قضايا

سليم جواد الفهد: خيانة المثقفين.. عندما تكون الدونية شرطا للخيانة

عن الطبري إن الإمام الحسين بن علي(ع) لما كان في الطريق إلى كربلاء لقيه مجمع بن عبد الله العائذي- وكان مجمع وابنه جاءا مع عمرو بن خالد الصيداوي إلى الحسين (عليه السلام) ليكونا معه فمانعهم الحر لكن الحسين(ع) أخذهم منه.

قال أبو مخنف: لما مانع الحر مجمعا وابنه وعمرا وجنادة، ثم أخذهم الحسين (عليه السلام) ومنعهم من الحر، سألهم الحسين عن الناس بالكوفة فقال: " أخبروني خبر الناس وراءكم"؟

فقال له مجمع بن عبد الله: أما أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال بذلك ودهم، وتستخلص به نصيحتهم، فهم ألب واحد عليك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك1.

فكان كل مثقفي الكوفة وسادتها بما فيهم قائد حركة التوابين سليمان بن صُرَد الخزاعي قد خذلوا الحسين أما طمعا وأما خوفا فأنطبق عليهم قول الشاعر عبيد بن الأبرص:

"لا أعرِفَنَّكَ بعد الموتِ تَندُبُني  وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي".

لا ترتكز الخيانة أو العمالة كالأفعال العادية على الإغراء والإغواء والضعف البشري فحسب بل هي قبل أي شيء آخر علاقة (قوة) بين طرف يرى نفسه سامياً وآخر يرى نفسه دونياً.

وفي دراسة (الجذور التاريخية للعمالة) يلخص شيخي الطاهر هادي العلوي (طاب ثراه) جوهر العمالة في عنصرين: علاقة الفوقية والقوة بين بلد العميل والبلد الذي يُشَغّله وتلاقي المصالح أو الاستفادة المتبادلة بين الطرفين ولأن النخب هم أكثر الناس حساسية لعلاقات القوة والمصالح وأكثر من يحركه هم الطموح والتسلق وتحويل أزمات شعبه وكوارثه الى فرص له. فهم تاريخيا أكثر الناس استعدادا للعمالة.

يروي شيخي العلوي أن أول من مارس العمالة في تاريخ العرب المدون لم يكن «أبا رغال» الشهير بل النضيرة بنت الضيزن ابنة ملك الحضر المدينة الحصينة التي تقع آثارها اليوم قرب الموصل. حين حاصر الملك الساساني شاهبور الأول عاصمة الضيزن اتصلت به النضيرة سرا وعرضت أن تدله على مدخل للمدينة مقابل أن يتزوجها ويجعلها ملكة. قام شاهبور فعلا باقتحام الحضر مستعينا بإرشادات الأميرة وقتل أمراء المدينة ونبلاءها باستثناء النضيرة التي وفى بوعده لها وتزوجها. ولكن في يوم الزفاف في القصر الملكي اكتشف شاهبور مدى العطف والدلال اللذين حظيت بهما الأميرة من أهلها قبل أن تخونهم وتودي بهم الى الهلاك فغضب عليها غضبا شديدا حتى أمر بإعدامها.

بهذه المقاييس أيضا ميز العلوي بين صنفين من العمالة تاريخياً: "عمالة الأسياد" كحال الملوك الذين يُكرهون على التحول الى أتباع لدول أقوى فيرتضون بالموقع التابع مقابل الحفاظ على عرشهم وامتيازاتهم و"العميل المحلي" الذي يعيش في مجتمع ويعمل مع عدو خارجي ضده. في الحالة الأولى يوجد عنصر إكراه وإرغام واستسلام لمعادلات القوة وقد يحتفظ الملك التابع ونخبته بمشاعر قومية ويطمحون سرا الى انتزاع المزيد من السيادة على حساب "الامبراطورية" أو الانفكاك من طوق التبعية لو استطاعوا. ولكن في النموذج الثاني فإن "العميل المحلي" يمارس الخيانة بالتراضي الكامل مع مشغليه ومن دون إكراه بل هو يتماهى بالكامل مع سيده ومع مصالحه الشخصية. وتؤدي الرابطة المطواعة الى تفريغ شخصية التابع من نزعة التمرد والاستقلال.

وينصهر العميل كليا في شخصية السيد. بمعنى آخر يأتي "العميل المحلي" مع العقلية التي تؤمن بأن شعبه متخلف وتسلم بدونية ثقافته وتفوق أعدائه2.

المثقفون والعمالة:

يقول العلوي: "إنك لو نظرت في قوائم عملاء المخابرات الأميركية في بلادنا سيندر أن تجد بينهم فلاحا أو خبازا يعمل بيديه بل إن جلهم من المتعلمين الغرباويين.

الفارق هنا لا علاقة له بمستوى الثقافة أو الذكاء أو التعلم بل بأن الخباز يملك مهنة حقيقية تربطه بالأرض والمجتمع وحوله بنية تقليدية تزوده بهوية وموقع وموانع. من الصعب على إنسان كهذا أن تتناغم مصالحه الطبقية مع مصالح عدو خارجي ولن يكون من السهل عليه أن يلعب دور الخائن في مجتمعه ومحيطه. أما من يعمل في وكالة أجنبية أو يطمح الى راتب ومستوى حياة فاخرة ويريد أن يتمايز عن حظوظ مواطنيه فإنه من السهل له أن يجد مصالحه في تعارض مع مصالح غالبية المجتمع.

نعم المثقف ليس جيدا ولا هو سيئا بطبيعته المحضة المثقف هو ببساطة إنسان يحتاج الى راتب ومؤسسة ترعاه حتى يمارس حياته كباقي البشر ولو كانت هناك دولة وطنية تؤطر هذه الفئة و ترعاها وتضبطها فهي قد يتم استثمارها في خير المجتمع وتكون نخبة وطنية. ولكن حين تترك هذه النخب بلا رعاية سيسعى كل الى إيجاد ممول وراع عندها تتفعل الدونية كواقعة سايكولوجية تحت مبرر الأنانية والشعور الزائف بالفوقية وهنا بالضبط ينفصل المثقف عن مجتمعه. عندها من الممكن أن يصبح المثقف عميلا.

لكن يبقى مصطلح (عمالة أو خيانة) مصطلح إشكالي يحمل أحكاما قيمية قد تضيق أو تتسع بحسب السياقات التاريخية والسياسية لكن من الممكن حصرها في عدة موارد:

1. الانتهازية والمصالح الشخصية:

قلنا إن المثقف في النهاية هو إنسان يحتاج كل ما يحتاجه البشر من مسكن وملبس ومأكل لكنهم يتفاوتون في مدى الحرص منهم من تسمو نفسه وتعظم روحه فيكتفي بالقليل ومنهم من يقوده الجشع إلى السعي للسلطة أو المناصب أو المكاسب المادية فيستذئب في سببل الحصول على ذلك ثم يخون ضميره من خلال التكيف مع الأنظمة الاستبدادية للحفاظ على الامتيازات الخاصة به.

2. الخوف والقمع:

يتفاوت المثقفون أيضا في سجايا الشجاعة والجبن. منهم من يجبن ويقوده ذلك إلى التخلي عن المبادئ تحت تهديد السجن والتعذيب والقتل ومنهم يفضل الموت على حياة الذل والهوان. ومنهم من يعتزل أو يختار المنفى لتفادي العقاب.

هذا الانعزال عن الواقع يؤدي حتما إلى انفصال المثقف عن هموم المجتمع مما يُفقده بوصلة التغيير.

3. الأيديولوجيا والتعصب:

غالبا ما يقع المثقف في براثن تبني أيديولوجيات شمولية متطرفة قد تكون دينية أو قومية وحتى يسارية عندها يصبح المثقف مثقفا سلطويا يبرر الانحياز للسلطة ضد مصالح الشعب. فيستخدم خطابا فكريا تبريريا ليبرر فيه القمع أو التمييز ضد شعبه.

4. الاستقطاب الهوياتي:

بعض المثقفين لأسباب كثيرة ينجر إلى صراعات هوياتية دينية - طائفية أو قومية عرقية مما يوقعه في مستنقع الأنحياز وهذا يضعف موقفه النقدي ويعمي بصيرته الأدراكية.

5. الأزمة الأخلاقية:

قد يقع المثقف في تناقض بين الأمر الفكري وقاعدة السلوك أو بين الخطاب النظري والممارسة العملية فتراه يدعو للعدالة وهو يبرر الظلم أو يدعو للوطنية وهو مشارك في الفساد الطائفي ويدافع عن الفاسدين من طائفته.

أخيرا أقول: إن المسؤولية الأخلاقية للمثقف تكمن في نقده للسلطة الفاسدة وتعريتها أمام الشعب والدفاع عن الحقوق الإنسانية للخلق أجمعين والتحصن من إغراءات السلطة حتى لا يقع في معضلات وجودية تمس صميم ماهيته كمثقف وتحيله إلى مسخ دوني.

إنما خصصنا المثقف بهذا القول لأنه واعِ مدرك لمطلبه وعواقبه.

أما العامة فهؤلاء لا قول فيهم فهم ينقادون للعمالة دون وعي تحت أي عنوان ديني أو طائفي بأعتبار أن الدين أو الطائفة هي الأطار النهائي لوعيهم المتدني.

وخير وصف لهم هو قول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): بأنهم "همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق" 3.

***

سليم جواد الفهد

..................

1. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري،ج3، ص306.

2. من دراسة هادي العلوي: “الجذور التاريخية للعمالة”، مجلة دراسات عربية، العدد 4، شباط 1980.

3. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: الخطبة ١٢٩.

 

في المثقف اليوم