما يميز المصطلح العربي عن نظائره الأجنبية هو البعد الثقافي والاجتماعي الذي يحمله، حيث يُستخدم في كثير من الأحيان لانتقاد دخول "قيم ريفية" إلى الفضاء المديني، مثل العصبية، أو بنى القرابة، أو أنماط استهلاك وسلوك تُعدّ "غير حضرية". كما يمتد استخدام المصطلح إلى السياقات السياسية، فيُقال مثلاً "ترييف الدولة" أو "ترييف المؤسسات"، في إشارة إلى وصول عناصر ريفية غير مؤهلة ـ بحسب الرؤية النخبوية ـ إلى مواقع القرار، ضمن منطق يقوم على الولاء أو القرابة.
دلالات بديلة: الترييف في سياقات تنموية وبيئية
في المقابل، يمكن أن يحمل مصطلح "الترييف" دلالة محايدة أو إيجابية في سياقات أخرى، خصوصاً في أدبيات التنمية. ففي هذه السياقات، يُستخدم المفهوم للإشارة إلى دعم المجتمعات الريفية من خلال تحسين البنية التحتية، أو توسيع نطاق الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، أو تعزيز فرص العمل في الريف للحد من الهجرة إلى المدن. كما يُشجَّع أحياناً على العودة إلى أنماط معيشية بسيطة وأكثر انسجاماً مع البيئة، كجزء من سياسات التنمية المستدامة أو التخفيف من الضغط على المدن. كذلك يُنظر إلى نقل بعض المؤسسات أو المشاريع التنموية إلى الأرياف كخطوة نحو تحقيق التوازن السكاني والتنموي، بما يحدّ من التركز الحضري المفرط ويعزّز العدالة المجالية.
نحو مفردات أكثر عدلاً وحياداً
إن الحديث عن "ترييف المدينة" يكشف في طياته أكثر من مجرد توصيف عمراني؛ إنه خطاب طبقي وثقافي يعكس توتراً بين أنماط الحياة المختلفة، كما يكشف عن تصورات معيارية حول "المدني" و"الريفي". لذلك، فإن من الأجدر تجاوز هذا المصطلح إلى لغة أكثر علمية وموضوعية، تفسّر التغيرات الحضرية لا بوصفها تشوهات طارئة، بل بوصفها تحوّلات مركّبة تستدعي فهماً أعمق للبنية الاجتماعية والاقتصادية. إن الفضاء المديني ليس كياناً مغلقاً بل نسيجاً متجدّداً تتقاطع فيه الهويات، وتتنازع فيه المصالح، وتتفاعل فيه الثقافات. وهذا ما ينبغي أن يتعامل معه الخطاب الأكاديمي والسياسي على حد سواء، بحسٍّ نقدي مسؤول، لا بنزعة إقصائية أو اختزالية.
***
همام طه