قضايا
يونس الديدي: غوغل، فيسبوك، وأمازون.. كيف تقتل العمق وتسطّح حياتنا؟

قبل بضعة عقود، كنا نقرأ الكتب بتمعن، نخوض نقاشات طويلة دون مقاطعة، ونجد متسعًا للتأمل في صمت. أما اليوم، فقد أصبحت حياتنا سريعة، متشظية، ومُستباحة. في قلب هذا التحول تقف شركات التكنولوجيا العملاقة: غوغل، فيسبوك، وأمازون. هذه الشركات لم تكتفِ بتحويلنا إلى مستخدمين، بل جعلتنا وقودًا لآلة اقتصادية ضخمة، تحوّل كل لحظة من حياتنا إلى بيانات تُباع وتشترى.
لكن الأمر لا يقتصر على مجرد جمع البيانات أو انتهاك الخصوصية، فهذه الشركات تعيد تشكيل وعينا وسلوكنا بطرق أكثر عمقًا مما نتصور، كما أشار المفكر الألماني العميق بيونغ تشول هان، الذي يرى أن هذه العولمة الرقمية تسطّح الفكر، وتقتل التأمل، وتحوّل الإنسان إلى كائن متعب، غارق في بحر من المعلومات المبعثرة، دون قدرة على الغوص في المعنى الحقيقي للحياة.
تجزئة العقل وفقدان العمق
قبل عصر الإنترنت، كان الإنسان قادرًا على التركيز لساعات، سواء في قراءة كتاب، أو في كتابة مقال، أو حتى في تأمل الطبيعة. أما الآن، فنحن نقفز بين عشرات النوافذ والتطبيقات، ننتقل من إشعار إلى آخر، نقرأ الأخبار في عجالة، ونستهلك المحتوى كما لو كان مجرد وجبات سريعة.
غوغل، بفلسفتها القائمة على سرعة الوصول إلى المعلومة بدلًا من فهمها، جعلتنا نبحث عن إجابات جاهزة بدلًا من طرح الأسئلة العميقة. أما فيسبوك، فقد حول حياتنا إلى سلسلة من المنشورات السطحية، تغذي الحاجة إلى الإعجاب أكثر من الحاجة إلى الفهم. وأمازون، فبإغرائها الدائم لنا بالاستهلاك الفوري، جعلت كل شيء متاحًا بكبسة زر، لكنها في المقابل جرّدت الأشياء من قيمتها العاطفية، وأفقدتنا متعة الانتظار والتطلع.
الإنسان المستباح: حين تصبح حياتنا منتجًا
إن كان القرن العشرون قد شهد تحوّل الإنسان إلى ترس في آلة الإنتاج الصناعي، فإن القرن الحادي والعشرين جعله مجرد منتَج رقمي، تُستخرج منه البيانات ليعاد بيعها. فيسبوك لا يقدم لك منصة مجانية للتواصل بقدر ما يحوّلك إلى مُنتَج يبيعه للمعلنين، أما غوغل، فهي تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك، وأمازون، فتراقب عاداتك الشرائية بدقة تجعلك مكشوفًا بالكامل.
كما يحذّر بيونغ تشول هان، فإننا دخلنا مرحلة جديدة من “الرأسمالية الرقمية”، حيث لم نعد نعمل لصالح رؤسائنا فقط، بل أصبحنا نعمل بلا وعي لصالح خوارزميات ضخمة، تستهلك طاقتنا العقلية، وتجعلنا متصلين دائمًا، غير قادرين على الانفصال أو الاستراحة.
مرضى العصر الرقمي: إجهاد مستمر دون راحة
إنسان اليوم ليس فقط متعبًا، بل يعاني من إرهاق لا مرئي. نحن لم نعد نعيش وفق إيقاع الطبيعة، بل وفق إيقاع الإشعارات والتنبيهات والرسائل الفورية. كل لحظة صمت تبدو وكأنها “وقت ضائع”، وكل محاولة للابتعاد عن الشاشة تُشعرنا بالذنب.
منصات التواصل الاجتماعي لا تمنحنا سعادة حقيقية، بل تدفعنا إلى سباق لا ينتهي من المقارنات، حيث نرى حياة الآخرين كأنها أكثر إشراقًا، فيما نشعر بأن حياتنا ناقصة. أما الإدمان على التسوق الإلكتروني، فقد حوّلنا إلى كائنات تلاحق التخفيضات دون حاجة حقيقية، فيما تزداد المخلفات الإلكترونية والتلوث البيئي.
هل يمكن الهروب من هذا الفخ؟
قد يبدو العالم الرقمي قدرًا لا مفر منه، لكن الوعي بهذه المشكلة هو الخطوة الأولى لمقاومتها. لا أحد يطلب منا أن نهجر الإنترنت تمامًا، لكن علينا أن نستعيد العمق المفقود:
1. القراءة ببطء: بدلًا من التهام الأخبار بسرعة، حاول أن تقرأ كتابًا بتمعن، بعيدًا عن التشتيت.
2. تقليل الإشعارات: أعد ضبط هاتفك ليعمل لصالحك، لا لصالح الشركات التي تلاحق انتباهك.
3. التواصل الحقيقي: استبدل بعض محادثاتك الرقمية بلقاءات وجهاً لوجه.
4. التأمل والفراغ: لا تخف من لحظات الصمت، فهي ضرورية لإعادة ترتيب أفكارك.
5. التحكم في استهلاكك: فكر مرتين قبل أن تشتري شيئًا لمجرد أنه ظهر لك في إعلان.
العالم الرقمي ليس شرًا مطلقًا، لكنه مصمم ليسلبنا انتباهنا ووقتنا. وإذا لم ننتبه، فقد نصبح كائنات متعبة، متصلة دائمًا، لكنها فارغة من الداخل.
الآن، السؤال لك: هل ستسمح لهذه الشركات أن تحدد كيف تفكر وتعيش؟ أم أنك ستستعيد السيطرة على حياتك؟
***
ذ. يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في تحليل الخطاب