قضايا

عبد السلام فاروق: سؤال قديم عن النهضة

منذ أن طرح سؤال النهضة في العالم العربي في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، لم يزل هذا السؤال يؤرق الوعي الجمعي، ويعود في كل لحظة تعثر حضاري. وفي هذا السياق، تبرز المقارنة بين التجربتين المصرية واليابانية في القرن التاسع عشر كواحدة من أكثر المقارنات دلالة على مفارقات التحديث في الشرق. لماذا نجحت اليابان في أن تصبح قوة صناعية في أقل من خمسين عامًا، بينما تعثرت مصر رغم بداياتها المبكرة؟

 لقد دوت مدافع نابليون على أسوار الإسكندرية، هنا استفاق الضمير المصري على سؤال لم يبرح ساحته: كيف نعاود النهوض؟ سؤال ظلت الإجابات عنه تتعثر بين محاولات طموحة وواقع يأبى الانفكاك من إرث التخلف. فبينما بقيت مصر تتأرجح بين المطرقة والسندان، تكشف المقارنة مع تجربة اليابان في القرن التاسع عشر عن مفارقة صارخة: ضفتان بدأتا من نقطة زمنية متقاربة، لكن مصيريهما افترقا على نحو درامي.

فما الذي جعل إصلاحات "ميجي" تؤسس لنهضة مستدامة، بينما انطفأت شعلة محمد علي مع خفوت ظله؟ إنها ليست مجرد مسألة وقائع تاريخية، بل معضلة تتعلق بالبنى العميقة التي تشكل وعي الأمم وتوجه اختياراتها في لحظات المصير.

الباشا: تحديث بإرادة فردية

في عام 1805، اعتلى محمد علي باشا السلطة في مصر، وبدأ مشروعًا طموحًا لتحديث مؤسسات الدولة، مستلهمًا النموذج الفرنسي في الإدارة والتعليم والصناعة. أرسل بعثات إلى أوروبا، أسس مدارس متخصصة، وبنى جيشًا حديثًا. غير أن المشروع، بحسب الباحث خالد فهمي، ظل مرتبطًا بإرادة الحاكم ولم يتجذر في بنية المجتمع. فالمجتمع المصري ظل خارج دائرة الفعل، وكانت عمليات التحديث تدار مركزياً لخدمة السلطة، لا المواطن.

 نعم كان محمد علي رجلاً حاد الذكاء، مغامرًا بطموحٍ سلطوي، رأى في مصر أرضًا بكرًا تصلح لبناء مجده الشخصي؛ لقد بدأ من الجيش، ظنًا منه أن القوة تصنع الدولة، فاستقدم الخبراء الفرنسيين، وشكل جيشًا حديثًا، لكن فاته أن الجيوش لا تبني أوطانًا إن لم يسندها شعب حر. انقلبت آلة التحديث إلى جهاز تجنيد قهري، وأصبح "السفر برلك" كابوسًا للفلاحين، الذين صاروا يهربون من أرضهم خوفًا من الابتلاع القسري في آلة الدولة.

اليابان والغرب: لحظة التحول

في المقابل، واجهت اليابان تهديدًا مباشرًا من الغرب عام 1853، عندما أجبر الأسطول الأميركي بقيادة كومودور بيري اليابان على فتح موانئها. حينها أدرك اليابانيون أن العزلة لم تعد ممكنة، فقرروا تبني نهج إصلاحي جذري، تجسد في ما عرف بـ"إصلاحات ميجي" (Meiji Restoration) عام1868 . بحسب المؤرخ "جون داور" (John W. Dower) فإن السر لم يكن فقط في استيراد التكنولوجيا، بل في إعادة بناء العلاقة بين السلطة والشعب، وتحويل التحديث إلى خيار وطني جماعي.

  لقد أدرك اليابانيون، في مواجهة تهديد الغرب، أن التحديث ضرورة وجودية لا مجرد أداة للسلطة. لم يكن الإمبراطور ميجي وحده من يقود المسيرة، بل اجتمع حوله الساموراي العائدون من البعثات، ليصوغوا رؤية وطنية جماعية: "فلنتعلم من الغرب، لنظل نحن."

لم تكن نهضتهم مشروعًا فرديًا، بل عقدًا جديدًا بين الحاكم وشعبه، وصل إلى حد أن الإقطاعيين تخلوا طوعًا عن امتيازاتهم!

التحديث بين المظهر والجوهر

أنشأ محمد علي المصانع واستورد الآلات وطبع الكتب، نعم فعل؛ لكنها كانت أشبه بمعارض للصناعة. وظلت مصانع النسيج والورق والذخيرة معتمدة على الخبراء الأجانب، ولم تنتج طبقة عمالية أو صناعية محلية قادرة على استدامة هذه الصناعات. جلب المطابع، لكنها طبعت ما يخدم الدولة لا ما ينير العقول. أرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا، لكنها كانت محدودة العدد، مقصورة على من يخدمون أجهزة الحكم، ولم تتحول إلى سياسة منهجية للدولة.

 لم ينشئ محمد علي بهذا المنطق السلطوي عقلًا صناعيًا أو فكريًا مستقلًا. ظل التحديث قشرة فوق سطح مجتمع لم يمس جوهره. حتي الأزهر كمنارة علمية ودينية ظل على هامش مشروعه، بينما احتكرت المعرفة داخل نخبة منعزلة عن الشعب.

 لعل أحد أبرز الاختلافات بين تجربة مصر واليابان تمثلت في الاستثمار في التعليم. ففي اليابان، أصبح التعليم إلزاميًا في كل أنحاء البلاد بحلول عام 1872، أي بعد أربع سنوات فقط من بدء عصر ميجي. ترجموا الكتب الغربية، لكنهم لم يستوردوا الأفكار جاهزة، بل هضموها وأعادوا صياغتها بما يتناسب مع قيمهم، وكان الهدف "بناء مواطن حديث" وليس فقط موظفًا للدولة. كانوا يعرفون أن التقدم لا يقاس بعدد الآلات، بل بمدى تحول الإنسان إلى مركز الفعل والإبداع. في المقابل، ظل التعليم في مصر محدودًا بالنخبة، ولم تنشأ منظومة تعليمية شعبية شاملة إلا في فترات متأخرة.

الزراعة: من القهر للمشاركة

الزراعة أيضًا شهدت تباينًا واضحًا. ففي حين صادر محمد علي الأراضي من الفلاحين، وفرض نظامًا احتكاريًا أرهقهم بالضرائب، قامت حكومة ميجي بمنح الفلاحين ملكية أراضيهم، وأصدرت قانونًا ضريبيًا جديدًا شجع الإنتاج وزاد من استقلاليتهم. ووفقًا لدراسة "يوجي هوريكاوا" (Yuji Horikawa)، فإن هذا التحول في البنية الزراعية كان حاسمًا في تمويل الصناعات اليابانية الناشئة. هكذا أطلق اليابانيون طاقات الفلاحين بتحويلهم إلى ملاك حقيقيين، ضمن قانون ضريبي عادل صدر عام 1873. كانت الفكرة واضحة: لا نهضة من دون قاعدة اجتماعية راسخة. دعمت الدولة الصناعات الصغيرة، ولم تتعجل قطف الثمار، بل راهنت على التراكم البطيء، العادل والشامل.

على الناحية الأخرى نعرف كيف صادر محمد علي الأرض من الفلاحين، وأخضعهم لنظام احتكاري حولهم إلى عبيد لخدمة اقتصاد الدولة. زرع القطن لا لإثراء الأمة، بل لتمويل الحروب والقصور، فيما جرى خنق روح المبادرة الفردية، وقتل إمكانات التراكم التنموي من الجذور.

مفترق الطرق: مصر واليابان

على المستوى السياسي، ظلت مصر خاضعة لتوازنات استعمارية معقدة، انتهت بالاحتلال البريطاني عام 1882. أما اليابان، فاستطاعت أن تبقي الغرب على مسافة، ونجحت في هزيمة روسيا القيصرية عام 1905، وهو حدث كان له وقع صادم في العقل الأوروبي، ودفع العديد من المفكرين العرب، مثل عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان، إلى التساؤل: لماذا تقدمت اليابان وتأخرنا نحن؟

 لقد انتهى مشروع محمد علي بغيابه عن المشهد، لأنه لم يكن مشروع أمة بل مشروع حاكم. ذاب الحلم في ركام الديون والاحتلال، وتحولت إنجازاته إلى أطلال.

أما اليابان، فانتقلت من دولة مغلقة إلى قوة كبرى خلال جيلين. هزمت روسيا، وفرضت احترامها على الغرب، وأصبحت رمزًا آسيويًا لنهضة متزنة، جمعت بين الحداثة والهوية.

الفارق الجوهري أن محمد علي أراد تحديثًا يكرس سلطته، بينما أرادت اليابان تحديثًا يعبر عن إرادة أمة. الأول استورد الشكل دون الجوهر، والثاني هضم الجوهر وصنع الشكل.

فشل الأول لأنه فرض نهضته من فوق، بينما نجح الثاني لأنه بنى نهضته من الجذور.

والدرس هنا خالد باق: لا يمكن لأمة أن تنهض بأوامر النخبة الحاكمة وحدها، بل بحاجة إلى وعي جمعي يحول النهضة إلى ثقافة. النهضة لا تورث، ولا تفرض، بل تخلق بإجماع الداخل، لا بإعجاب الخارج. وإن كانت اليابان قد نجحت في صنع معادلتها الخاصة، فإن مصر ومعها العرب ما زالوا في انتظار نهضة حقيقية، تنبع من الذات، لا تستورد من الآخر.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم