قراءات نقدية

جبَّار ماجد البهادليّ: الإمتاعُ الفنِّي في جَماليَّاتِ التَّسريدِ القِصصِي

دِراسةٌ فِي مُدوَّنةِ عَبدِ اللهِ المَيَّالي القَصيرةِ جِدَّاً (أرانِي أعصرُ حِبرَاً)

مِهادُ تَوطئةٍ:

 لِكلِّ خطابٍ نصيٍّ سواء أكان خطاباً شعرياً أم نثرياً جانبان مهمَّانِ في نظريات القراءة وآليات التلقِّي المعرفي الفكري، الجانب الأوَّل ما يقوله الكاتب ويبثُّه من أفكارٍ مُنتخبةٍ مُعيَّنةٍ، وهو الخطاب النصِّي الموجَّه للقارئ بعينه، والثاني ما يتلقَّاهُ المُتلقِّي الواعي أو القارئ النابه لهذا الخطاب، وهوَ التأويل النصِّي لفكرة الخطاب ووحدته. والخطاب والتأويل النصِّي هما ركنا آلية التلقِّي المعرفي للإبداع الفكري. وعندما يتوَحدن هذانِ الجانبانِ المُهمَّانِ الفكري الخطابي(المُرسل)، والتأويلي المعرفي(المُرسل إليه) معاً في بوتقةٍ نصيَّةٍ واحدةٍ تتحقَّق الغاية المنشودة لأهمية الخطاب، وتكتمل مَقصديات الهدف السامي من متن الرسالة الإبداعية التي جوهر العمل ونواته الحقيقية عند القارئ.

 ومثل هذا التوصيف التنظيري لجماليات الخطاب النصِّي، ولا سيَّما خطاب السرد، يُحيلنا قصدياً إلى تجلِّيات المجموعة القصصية القصيرة جداً(أراني أعصرُ حِبرَاً) للقاصِّ والروائي والأديب الباحث المثابر عبد الله الميَّاليّ.المجموعة التي احتوت على مائةِ قصَّةٍ من النصوص القصيرة جدَّاً، والتي أدَّت مهمَّتها الرسالية الجمالية والفكرية المتوثبة، وبلغت منتهاها المعرفي والإنساني والفنِّي في ذهنية القارئ ووصلت ضميره الوجداني على طبق فاعل من أنَّها حكاية سابقة لفكرة أو لاحقة.

العَتبةُ العِنوانيَّةُ للمُدوَّنةِ (ثُريَّا النَّصٍّ)

 يعدُّ العنوان الرئيس -في كلِّ عملٍ إنتاجي إبداعي تخليقي- بوابةَ الدخول المركزية الأولى الموازية للنصِّ المُرسل وعالمه الخطابي القارِّ. وهوَ تلكَ اللَّافتة الإغرائية التعيينيَّة والتوصيفية الضوئية، أو العلامة السيميائيَّة التأويلية التي يُواجهها القارئ مرئيَّاً وفكريَّاً وسمعيَّاً وجهاً لوجهٍ لأول وهلةٍ، والتي من خلال صور لوحتها الغلافية الفنيَّة والجماليَّة والموضوعية الأولى ينطلق فكر القارئ إلى فضاءات مدينة السرد أو الشعر الفاضلة عبر حلقة كبرى من الصراع الدائر بين يوتوبيا الخير وديستوبيا فوضى الشرِّ الناتج عن فعل أحداثها وفواعل شخصياتها الواثبة الخُطى.

 وإنَّ عنواناً فنيَّاً نسقياً ثقافيَّاً وانزياحيَّاً تناصيَّاً مُتفرِّداً مثل عنوان مدوَّنة(أراني أعصرُ حِبْرَاً) للكاتب عبد الله الميَّاليّ ما هو إلَّا انزياح مخيالي فكري تناصِّي تحوِّلي تُراثي ديني مع السياق البنائي الظاهر أو المضمر للآية(36) من سورة(الكافرون) القرآنية:(ودخَلَ مَعهُ السِّجنَ فَتيانِ قَالَ أحدُهَمَا إنِّي أَرَانِي أعْصِرُ خَمْرَاً).المعروفة بقصِّة يُوسفَ مع الغُلامينِ اللَّذينِ كانا معه في السجن.

 فإذا كان أحد أبطال هذه القصة الدينية المأثورة حكايتها التسريدية تاريخياً، هو الساقي لربِّه خمراً أو صاحب الشراب العاصر لسيِّده عِنباً بحسب ما يَذهب إليه التأويل الرؤيوي اليُوسُفي لذلك التفسير الحُلُمي، فإنَّ الكاتب القصصي عبد الله الميَّالي المُنشئ المُبدع والمنتج لمحتوى هذه المدوَّنة وفق تجلِّيات هذا التأويل، هو العاصر حِبْرَاً من مداد خمره القصصي السحري السردي القصير جداً والواثب فعلاً وعملاً في عدسة التقاطاته العينية ومشاهداته الموضوعية لحركة الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي والأدبي بمختلف صوره وأشكاله الواقعية والمخياليَّة الأُسطورية الماتعة.

 وذلك خلال مناطق تعدُّدية وأنساق ثقافية وأدبية لصور السخرية والفنتازيا الغرائبية والعجائبية الكاسرة لأفق توقُّع جدار المألوف اليومي الراهن بِجدتِها المُوضوعية وتجديدها الفنِّي والبلاغي والنقدي الساخر لِهُويةِ صوتِ الآخر، فلا حِبْرٌ سائلٌ يُعصَرُ مِدادُهُ الخَمري لِيُعطيَ مردوداً مُسكِّراً كما تُعصرُ الأعنابُ وتُخمَّرُ لتنتجَ خمراً يُذهِبُ العقل الإنساني سُكْرَاًوَيُغيِّبهُ في انتشائه غِيابَاً رُوحيَّاً.

 ولكنَّ المعادل الموضوعي المهمَّ للفعل الحالي(أعصرُ) التناصِّي القديم والجديد بين الدالتين النصيتين(حِبْرَاً وخَمْرَاً)، هو النشوة الروحية الساحرة التي يُضفيها فعل دالة(العَصْر)المؤثَّرة في التحكُّم بالعقل والروح والجسد في أبهى تجلياته النفسية وحمولاته ومقصدياته الذاتية الإنسانية. والعتبة العنوانية(أراني أعصرُ حِبْرَاً)،هي تركيبٌ نَحويٌّ منتظمٌ لجملة فعليةٍ بَصَرِيَّةٍ،والجملة الفعلية أكثر تأثيراً من الجملة الاسميَّة؛ لأنَّ الفعلية تبداً بحدث فعلي وتنتهي بحدث فاعل لذلك الفعل القائم.

 وعلى الرغم من اختلاف حركة البناء الشكلي لدالة فاء الفعل المكسورة الحاء في كلمة(حِبْرَاً)، ودالته المفتوحة الخاء في مفردة(خَمْرَاً)، فإنَّ الميزان الصرفي لوزن كلتا المفردتين واحدٌ هو الوزن(فعْلَاً) بفتح وكسر فاء الفعل. ويكاد يكون متشابهاً في إيقاعه الصوتي الموسيقي سجعاً قصيرَ الفقرة النصيَّة آيةً وعنواناً، وبالتالي فإنَّ حصيلة العطاء التخليقي الإنتاجي لهما الارتواء السحري والانتشاء المذهل للعقل. وسواء أكان ذلك المؤثِّر خمراً مُسَكِّرَاً أو سرداً فنيَّاً قصصيَّاً قصيراً جدِّاً ساحراً في توظيف واقعة الحدث الموضوعية وتشكيلها وبنائها وفعل ضربتها الإدهاشية الصادمة.

 وعلى وفق ذلك المُثير العنواني الاشتراطي، فإنَّ الوقع الدلالي للعتبة العنوانية لجِيرار جِينيت يكون صادماً ومُذهلاً مثلما كان فعل تأثير الخمر ضياعاً وخلخلةً للاتزان العقلي في تصور الأشياء والموجودات الفكرية والمادية البحتة، وشتانَ ما بينَ دالتي(حِبْرَاً وخَمْرَاً).بيدّ أنَّ السحر كان مِهمازاً مسمارياً قويَّاً فاعلاً ومؤثِّراً بين مُخرجات الدالتين. فلا حبرَ من غير سردٍ ولا خمرَ من غيرِ نشوةٍ للعقل. فالعطاء الروحي والفنِّي الناتج واحد؛لكن الفعل الوجودي لهما والتأثير الروحي مُختلف جداً.

 إنَّ َفِعلَ العَصْرِ والتحضير للخَمرِ يتمُّ عمليَّاً باليدِ، في حين أنَّ العَصرَ بالحِبر يأتي فعله حركياً وذهنياً وفكريَّاً وعقليَّاً. وهذا يشي بأنَّ عقل عاصر الخمر ليس كعقل عاصرِ الحبرِ أو(الفكرة)، فالأول سهل المنال ممتنع، بينما الثاني ليس بالسهل الممكن المستطاع في الحصول عليه ببساطةٍ، وإنما يحصل بشق الأنفس؛ لذلك كان العصر بالحبر فكراً خِلَافاً للعصر بينما العصر بالخمر سُكراً وغياباً، وهذه هي نقطة التلاقي المؤتلف والتقاطع والتفاوت المُختلف بين التناصين القديم والجديد.

 أمَّا العتبات النصيَّة الفرعية الداخلية الأخرى للمدوَّنة القصصية القصيرة جدَّاً، والتي بلغت نحو مائة عنوانٍ قصيرٍ جدَّاً، فإنَّ تركيبها النحوي والبنائي الجُمَلي الذي يُحسنُ السكوت عليه في إتمام المعنى الدلالي القريب في غالبيته العظمى أو بنحو(95) عنواناً منها جاءَ مُكوَّنَاً من كلمةٍ مفردةٍ واحدةٍ، في حين العتبات الخمس الأخرى المتبقية للمدوَّنة جاءت في كلمتين اثنتين متحدتين، فكان تركيبها إمَّا صفةً وموصفاً، أو جارَّاً ومجروراً، أو كان مضافاً ومضافاً إليه؛ وذلك بحسب ما اقتضته ضرورة توظيف الوصف الحكائي العنواني لماهية المحتوى السردي الذي اختاره الكاتب.

 ولعلَّ المُلاحظ واللَّافت على البناء المعماري لهندسة هذه العتبات النصيَّة المفردة في نَظمِ تركيبها النسقي التنظيمي والسياقي الجُملي أنَّها جاءت نكراتٍ لمبتدآتٍ أو معارفَ محذوفةً مُقدَّرةً، وتقديرها الجُملي إمَّا كلمة(العنوانُ)، أو(القِصةُ) في إتمام معناها ومبناها الكلي التام المُفيد. بيدَ أنَّ المهمَّ في قصدية هذه العتبات النصيَّة ذات الكلمة الواحدة الانفرادية التي التزم بها الكاتب في أكثر نصوصه القصصية القصيرة جدَّاً على الرغم من كونها نكراتٍ لمبتدآتٍ مُقدَّرةٍ محذوفة، فإنَّها جاءت أخباراً لمسروداتٍ متواليةٍ مُتمِّمَةٍ لمعاني تلك المعارف الابتدائية المحذوفة التي يتمُّ بها المبنى العنواني.

 هذه هي البلاغة العنوانية والفنيَّة لتلك المسرودات القصصية الموجزة. وكلَّما كان المعنى اللُّغوي النصِّي العنواني موجزاً ومقتضباً كان المبنى القصصي السردي مُكثَّفاً مكتنزاً وبليغاً مُدهشاً لذائقة القارئ في رسم صياغته التعبيرية، وَجَودته الموضوعية الفنيَّة المتراتبة الشكل والمضمون معاً.

 وقد حرص جِدَّاً الرائي والكاتب الميَّالي عبد الله على أنْ تكون جلُّ اختياراته العنوانية ثريةً ومتنوِّعةً في وحداتها الموضوعية وروافدها المعرفية وقيمة أفكارها الفلسفية والدلالية ، فكانَ موفَّقاً جدَّاً في ثنائية الجمع بين الموضوعات ذات المحتوى الدلالي الحسِّي المادي الواقعي وورؤية المخيالي الأسطوري المعنوي الذي لا يخلو من غرائبية الواقع وفنتازية العجائبي المُدهش الساخر.

 وقد ارتأى القاصُّ الميَّالي اختيارَ إحدى قصصه الفرعية الموسومة(أراني أعصرُ حِبْرَاً) أنْ تكونَ عنواناً نصيَّاً رئيساً قائماً بذاته الكليَّة، وهالةً ضوئيةً لافتةً لمُدوَّنته الخطابية القصصية القصيرة جداً. وهذا الاختيار القصدي للعنونة ناتج من باب إطلاق الاسم الفرعي الجزئي على الكلي. إذْ كان هذا الجزء الثانوي لافتاً في محتواه الفكري والمعرفي الهادف، ومضيئاً في سعة شموليته السرديَّة ومِساحته الفنيَّة الوظيفية والتي أكدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت كعتبةٍ نصيَّةٍ مُتفرِّدةٍ في عتباته.

تَأثيثُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ وهَندستِها المِعماريَّةِ السَّرديَّةِ

 المُدوَّنة السرديَّة (أراني أعصرُ حِبْرَاً) للقاصِّ والروائيّ والأديبِ العراقي عبد الله الميَّالي، هي المجموعة القصصية الثالثة من نتاجات الكاتب السردية والفائزة بالمرتبة الثالثة في جائزة دمشق للقِصَّة القصيرة جدِّاً بدورتها الثالثة في عام 2023م، والصادرة بطبعتها الأولى في العام ذاته 2023م عن دار أمارجي للطباعة والنشر في العراق، وبِكمٍّ كيفي حجمي ونوعي من فئة القطع الكتابي المتوسِّط بلغ نحو(132)صفحةً ضمَّت مائةَ قِصَّةٍ في محتواها الأدبي السردي القصير جدَّاً.

 ومن حيث التجنيس الأدبي تعدُّ القِصَّة القصيرة جدَّاً من أصعب الأجناس والأشكال القصصية كتابةً وإنتاجاً؛ لاشتراطاتها الفنيَّة المُحكمة المُعقَّدة وآلياتها البنائية المتفرِّدة،مثلما تعدُّ بالمقابل قصيدة النثر الشعريَّة من أصعب أجناس وقواعد لُغة الشعريَّة؛وذلك لكون هذا الفنِّ القصير جداً لوناً جديداً من ألوان الأدب الإشكالي الحديث الذي أخذ بالظهور اللَّافت ولانتشار المُتسارع في عالمنا الأدبي المعاصر بشكل واضحٍ. وأصبح هذا النوع من الكتابة الإبداعية الحديثة لوناً سرديَّاً قائماً بذاته على الرغم من كونه شَكلاً أدبيَّاً هجيناً وليس أصيلاً فإنَّ جنس هجنته منبثقٌ من رَحِمِ القِصَّة القصيرة أولاً، واستمدَّ أكثر خصائصه وسماته الفنيَّة الأوليَّة من بقية الألوان والأجناس الأدبية الأخرى ثانياً.

 فقد أخذ هذا اللَّون من فنُّ القصَّة القصيرة صفاتها الفنيَّة المعروفة، واقتنص من سرديات الرواية بعض عناصرها الأساسيَّة المهمَّة،ومن القصيدة الشعرية اكتسب لغتها الشاعرية وتكثيفها وإيجازها الاقتصادي واللُّغوي وتوترها النفسي، ومن المسرحية استلهم حوارها الدرامي البَصري والسَّمعي، ومن النثرية الفنيَّة استحضر جمالية إيقاعها الموسيقي الداخلي الذي يمنحها توهُّجاً وتمايزاً وتفرُّداً.

 وإنَّ ما يلفتُ النظرَ في هذا الجنس من القصة القصيرة جداً عن نظائره الأُخرى في السردية، وأعني القصة القصيرة(الطويلة)هو فنيَّة البناء الحكائي في معمارية حجمها الكمي والنوعي البنائي الهندسي الجمالي الذي لا يتجاوز تأثيثه الهيكلي أكثر من ثلاثة أسطرٍ مُكتنزةٍ، وقد تكون أكثر من سطرٍ سرديٍّ واحدٍ يؤهِّلها تأثيثيَّاً ومعماريَّاً بأنْ تكون جنساً سرديَّاً مُعبِّراً عن كينونة ذاته الوجودية.

 وإنَّ من أهم ما يُميِّز مدوَّنة(أراني أعصر حِبْرَاً)المُعبِّرة عن بلاغة دلالتها الانزياحيَّة والجماليَّة هو التزامها بالعناصر الأساسية للقصة القصيرة جدَّاً واهتمامها بأركانها الفنيَّة وقيم شرائطها وآلياتها الأسلوبية الزمكانية المتطوِّرة، والمُتمثِّلة بقصر وضيق حيز ماهية الوحدة الموضوعية المُعبِّرة عن اللَّحظة الشعورية الهاربة وما تنتجه من رؤيا وأحلامٍ وفنتازيا وسعة الخيال أو قصره المناسب لها.

 وفي هذا السياق البنائي الفنِّي تأتي أيضاً عناصرٌ مثلُ، المُبادَأَة والإقدام والجرأة الفنيَّة، والمناورة الأسلوبية المتعلِّقة ببناء الوحدة العضوية للنصِّ السردي، وعناصر أخرى مثل، خاصية التكثيف اللُّغوي والمعنوي والدلالي، والتركيز الذهني، والإيحاء الصوري، والمفارقة الإدهاشية المُذهلة المرتبطة بفعل الضربة الضوئية الختامية الصاعقة لواقعة الحدث الموضوعية الماتعة التسريد.

 وثمَّةَ اللِّجوء الشديد إلى بلاغة الأنسنة الصورية وفنيَّة التعبير الانزياحية في الأسلوب. فضلاً عن ذلك توظيف واستخدام العناصر والإشارات الرمزية والتقانات اللُّغوية والسيميائية المُتاحة في (الإيماء والتلميح والإضمار والغموض والتعقيد والإيهام)، والتندر المعنوي والاعتماد على تحشيد الصيغ الفنيَّة في الطرافة التعبيرية التي تُجسد تأثيرات اللَّقطة الحدثية الواثبة التي تنهض بالسرد.

 وكذلك التأكيد على خاصية التَّوهج في إضاءة الجملة التقفيلية للخاتمة المِهمازيَّة الصادقة للفعل الحدثي، والتأنَّي والدقة في اختيار لوحة العتبة العنوانية(ثُريا النصِّ)الذي يحفظ لمطلع البداية أهمية مفتتحها القَصِّي وللخاتمة حُسنَ تَخَلُّصِها الموضوعي الوامض. ذلك التختيم الذي يماهي تدريجياً هدوء مطالعها الأوليَّة ومُقدِّمات مُستهلاتِها الافتتاحية الراكزة لأنَّ الضربة الختامية حياتها النابضة.

 ومثل هذه التوصيفات الفنية والعناصر الأساسية المُتبعة في كتابة وإنتاج القصة القصيرة جدَّاً تشي بأنَّ كلَّ نصٍّ قصصي قصير لا يعتمد في تخليقه الفنِّي وتكوينه التعبيري على عنصر المفارقة الحدثية والهِزَّة الإدهاشية الكاسرة لأفق توقُّع القارئ أو المتلقِّي هو بالتأكيد يعدُّ نصاً فِعْلِيَّاً بارداً، وصوتاً لغوياً باهتاً غيرَ مُؤثِّرٍ في أَثَرِ ضربته التوقعيَّة، ولا يمتُّ بأيٍّ صلةٍ وثيقةٍ من الصِّلات إلى الإبداع الفنِّي القصصي القصيرالوامض لروح النص والمُعبِّرعن ثورته البركانية المُلتهبة.ولا يعدو هكذا نصٍّ سرديٍّ خَالٍ من هِزةٍ التأثير النفسي سوى كونه نصٍّاً نثريٍّاً عادياً بأيِّ حالٍ من الأحوال.

 والقارئ النابه الفاعل الذي يتتبع بتأمُّلٍ واعٍ متنَ نصوص مدوَّنة(أراني أعصرُ حِبْراً) الدالة على محتواها الإبداعي المثير، سيجد أنَّها نصوص سرديةً قصيرةً جدَّاً تهدفُ بنائياً وسياقيَّاً إلى إرساء قواعد خطاب قصصي سردي حديث متجدِّد وفاعل الأثر في خطٍّ التجريب الحداثوي لفكر القارئ.

 وقد تمَّ ذلك الفعل السردي للكاتب من خلال لغته الأنوية الشاعرية المتساوقة، وصياغة جمله القصصية المِهمازية المكثَّفة، وإيقاعية أسلوبيته التعبيرية الهادفة، وثبات قدرته المهارية المتراتبة التي تمكِّنه فنيَّاً وأُسلوبياً من التواصل المعرفي بهذا التسريد القصصي الشائق القصير جداً في مثل هكذا نصوص توظَّف تركيبياً في بضع سطور فنية مُجتزة، وجُملٍ بنائيةٍ موجزةٍ مُختصرةٍ؛ لكنَّها في واقع الأمر تُعدُّ نصوصاً فكريةً عميقةً مُركزةً وفي غاية الأهمية السردية الموضوعية الماتعة.

 كونها تحمل في طيَّاتها الموضوعية الفنيَّة والجماليَّة أبعاداً أو قيماً إنسانيةً متعدِّدةً. وتُعطي إشاراتٍ رمزيةً وعلاماتٍ سيميائيةً مُعبِّرةً وموحياتٍ دلاليةً كبيرةً مؤثَّرةً، ويمكن أنْ تُغطِّي موضوعاتٍ وأفكاراً وهواجس خطيرةً مُلِحَّةً ذات صلةٍ بالواقع الإنساني الراهن الساخن،(السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأدبي والثقافي). فهذه النصوص القصيرة جداً اختصرت بلغتها التعبيرية الموجزة حكايا وقصص موضوعاتٍ طويلةً وصفحاتٍ كتابيةً عديدةً كثيرةً عبر أثير مجسَّات هذا التراسل النصي الفكري القصصي القصير اَللَّاذع من الحكايات والمثيرات النصوصية الإدهاشية المُلتقطة.

 والذي يَحمِلُ القارئَ الناقدَ والمتلقِّيَ العادي الواعد إلى أن يهيم بفضاء خياله الواسع وَلَهَاً ويُبحِر بذائقته الفنيَّة في عوالم النصِّ إمتاعاً ويطوف بتجلياته الفكرية والجمالية. حتى تراه تارةً مستمتعاً بقراءته وإبداعه وابتداعه القصي، وتارةً تراه مُنقِّباً نابشَاً في حفرياته عن لُقى آثاره الأركيلوجية وظلاله الفنيَّة الشاخصة، وتارةً ثالثةً كاشفاً بسوناره عن رؤاه الفكرية وخبايا حمولاته الآيدلوجية.

 يحيلنا هذا اللَّون الفنِّي من الكتابة القصصية القصيرة إلى أن القاصَّ السيِّد الميَّالي كاتب مثابر دؤوب لا شكَّ في مثابرته؛ فهو يسعى إلى الجمع بين مثلث(التقانات الفنيَّة، والحكايات القصيرة المُكتنزة، والتجريب الحداثوي). وقد يميل كثيراً إلى نوعٍ آخر من جنس القصِّ السردي يمكن أنْ نطلق عليه(القصّ التألُقي)أو الألق القصصي الثيمي المتميِّز في ماهية محتواه الفكري الموضوعي.

 إنَّ هذه التوليفة التجميعية المتوحدنة تخلق كاتباً قصصياً متفرِّداً في أسلوبيته النصيَّة المتوهجة، وفي وقع معجمه القصصي السردي القصير، وتُميِّزه عن نظرائه الكُتَّاب في فنية التخليق السردي الذي يحقق له أسس ومعايير الفنِّ الكتابي القصصي القصير جداً بألمعيةٍ واقتدارٍ في محلِّ مركزية اشتغاله القصصي الحكائي العميق الموحَّد، والبعيد عن أشكال الكتابة التقريرية والمباشرة والإملال الفكري والابتذال المعنوي الذي يقتل رُوحَ النصِّ ويُمِيتُ فاعليةَ الكتابة النثرية الإبداعية الحقَّة.

 إنَّ ما يلفت النظر في قصص هذه المجموعة (أراني أعصرُ حِبرَاً) القصيرة جداً أنها قصص ذات بنية سرديةٍ تجدُّدية متحركةٍ، وليست نصوصاً سياقيةً نمطيةً جموديةً ثابتة الإطار. بل على العكس من ذلك؛ كونها بنيةً تجريبيةً قلقة الحركة عديمة الثبات أو الاستقرار في حركة تماسكها النصِّي؛ وذلك كونها تنفتحُ حيناً على الهمِّ الإنساني الواقعي، وتكشفُ خبايا وجعه الداخلي النسقي الثقافي المضمر والظاهر في جانب، وحيناً آخر تخرج عن خطِّها المحوري إلى فنِّ الأسطرة المرتبطة إسقاطاتها التاريخية والتراثية بشيءٍ من لوازم الواقع ومهيمناته في جوانب شتَّى متعدِّدة أخرى.

 وحيناً ثالثاً تَعمدُ كثيراً إلى استخدام السُّخرية والتَّهَكُم الذي هو احتجاج لديستوبيا الشر ورفض واضح للقمعِ والتهميش والنكوص والإقصاء من خلال فنتازيا فنِّ السخرية التي تتخذ من غرائبية الموضوع وعجائبيته السحرية هدفاً لها في تصوير مشاهد الواقع الحياتي المُحتقن الذي لم تألفه أبداً قوانين الطبيعة ونواميسها الكونية وعناصرها المتحركة أو الثابتة على حدٍ سواءٍ. وذلك من خلال لغةهذا التكثيف القصصي المُكتنزمن النصوص الأدبية التي تُلامس الشغاف وتهزُّ وجدان الضمير.

 هذه هي الفرادة الخصائصية المتعدِّدة الصياغات التركيبية من حيثُ البناء القصصي المحبوك والمسبوك خطابه لغةً ودلالةً. أمَّا من حيث فرادة الاشتغال الإجرائي أو مركزية عمل المشغل القصصي السردي فإنَّ القصة القصيرة جدَّاً على الرغم من كونها تعتمد إجرائياً على تقانات الإيجاز والقصر الحدثي والاقتصاد اللغوي الشديد المكثَّف والذي لا يمكن أنْ يُلقاهُ إلَّا ذو حظٍ عظيمٍ وكبيرٍ من الأمهرية والدربة القصصية العالية التي تُشهدُ له علامةً بهذا الميدان الإجرائي الصعب.

 ولا يمكن أن يغوص في بحرها اللُّجي العميق ويكشف عن دُرَرِ حُلية أحشائها الصدفية الثمينة، ويسبر أعماقها الشديدة إلَّا من كان سارداً قصصياً مُبدعاً وغوَّاَصاً مثابراً مُحترفاً، وصَيَّاداً مَاهراً في التقاط صوره الحدثية المؤثِّرة وأنساقه الثقافية الخفيَّة المُضمرة، وخبيراً مهنياً باختيار ألفاظه ومفرداته وتركيب عباراته الجُملية المتراتبة، وتوظيفها بنائيَّاً وفنيَّاً وفق أُطر السياق النسقي الأدبي الحداثوي والثقافي المعرفي الذي يتطلَّبه منهج البناء السردي المُحكم لفنِّ القصة القصيرة جدَّاً.

 إنَّ عملاً قصصيَّاً قصيراً جدَّاً ناهضاً ومثيراً مثل هذا الأثر الأدبي(أراني أعصرُ حِبرَاً) يتطلَّب في تخليقه كاتباً مَكيناً وسارداً عَليماً مُبدعاً كمثل عبد الله الميَّالي في دقة تعامله وحرصه الشديد المُتقن بحرفيةٍ في توظيف واقعة الحدث القصصية(الزمكانية)، واختزال فكرتها الموضوعية الهادفة بأقلِّ العبارات اللَّفظية الشكليَّة وأصغر المِساحات الدلالية والمعنوية المضمونية التي تُشكِّلُ النصَّ كليَّاً.

 وفي الوقت نفسه حاشداً لها في صياغاته التسريدية أقلَّ الألفاظ عدداً وأصدق المفردات الدلالية وقعاً، وأبلغ العبارات الإدهاشية إبهاراً؛ بوصفها ذات التأثيرات النفسية الأنوية الصادمة التي تضيء النصَّ القصصي القصير وتُنير جوانبه العملية، وتُرسم أبعاد حمولاته العلمية التي ينتقل بها الكاتب الماهر في تدوينه السردي من لغة التعبير الإنشائي النثري العادي البسيط إلى جماليات لُغة التعبير السردي الخلَّاق العميقة. ومن لُغة أسلوب المباشرة التقريرية المألوفة السمع والنظر إلى لغة التواصل الإيحائية والإشارية الفنيَّة ومجاوراتها العلاماتية والأيقونية. كما وينزاح بها كُليَّاً من لغة الذات الفردية الضيِّقة إلى لغة الذوات الفردية الجمعية الكُليَّة المشتركة الآفاق، فتسمو في الأفق الأدبي مهارة الكاتب السردية المتنامية في إيقاعه التعبيري الأسلوبي ورؤيته الفلسفية المتنامية.

 والحقيقة، إنَّ هندسة هذه الخصائص والقيم البنائية السرديَّة، والمستويات الفنيَّة والجمالية في هذه المجموعة القصصية، تحقِّقُ لكاتبها الميَّالي على مستوى التجنيس أُسسَ ومعايير وشرائط الفنِّ القصصي القصير جدَّاً بشكّلٍ لافتٍ ومُبهرٍ للقارئ.هذا يعكس مدى أسلوبية الكاتب التعدُّدية ومقدرته الفنيَّة في امتلاك أدوات معجمه القصصي السردي القصير والقصير جداً التي هي من أهمِّ الشرائط الفنيَّة والتقانات الإبداعية الواجب توفرها إلزامياً في أسلوبية الكاتب الإبداعية والابتداعية الناجحة.

حُقُولُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ

 تَزخرُ مُدوَّنة (أراني أعصرُ حِبْرَاً) الدالة على عتبتها العنوانية التناصيَّة التداخلية الواثبة بالحقول اللُّغوية الموضوعية العديدة، وترددات ومجاوراتها الدلالية الكثيرة التي سيطرت بقوَّةٍ على آفاق محتواها الفكري والثقافي الفنِّي الجمالي للمُدوَّنة السردية القصصية. وفي الوقت ذاته تنوَّعت أفكار وثيم هذه المجموعة القصصية القصيرة جدِّاً، فكانت فلسفتها السردية تدور حولَ موضوعاتٍ السخرية والتهكم من صوت وهُويَّةِ الآخر، وهموم الحياة وأوجاعها ومفارقاتها الحدثية اللَّاذعة.

 ويشاركها في الحدث تمظهرات الألم النفسي وصور ويلاته الداخلية والخارجية، وانزياحات الواقع الشاعرية المتوهِّجة، وديستوبيا الظلم والقسوة وشرّ الانتهاكات والويلات المُحدقة بالإنسانية، واستدعاء وقائع التاريخ الموضوعية ورموزه الخالدة، وإسقاط صورها على عقابيل الواقع الراهن المتفشية. فضلاً عن مشاهد الواقع الدرامي الكوميدي الضاحك بِملهاتهِ المفرحة، والباكي التراجيدي بمأساته وأحزانه وتجلياته الغرائبية المأساوية المتنوِّعة التي هي أٍسُ هذا الواقع وعين تمظهراته.

 واستحضر الكاتب في مجموعته موضوعاتٍ متفرقةُ خطيرةً أخرى تُشاكس الذات الأنوية الفردية وتعاكس النزعة الإنسانية الجمعية للطفل والرجل والمرأة بصورها الحياتية المختلفة التي تعكس حركة وهوية الآخر بلغة ضمير الفاعلية المتكلِّم والظاهر الحاضر والمستتر الغائب غير الظاهر التي طاف بها السارد وجسَّدها برؤاه الفكرية والفلسفية الواعدة وتشخيصاته العينية الثاقبة. والتي تحتاج إلى معالجاتٍ وحلولٍ استثنائيةٍ سريعةٍ ناجعةٍ لِرَدمِ هُوةِ المخاطر السحيقة المُحدِقة بالواقع.

 لقد قدَّم لنا القاص الكاتب الميَّالي شحنةً سرديةً فنيَّةً إمتاعيةً مائزةً وفعالةً جدِّاً في فنيَّة التعبير القصصي القصير جداً، تمكن فيها القاص ومن خلالها أنْ يكون عدسة العين السردية النقدية الثالثة المتوازنة التي تُراقب بوعي الأحداث الحياتية، وتلتقط بدقةٍ عاليةٍ مشهد التطوِّرات والتحوِّلات المجتمعية في شتَّى المجالات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والمعرفية المختلفة بلغةٍ سرديةٍ إيحائيةٍ وإضمارية استتاريةٍ إيجازية نسقيةٍ فاعلةٍ ومؤثّرة دون أنْ يُقدِّمَ لنا بياناتٍ مُفصَّلاتٍ، أو شرحَ مُطوَّلاتٍ توضيحية مباشرة لتلك التمظهرات الصورية القائمة، بل جعلنا نعيش بقلقٍ مُسيطرٍ وتوجِّسٍ لذيذٍ فعلَ اللَّحظة القصصية الشعورية الهاربة لتلك الحكايات والأنساق الثقافية الإبداعية الضاربة في العمق الأرضي التي حوَّلها الكاتب لفنٍ ينهض بتجلِّيات الواقع الآني.

 وينقلنا عبد الله الميَّالي بلغته الشاعرية الرشيقة التوهجية المتوازنة إلى ضفاف شواطئ السردية الشائقة التي أغنت نصوص الخطاب السردي القصصي بجماليات مفارقاتها الإدهاشية الصادمة. والتي جعلت من المتلقِّي القارئ أنْ ينبهر ويتفاعل مع قراءتها بتأمُّلٍ وينجذب بإمتاعٍ رغم قصر إحداثها الموضوعية إلى ضربات خواتيمها الفجائية المُبهرة التي تدلِّل على أنها نماذج أبنية رصينةٍ ومكينةٍ مُختارةٍ بعنايةٍ مُتئدةٍ من الأدب الميتا سردي لفنِّ القِصّة القصيرة جدَّاً، والِّتي يَسرُنا أنْ نخوض البحث والحفروالتنقيب إجرائياً وتطبيقياً في عرض حقولها من خلال نماذجها الموضوعية.

1-الهمُّ الإنسانيُّ وَمَفارقاتهُ الحياتيةُ:

 لِلهمِّ الإنساني ومفارقاته التحوِّلية الزمكانية مِساحةً بينيةً تعبيريةً واسعةً وكبيرةً من مركزيةً من مركزية عمل واشتغالات الكاتب عبد الله السرديَّة المُضمَّخة بِحبرِ الألم ونزيف الوجع الإنساني الكبير في بحبوحة اختزالية تكثيفية من جماليات الفنِّ القصصي القصير جدَّاً. فقدَّم لنا الميَّالي عبر أثير قلمه السردي النسقي الظاهر والمضمر دراما قصصيةً صغيرةً مُصوَّرةً لمشاهد الحياة اليومية الضاجَّة بمسرح الألم والمعاناة الارتكاسية لحياة الناس وأصواتهم وجراحهم المنكوءة بالهمِّ الثقيل.

 ولعلَّ ما يلفت النظر في هذا العرض السردي لتمظهرات الألم الإنساني وصور تجلياته أنَّها جاءت على شكل شريطٍ دراميٍّ مسرحيٍّ سريعٍ واثبِ الخُطى لا يعتمد على الحوار فقط، وإنَّما يعتمد فنيَّاً وأسلوبياً على الحوار والسرد الحدثي الفواعلي من غير تعقيداتٍ أو إضافاتٍ تحليليَّةٍ أخرى لمهيمنات الواقع الحياتي، بل قد صوَّر الميَّالي الحياة كما هي ماثلة؛ ولكن بطريقة المفارقة الإدهاشية التي تثير التأمُّل والتفكُّر بأمر واقعتها الموضوعية الحدثية، وهو ههنا موقفه تحريضي .

 وقد بلغت موضوعات وأفكار هذا الحقل الدلالي الإنساني الحياتي(26)قصةً توزَّعت موضوعاتها الفنيَّة على عنواناتٍ قصصيةٍ مختلفةٍ ومتنوعةِ الحكايات مثل،(الساعةُ الأخيرةُ، ذِكرياتٌ، صَفقةٌ، تَلصصٌ، نَدٌم، لَهفةٌ، وَباءٌ، دَينٌ، أَملٌ، مَأوى، طَبعٌ، تَنويمةٌ، غَنيمةٌ، اِستثمارٌ، فِي القَلبِ، حَصادٌ، إيثَارٌ، مُسلسلٌ، وَهمٌ، نِفاقٌ، قِناعٌ، سَرابٌ، هِوايةٌ، مُناقشةٌ، صَيدٌ، قَرصنَةٌ)، ويعدُّ هذا الحقل من أكثر الحقول اللُّغوية الدلالية والموضوعية مساحةً وتعدُّداً وتكراراً لأحداث متن مدوَّنته القصصية.

 ولنقرأ في هذا الحقل الإنساني نَصَّهُ القصير جدَّاً(تلصِّصٌ)، والذي جاء توقُّعه الحدثي المُثير مسترسلاً بلغته على لسان شابٍ مُغرمٍ بالنظر لفتاة مثيرة الشكل. وعلى الرغم من اختلاف دلالة النظرتين النظرة الروحية والنظرة الجسدية فإنَّ التقاطع بينهما أحدث إمتاعاً ومؤانسةً في المفارقة:

"فِي الحَافلةِ، جَلستْ أَمامِي بِتنورتِهَا القَصيرةِ جِدَّاً، هِيَ تُقلِّبُ صَفحاتِ مَجلةٍ، وَأنَا أُقلِّبُ نَظراتِي لِاستمتعَ بِقراءةِ مَا بَينَ السُّطورِ". (أراني أعصرُ حِبَراً، ص 35).

 وإنَّ ما يثير إمتاعنا الفكري والروحي اختلاف رغبات الشخصيتين في هذه القصة في ضربة خاتمتها التوقعية الصادمة. فهيَ تُقلِّبُ نظراتها الفكرية لتزدادَ معرفةً، وهو يُقلِّبُ نظراته الشبقية العارمة ليزداد إشباعاً وإمتاعاً مادياً،وهذا هو المعادل أو المضمر النسقي بين سطور المغايرة الذي من خلاله تمكَّن القاصُّ من التوافق بين رغبات الفكر الروحية ورغبات الجسد الحسيَّة الاشتهائية.

 في حين أنَّ النصَّ الحكائي(لَهفةٌ) القصير جدَّاً ذو السطرين المكثَّفين لغةً واختزالاً، والدال على موحياته المعرفية يعتمد بالدرجة الأولى في طياته الفكرية والسردية على المفارقة الإدهاشية الفعلية الماتعة التي أحدثها ضرب التسريد الفواعلي في المتلقِّي حيالَ طرفِه الآخر المفقود حسيَّاً ووجوديَّاً:

"عِندَمَا أنهَى المُعلِّمُ رَسمَ المَائدةِ، دَقَّ الجَرَسُ، حَتَّى عَادَ لِصَفِّهِ، اِندهَشَ لِغيابِ الطُّلَّابِ وَاختفاءِ السُّبورةِ". (أرانِي أعصرُ حِبْرَاً، ص 43).

 ومن النصوص القصصية المؤثِّرة في بنية إيحائها الرمزي والإشاري الاجتماعي والاقتصادي الساحر في رسم صورة الهمِّ الإنساني القابع تحت ظلال الجوع والعوز والظلم والاستبداد قصة (تَنويمةٌ) الدالة على موحيات معناها الفكري؛ ولأنَّ الإطعام والجوع أهمُّ من النوم وأبدى من الأمن والأمان من حيث الحاجة الإنسانية في الوقت الذي تُهدَرُ فيه موارد البلد النفطيَّة هدراً وخسارةً، وأبناؤه يتضورون جوعاً ويلتحفون السماء غطاءً وظَّف الميَّالي فكرة قصته بلغة فنيَّة استعارية:

"اَقنعَ أطفَاَلَهُ الجِياعَ بِالنومِ، فِيمَا سَقفُ الكُوخِ يَفتَحُ فَمَهُ بِشهيةٍ لِماءِ السَّماءِ. خَرجَ يَستنشِقُ هَواءً مُحترقَاً وَعيناهُ تَنعمَانِ النَظرِ لِمشاعلِ آبارِ النَّفطِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 66).

 وفي نسق ثقافي آخر من أنساق مظاهر المجتمع البشري الإنسانية الموحية الذي ينتشر فيه الفقر وتعمُّ الفاقة كانتشار النار في الهشيم، ويُسيطر صداه على حياة الناس، نصَّه الموجز قصة(مُنافسةٌ) التي تفضحُ بألمٍ كبيرٍ ممن يتباهون بالمظاهر الشكلية الخادعة ويهملون الجواهر الضمنية الصادقة على حساب صفة الفقر إرضاءً لرغباتهم وتوافقاً مع نواياهم الخفية المضمرة كظاهرة اجتماعية:

"عِندَمَا اِستقبلَهُ الفُقرُ، أَدارُوا وُجُوهَهُم عَنهُ.. بَعدَمَا دَفنوهُ، اِتَّفقُوا أنْ يُقيمُوا مَأتمَاً يُليقُ بِاسمِ القَبيلةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 103).

 هذا النوع من التسريد النقدي اللّاذع يجسِّد حالتي الإقبال والإدبار السلبي في مواقف الرخاء والشدَّة، ويؤكِّد في الوقت ذاته اهتمام بعضُ المنافقين بالمظاهر النفعية التي تسيء للهمِّ الإنساني.

 ويأتي نصَّه القصصي(ذكرياتٌ) ليجسدَ حالاتٍ مختلفةً من صور أُمِّ الحياة الاجتماعية ووقع مفارقاتها الفجائية في التشبث بمعاني الفوزحُلُماً والحذر من الضياع والتِيه والخسارة حرباً مضادةً:

"تَوسَّدَ فِراشَهُ، أَغمَضَ عَينيهِ.. بِكُلِّ سَعادةٍ يَتقلَّدُ مِيداليةَ الفَوزِ بِسباقِ الرّكضِ قَبلَ أنْ تَسرِقَ الحَربُ.. اِستيقَظَ يَبحثُ عَنْ عُكَّازهِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 31).

2- صُورُ الألَمِ الدَّاخلِي وَالخَارجِي وَأشكالُهُ:

لم يغب عن بالِ عبد الله الميَّالي وعن رؤيته الفكرية والإنسانية المحتشدة بالهمِّ تردُّدات صور القلق النفسي الإنساني، ونوازع الألم الداخلي والخارجي وأشكاله وتحدياته النازفة التي تُلاحق وجود إنسان الواقع الحالي العادي، وتُطال بالخطر شخصيته الإنسانية التي لا حول لها ولا قوة في الأرض، إلَّا وقد جسَّدَها الكاتب في متون مدونته القصصية(أراني أعصرُ حِبرَاً) في محاولةٍ جادةٍ منه لكشف مظاهر الزيف والتهميش والتغييب والإهمال التي تعبِّر عن رؤى حقيقته القيمية المغيَّبة.

 وقد تنوَّعت تلك الصور والأشكال الداخلية والخارجية الفاضحة، وتوزَّعت آفاق أنساقها الثقافية والفكرية المُضمرة في أكثر من نصٍّ قصصي دراميٍّ، وموضوع فكري أثير موجعٍ حتَّى بلغت مفردات هذا الحقل المهمِّ(20) قصةً تجمع بين ثيم الوجع الذاتي الفردي والجمعي المشترك. مثل، (تَكتيكٌ، مُقايضةٌ، تَمُّردٌ، شُرودٌ، لَحظتانِ، اِشتياقُ، عِتابٌ، اِنتفاضةٌ، وُعودٌ، أصواتٌ، بِلادِي، المُتحوِّلُ، وَفاءٌ، أَزماتٌ، اِرتقاءٌ، مَوتُ الضميرِ، ألغامٌ، رُجولةٌ، نَذالةٌ، مُؤامرةٌ)، ونصوص غيرها.

 من النماذج الرمزية المهمَّة المعبِّرة عن صور هذا الحقل الدلالي الاجتماعي وتمظهراته النَّصيَّة، نصُّ(مقايضةٌ)الذي يُقايَضُ فيهِ الحقُّ بالباطل، والخيرُ بالشرِّ، والعلمُ بلْلَا شيء، وتُصادر فيه حقوق الإنسانية المادية بالمعنوية السطحية لتمكين الحياة بالعيش المرير في زمن قميء عزّتْ فيه عليه لقمة العيش الحلال كي يقوِّت نفسه وعياله بما تفرضه عليه فلسفة الواقع المعيش المذلِّ المُهين آنياً:

"فِي حَفلٍ بَهيجٍ أهدَتهُ الحُكومةُ شَهادةً تَقديريةً، خَرَجَ وَالدُ الشَهيدِ مِنَ القَاعةِ حَزينَاً، بَاعَهَا فِي سُوقِ الخُردَةِ، وَاشترَى عُلبَةَ حَليبٍ لِحَفيدهِ". (أراني أعصرُ حِبْرَاً، ص 61).

يا لَهُ من موقف مُخزٍ تقشعر له الأبدان!ذلك الذي تسخر منه خاتمة القصة وتقفيلها بهذاالوقع الدامي للقلوب الذي يندى له جبين الإنسانية عاراً وشناراً لمن يستخف بحقوق الناس ويستهين بوجودهم.

 وفي صورة أخرى من صور الألم الذي يعتصر الإنسان داخلياً وخارجياً، يُطالعنا نصُّ (اشتياقٌ) الذي يتحدَّث فيه القاصُّ عن غربة أحد شخصياته المُهمَّشة واشتياقه لرفيق حياته في مشهد درامي بصري مليء بالحزن والمفارقات الإنسانية الفاجعة التي تخرج توَّاً باكيةً من وسط القبور والمقابر:

"فِي أَولِ لَيلةٍ بِبيتِي الجَديدِ، أَحسستُ بِالغُربةِ، اِشتقتُ لِقَهقَهَاتِ رَفيقِي، وَأنَا أستذكرُ آخرَ لَحظةٍ فَرَّقَتنَا بِهَا قَذيفة ٌمَجنونةٌ، فَزَّزَنِي عَويلُ أطفالٍ وَنِساءٍ فِي القَبرِ المُجاورِ".(أرانِي أَعصِرُ حِبْرَاً، ص 40.)

 ما أقسى تلك الصور التي تُلاحق حقيقة الإنسان في بيته، وحتَّى في قبره أو مثواه الأخير! فيشعر بالغربة القاتلة والموت البطيء لعذاباته النفسية الداخلية والمحيطية الخارجية التي لا مفرَّ منها أبداً.

 ولأنَّ المصالح الذاتية الضيقة أهمُّ بكثير من المصالح الجمعية المشتركة، وذات جدوى في نظر الآخر الحاكم الغالب في علاقته النفعية مع المحكوم سواد الشعب، يأتي نصُّ(وعودُ) الآخر الكاذبة لتنكشف حقيقة زيفه المخادع المُؤدلَج الذي خلع جلده الحقيقي في نكث الوعود الوطنية الصادقة التي تحوَّلت بعد الفوز لوعودٍ كذبٍ انتقاميةٍ في الإقصاء من الوجود الكوني الذي نظَّفَ به الأرضَ:

"زَارَنَا قُبيلَ ثَورةِ الأَصابعِ البَنفسجيةِ، شَكونَاهُ بُيوتَ الصَّفيحِ وَالقُمامةَ والذُّبابَ، رَفعَ كَفَّهُ نَحوَ السَّماءِ وَأقسمَ. مَا أصدقَهُ! نَظَّفّ الأرضَ مِنَّا". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 48).

 ما أقبح فعل هذه الصورة الرمزية التي وظَّفها الكاتب! وما أقسى نتائجها الرمزية لهذا الصوت

الحكومي الناشز! وفي الوقت ذاته ما أصدق صدى خاتمتها الإنسانية التي تعبِّر عن حقيقة هذا الداء الذي يفتك بسياسة البلد المتهالكة! وهي تسير في اتجاهٍ خاطئ لا يمتُّ بأيِّ رحمة لأبنائه الحقيقيين.

 ومن مفردات هذا الحقل الدلالي الكبير قصَّة(بِلادي) الدالة عتبتها العنوانية على وقع رمزيتها الوطنية البعيدة حين يتحوَّل الوجود البشري إلى مَعْلَمٍ خاصٍّ من مَعالمِ الوطن ورموزه الوطنية الخالدة؛ نتيجةَ عوامل القهر والاستبداد الديستوبي القابع تحت خطى الشرِّ الذي يحيق بعامَّة النَّاس:

"سَأَلَنِي ضَيفِي القَادمُ مِنْ بِلادِ الضَّبابِ وَهوَ يَحتضنُ بَاقةً مُلونَةً: -أينَ يَقعُ ضَريحُ الشُّهداءِ فِي بَلدِكُم ؟ -أينمَا تَقفُ، اِنْحَنِ، وَضِعْ إكليلَ الوَردِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 55).

 ومن النصوص السردية ذات الإيقاع الرمزي الوطني الخالص، والتي تجمع بين مشتركات الهمِّ الخارجي والداخلي معاً والاغتراب النفسي الذي يستشعر به أبناؤه الأوفياء نصُّ قصة(ألغامٌ) الذي يتصيَّر فيه الوطن حفنةً من ترابٍ تضمَّخت بدمائه الطاهرة في إشارةٍ واضحةٍإلى أنَّه قتيلُ قَدْ مَاتَ:

"فِي بِلادِ الغُربةَ، اِستلمَ هُويَةَ صَديقِهِ. فَتَحَ الحَقيبَةَ، حَفنةٌ مِنْ تُرابِ الوَطنِ، اِمتلأتْ كَفَّهُ دَمَاً". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 91).

 وأكثر تأثيراً ووطنيةً في هذا النص الحكائي المختزل مفارقته الموضوعية المؤلمة التي تكمن في بنية خاتمته المفجعة التي استحال فيها الوطن الكبير إلى قتيل يقطر دماً من ترابه وأرضه وهوائه.

3- تَشعيرُ النُّصوصِ السَّرديَّةِ:

 من جماليات لُغةِ التسريد القصصي التي تميِّز أسلوبية الكاتب اللُّغوية وتضفي على أسلوبية معجمه السردي زينةً وإمتاعاً وجمالاً وتفنُّناً استخدامه اللُّغة الشاعرية التي لا تتفوق أو تتغلب على مستوى لغة تشكيله السردي في تقصيصه الحكائي، وإنَّما تمنحه صفةَ الجمال الأخاذ إضاءةً خياليةً ودلاليةً في فنيِّة التعبير والتأمُّل والتدبُّر من قبل المتلقِّي والقارئ الذي يُحسِنُ التعامل مع النصوص عندَآليات القراءة ونظريات التلقِّي المعرفي التي تُهيمنُ ظلالها المعصرنة على الميتا سرد الحداثي.

 وعلى الرغم من أنَّ نصوص الكاتب القصصية تحمل في ثنايا طياتها المتنية عناصرَ جماليَّةً وفنيَّةً أخرى، بيدَ أنَّ الشاعرية النصيَّة التي تنحرف فيها أسلوبية الكاتب إلى انزياحاتٍ لُغويةٍ لَفظيةٍ مِخياليةٍ خَارجةً عن المألوف المعجمي،ومنحرفةً عن سياق الواقع المباشر التنميطي المُؤطَّر وبلغةٍ. تبني معالم النصِّ الأدبي وتقوِّي موحياته الدلالية البلاغية التعبيرية والسيمائية والفنيَّة المتعدِّدة.

 وتعدُّ لغةُ الشاعرية من أهمِّ علامات جودة النصِّ الأدبي وعناصر تكامله الفنِّي. وقد أدركَ الكاتب الميَّالي أنَّ الإفراط باستخدام الشاعرية قَدْ يُفقده زمام سيطرته على نصوصه السردية في اشتغالاته القصصية القصيرة جدَّاً؛لذلك وازن بين لغة الشاعريَّة النصيَّةولغة النصيَّة السردية المناسبة للقصِّ.

 والقارئ المتتبع لنصوص هذه المجموعة سيلحظ ويتلمَّس بعنايةٍ مواضع اللُّغة السردية الشاعرية التي أخذت تنتشر وتتنوَّع في أقانيم نصوص هذه المجموعة، وتُحيطُ بتخومها الخارجية. حتَّى وصل تكرار مفردات نصوصها الحقلية المتجاورة إلى(18) قصةً تمثَّلت مظاهرها النصيَّة الدالة في مجموعة ثرَّةٍ من النصوص السردية الآتية:(عُروجٌ، هُمومٌ، ضَياعٌ، عَبقٌ، تَرفٌ، تَصحُّرٌ، دِمشقُ، فُصولٌ، اِجحافٌ، كُومبارسٌ، حَريقٌ، ضَيفٌ، أحلامٌ، صِراعٌ، لِصٌ، مَصائبٌ، الوَداعُ، تَقاليدٌ).

 ولعلَّ أولى نصوص هذه المجموعة السردية الشاعرية قصَّة(عُروجٌ) ذات التقانات اللُّغوية الفنيَّة والموحيات الدلالية المكانية الإيهامية العابرة لنص ِّالحقيقة،وجماليات الاستعارات اللَّفظية الصورية البلاغية المكثَّفة بأثر فاعليتها في تجسيد واقعة الحدث الموضوعيَّة زمكانياً ونفسياً ودرامياً محبوكاً:

"أقبَلتْ مُسرِعَةً تَبحثُ عَنْ مَأوى بَينَ جَبينِي والقَلبُ. وَأنَا أَقفُ فِي حَقلِ الرَّمادِ، رَفعتُ لَهَا كَفِّي مُرَحِّبَاً. عِندَما اِنسكَبَ الفَجرُ مِنْ نَاظرِي، ناَمَتْ مُطمئنَةً تِلكَ الرُّصاصَةُ". (أراني أعصرُ حِبْرَاً، ص13).

ما هذه التي أقبلت مُسرعةً وكأنها امرأةٌ أُنثى،ولها مكانها اليقيني المؤكَّد في القلب؟ والتي نامت قريرةً العين،إنَّها الرصاصة القاتلة التي انزاح فيها الكاتب بلغته الأسلوبية التعبيرية القصصية التي أحالَ حكايتها إلى فنٍّ، وأُوهمنا بها في نهاية القصَّة ترحيباً بِمقدَمِها الدموي الذي لا شكَّ أنَّه القاتل.

 وفي الوقت ذاته نتأمل بإمتاع نصَّه القصصي القصير(َضياعٌ)الدال على سيميائية وظيفته العنوانية المتعدة الأربع:(التعيينيَّةُ،والوصفيَّةُ، والتأويليَّةُ الإيحائيَّةُ،والإغرائيَّةُ).وقد حشدَ لها الميَّالي مجموعةً كبيرةً من الاستعارات اللُّغوية والصور الفنيَّة الجمالية التي أنسنَ فيها النصَّ القصصي، وحلَّق بهِ عَالياًفي جماليات لغة السرد القصصي القصير جدَّاً الشاعرية في مثل هذه الصور البلاغية الرائعة:

"الشَّمسُ تَبتسمُ..الأحلامُ تُحلِّقُ غرباً..الزَّورقُ يُعانقُ المَوجَ الصَّاخبَ وَيَرقصانِ(الفالس). السَّماءُ تَرتدِي الحِدادَ.. البَحرُ يَلتهمُ وَجبةَ العشَاءَ.. الزَّورقُ يَشرقُ بِالنحيبِ".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 17).

 لقد أسهمت الأفعال المستقبلية،( تَبتسمُ، تُحلِّقُ، يُعانقُ، يَرقصانِ، تَرتدِي، يَلتهمُ، يَشرقُ) في إظهار لغة الكاتب الشاعرية وبراعتها فنيَّاً، ولكن الصورة الفنيَّة الأكثر إمتاعاً وابتداعاً ومؤانسةً في هذا القص الحكائي تكمن في خاتمته الإدهاشية المُبهرة(الزَورقُ يَشرقُ بِالنحيبِ) التي تُذكِّرُني بصورة المُتنبِّي الشِّعرية في رثائه لخولة أخت سيف الدولة الحمداني(شَرِقتُ بِالدمعِ حَتَّى كَادَ يَشرقُ بِي).

 وحتَّى الحُلم عند الميَّالي له قصَّةٌ ذاتية لا تنتهي سلسلتها الحُلمية الشاعرية، وهذا الهجس الشاعري الصوري يطالعنا به القاص في قصته(أحلامٌ) التي اختار لها فيضاً من عناصر الطبيعة الكونية الزمكانية الثابتة. فَحَلَمَ بالربيع وزهوره العاطرة، وبالبحر وأجوائه الهادئة، وبالحرية وقيمتها الواعدة التي استحالت إلى رصاصة موتٍ في هذا التوصيف الشاعري المتراتب الإيقاع التعبيري:

"حَلمتُ بِالربيعِ فَغطَّتِ الزُّهورُ وَسادتِي، حَلمتُ بِالبحرِ فَامتَلَأ فِراشِي أصدافاً وَمحارَاً. وعندَمَا حَلمْتُ بِالحُريَّة، وَجدتُ الصَّباحَ تَحتَ البَابِ مَظروفَاً دَاخلَهُ رَصاصةٌ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 78).

 وَمَنْ يَقرأ نَصَّ(الوداعُ) سَيشعر بتدفق لُغة الميَّالي الشاعرية التي تنثال بين سطور هذه القصة، أو الأقصوصة الصغيرة في تعبيراتها الانزياحية التي تُضفي عليها جوَّاً جماليَّاً دافئاً على الرغم من وقع الفجائية المُرَّة التي تحملها خاتمتها التَّخلُّصيَّة المُثيرة للنظر في وحدة واقعتها الحدثية الكبيرة.

"طَحَنتْ سَنواتُ الغِيابِ بِصبرِ الاِنتظارِ. عَقربُ الزَّمنِ لَدغَهَا أربعينَ خَريفَاً. حِينَ عَادَ مِنَ الأسرِ مَبتورَ الأطرافِ، اِستقبلتهُ بِعُكَّازِ الرَّحيلِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 107).

 فعبارات مثل،(طحنتْ سنوات الغياب، عقربُ الزمنِ لَدغَهَا...استقبلتهُ بِعكُّازِ الرحيلِ)كفيلة بأنْ تُضفي على بناءِ القصَّة وقعاً فنيَّاً مخياليَّاً وشعرياً مُدهشاً رغم مرارة الخاتمة المؤلمة الفاصلة بينها.

4- دِيستوبيَا الشَّرِّ وَالخرابِ المُجتمعِي الظَّالمِ:

 إذا كانت اليوتوبيا هي العلامة الأفلاطونية المثالية للجمهورية، والمفهوم المميَّز لرمزية المدينة الأفلاطونية الفاضلة الَّتي يحكمها الأخيار من البشر أو الأسوياء، فإنَّ مفهوم الديستوبيا هي رمز العلامة السيئة لفوضى المدينة الفاسدة التي تُسيطر عليها ثلةٌ من المارقين والعابثين الأشرار، ولا مكان للخير فيها سوى صور من الفاقة والحرمان وتجاوزات الظالمين والقسوة وحالات الحروب والانتهاكات والويلات الدامية التي أبكت عيون الناس وأفجعت قلوب عامة فقراء البشر من أبناء المجتمع من الذين يدفعون ضريبة ذلك الظلم المفروض عليهم وبشتَّى الوسائل السلمية والحربية.

 وما انفكّوا يقاومونه بأرواحهم وأنفسهم وبأصواتهم الإنسانية المسالمة، علَّهم يرفعون عن كاهلهم شيئاً من حيف ظلاله الدامية القاسية، والتي هي في نهاية المطاف واقع ُظلالٍ خاسرةٍ حتماَ أمام حرية الشعوب وحِذاءَ مسيرتهم الإنسانية وكفاحهم الثوري القائم على المطالبة بالحقوق والواجبات.

 وإنَّ صور هذا الخراب الدامي وويلاته المتفشية مجتمعياً لم تكن خافيةً عن فكر الكاتب الميَّالي، ولم يكن غافلاً عنها أبداً. فهو ابنُ المجتمع العراقي الواحد والعربي الجامع الذي عاش معاناته وهضم تصوراته وأدرك نتائجه، وهو أيضاً مرآة الأُمَّة ومهمازها الصوري العاكس لمُتغيِّراته.

 وقد عبر القاصُّ الميَّالي عن ذلك التجاوز الَّلا إنساني خَيرَ تَعبيرٍ في مدوَّنة نصوصه القصصية وتردُّداتها الفكرية التي بلغت عنواناتها ومفرداتها الموضوعية المتعدِّدة الثِّيمِ نحو(14)نصَّاً قصصيَاً في انثيالات هذا الحقل الإنساني المهمِّ وفقَ هذا التشكيل من براعة التمثيل القصصي القصير جداً. في مثل هكذا نصوص سرديةٍ هادفةِ الرؤى، (زَيفٌ، غِيابٌ، مُساومةٌ، نَزيفٌ، قَدرٌ، لَوعةٌ، جُحودٌ، خَسائرٌ، ضَريبةٌ، شَكوَى، مَبادئ، فَرحةٌ، عَبثٌ، العَينُ بالعينِ). وربَّما هناك أكثر من نصٍّ مشترك.

 ومن بين نصوص هذا الحقل الدلالي وأولها قصة(َزيفٌ) التي تتحدَّث عن حقائق الحرب المزيَّفة الضروس ومفرداتها القاسية التي تكشف زيفها وخديعتها بلغة قصصية شائقة اعتمدت على عنصر المفارقة الصادمة للنفس من خلال تقنية الاسترجاع السردي التي بنى عليها القاص أس حكايته:

"الخُوذةُ المَثقوبَةُ بِالرُّصاصِ الَّتي حَولَّهَا الأبُّ إلى مَزهريَّةٍ، تَربَّعَتْ عَلَى طَاولةٍ وَسَطَ الحَديقةِ.. يَسترقُ السَّمعَ مَزهوَاً لِحديثِ أَولادهِ عَنْ شَجاعةِ أبيهُم فِي الحَربِ. عَادتْ ذَاكرتُهُ لِمشهدَينِ: جُندي يَسرقُ خُوذةَ رَفيقهِ الشَّهيدِ. القَائدُ يَمنحهُ وِسامَ الصُّمودِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 34).

 وهذا النص من التسريد القصصي القصير جداً يؤرخن رمزياً لحقيقة مُعيَّنةٍ من تاريخ العراق السياسي الحديث،وخاصةً الحقبة الزمكانية من تاريخ الحرب العراقية الإيرانية التي استمرَّت ثمانيَ

سنواتٍ عجاف أبرزت العديد من القصص التي تصف ويلات الحرب ومآسيهاعلى شعبنا العراقي.

 وفي جانب تعبوي أخر من مشاهد الحرب التي مرَّ بها شعب العراق عبر تاريخه نتأمل قصة (مُساومةٌ) التي وظف فيها الكاتب مشهداً حيَّاً من مشاهد معارك العراق مع أعدائه المثيرة للقلق:

"اِنتهتِ المَعركةُ. وَأنَا أُشاهدُ القَائدَ يُصافحُ العَدوَ، حَطَّمتُ سَاقِي البلاستيكيةَ".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص57).

 والغرابة في إيقاع هذه القصة المؤلمة التي لم تكشف عن حجم الخسائر والتضحيات التي قدَّمها أبناء الشعب جرَّاء هذه المعارك الخاسرة وكأنَّ شيئاً لم يكن واقعاً في الأمر، وهذا ما تكشفه مصافحة القائد للعدو والتي كانت سبباً بفقدانه سيقان أحد جنوده المُضحِّينَ في هذه الحرب الفاِشلة.

ونقرأ في هذا الحقل الضاجُّ بالخراب والألم أحد نصوص هذه المجموعة(قدرٌ) المعبِّر عن حقيقة ما يُخِبئه القدر من أنساقٍ خَفيةٍ ظالمةٍ يرويها القاص حكاية الصوت(المُواطنُ المُوظَّفُ)، والصوت الآخر(المَسؤولُ)؛لنستقرئ نتائجها الختامية، و يا لها مِنْ نتائجِ! و يا لهُ من قدرٍ سيِّئ وَمُرٍّ ومَريرٍ:

"لَمْ أتخلَّفْ عَنْ حُضُورِي لِلوظيفةِ إلَّا مَرَّةً وَاحدةً. عِندَما دَوَّنَ المَسؤولُ اِسمِي فِي سِجلِ الغَائبينَ، كَانتْ أشلائِي تَتسكَّعُ فِي الشَّارع". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 72).

 وتتعدَّد صور هذا الحقل المليء بالخداع والتمثيل والضحك المذل على مصائر الشعوب النائمة. ويأتي نصُّ(فرحةٌ) ليقصَّ علينا حكاية الانتخابات السياسية القائمة في البلد بصورتها الشكلية البعيدة عن الواقع الراهن الذي يُنافي تلك الصور والمهازل التي لا تنطلي على أحدٍ حتَّى من سواد الناس:

"اِنتهتِ الاِنتخاباتُ. اِستعدَّ أطفالُ مَدينتِي لِلاحتفَالِ. لَديهُم مَا يَكفِي مِنَ الوَرقِ لِصُنعِ طَائراتِهُم". (أراني أعصر حبراً، ص 98).

 فالخاتمة القصصية لهذا النصِّ تفضحُ بوضوح ما يحصل ممن أنساق خفيَّةٍ وما يُصرف على هذه الانتخابات الهزليَّة من أموال ومُعدَّات وتجهيزات ماديةٍ وبشريةٍ لا توازي حجمها المزيَّف.

 أمَّا قصَّة(خسائرٌ) الدالة على وحدة معناها الدلالي القريب والبعيد فتحكي حجم الخسارة التي تعرَّض لها الإنسان في حياته اليومية، والتي لا ناقة له فيها سوى إنَّه إنسان يعيش مطمئناً مسالماً:

"وَهيَ تَخترِقُ صَدرِي، اَحرقتْ صُورةَ أُمِّي وَزَوجتِي. تِلكَ الرَّصاصةُ المَاكرةُ قَتلَتْ ثَلاثةً مِنْ عَائلتِي". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 80).

5- الحَقلُ الدِّلاليُّ لِفنتازيَا السُّخريةِ والتَّهكُمِ:

 ومن الجدير بالذكر في مشغل النقديات الإبداعية ونظريات الفعل القرائي وآليات التلقِّي المعرفي الابستمولوجي والانطلوجي الوجودي أن فلسفة فنِّ السخرية والتَّهكُم من الأساليب والثقافات الفنيَّة والأنساق الثقافية القليلة المعروفة التي تعتمد في اشتغالاتها النقديَّة والإبداعية على فنتازيا الواقع الغرائبي والعجائبي الساحر القريب من نفوس وحياة الناس التي يلجأ إليها مهماز المبدع الماهر في المجال الأدبي الإبداعي ويوظِّفها شعراً وسرداً، ولا سِيَّما في بنية الفنِّ القصصي القصير حصراً.

 غير أنَّ استخدامها في مجال القصص القصير جداً يعدُّ أمراً خطيراً ومحذوراً؛ لِئِلَّا يقعُ الكاتب القاصُّ في الجانب الهِزْلي الفكاهي التَّنَدُّرِي التهكمي من أجل السخرية غير الموضوعية والتي ليست بالهادفة من التي تُحيل النصّ إلى مجرد نكتةٍ ضاحكةٍ عابرةٍ لا غير، فارغةٍ من المحتوى الدلالي العميق الصادق، وقد يكون نقداً كاريكاتورياً نصيَّاً لأجل التسلية المجانية الرخيصة العائمة.

 وعلى وفق ذلك فإنَّ هذا الحقل الدلالي اللُّغوي الساخر البديع يعدُّ من الأساليب الفنيَّة واللُّغويَّة السردية النادرة والراسخة التي تميَّز بها المعجم السردي القصصي للكاتب والقاصِّ الواعد عبدالله الميَّالي الذي أجاد بمهارةٍ ودربةٍ حرفيةٍ عالية اِتقانَ هذا الفنِّ القصصي الساخر المكين للوصول إلى أهدافه النسقية المضمرة والظاهرة عبرَ نصوص مجموعته القصصية الماتعة(أراني أعصرُ حِبرَاً)، وقد بلغت تَكرارت هذا الفنِّ وعنواناته الموضوعية المتشاكلة(13) قِصَّة تمثَّلت في مجموعة من النصوص الآتية:(مُفاجأةٌ، ثَعلبٌ، عَزيمةٌ، تَحجيمٌ، فُقدانٌ، تَأديبٌ، اِزدواجيةٌ، دَرسٌ، نَرجسيةٌ، اِشتغالٌ، مُساعدةٌ، اِحتيالٌ، قَرارٌ)، وقد تتسع اشتغالاته أكثر من ذلك الحصر التمثيلي.

 لقد استطاع الميَّالي أنْ ينقل إلينا الابتسامة والفرح والسرور، ويغمر قلوبنا بهذه التقنية السردية التَّنَاقُدية التي تعدُّ احتجاجاً ورفضاً لما هو واقع، وليست مجردَ سخريةٍ وتَهكُمَاً رساليَّاً مباشراً بعيداً عن الإشارات والعلامات والإيحاءات الفنية السيميولوجية المؤثِّرة في فكر المتلقِّي (المرسل إليه).

 قصة(مفاجأةٌ) هي من بين نصوص هذه المجموعة التهكمية الساخرة في نقد الواقع الخِدْمِي الذي يُقدَّمُ إلى الإنسان من أجل استمرارية حياته، وقد اعتمد الكاتب فيها على لوحة المفارقة الساحرة في توظيف نصّه وتجميله وحبكه لُغوياً وتماسكه نصيَّاً بشكلٍ سلسٍ لِبثِّ رُوحِ الدُعابةِ النَقديَّة الساخرة:

 "وَصلتْ عَربةُ الصِّيانةِ بَعدَ أَسابيعَ، اِبتسمَ عَمودُ الكَهرباءِ، تَسلَّقَ العَاملُ لِيرميَ المُصباحَ المَعطوبَ. وَهوَ يُعلِّقُ لَوحةَ المُرشحِ الجَديدِ أَضاءتْ عُيونَ الشَّارعِ" . (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 19).

 أمَّا قصة(فُقدانُ) فهي من النصوص القصصيّة الساخرة بامتيازٍ والتي تنتقد أُس مؤسسة العدالة بطريقة لافتة لنظر القارئ في وقع خاتمتها الموضوعية الضاربةوالتي تبعث على التأمُّل والتفكُّر:

"لَمْ أستغربْ أنْ تُديننِي المَحكمَةُ بِسببِ رَغيفٍ. فَعندَمَا رُفِعَتِ الآيةُ المُعلَّقةُ فَوقَ المِيزانِ، وَجَدتُ (العَدلَ) أكلتهُ الأرضَةُ". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 25).

وكلمة(العدلُ) التي وردت في نص القصة إشارة واضحة إلى قوله تعالى: (العدلُ أساسُ الملكِ)، وكأنَّه يقول العدالة تأكل نفسها، وهو أطرف انتقاد حادٍ إلى نسق النظام القضائي العدالي المجتمعي.

 أمَّا بخصوص حكمة أبي ذؤيب الهُذلي القائلة شعرياً: (لا تنهَ عَنْ خُلُقٍ وَتأتي مِثلَهُ...)، أي عن الذي يأمر بالصواب ويفعل نقيضه، فنجد له دالاً تمثيلياً في قصة(ازدواجيةٌ) الدالة على معناها الضمني الموضوعي التي جسَّد صورتها الميَّالي بما كان له صلة بالواقع اليومي الحياتي المعيش:

"إطاراتُ السيَّارةِ تَلتهمُ الشَّارعَ. يَشكو السَّائقُ لِصديقهِ مِنْ تَكدُّسِ النِّفاياتِ: (مَتَى يَشعرُ النَّاسُ بِالمسؤوليَّةِ؟) وَهوَ يَنفخُ بِدُخانِ آخرِ سَيجارةٍ. يَقذفُ بَالعلبةِ الفَارغةِ مِنَ النَّافذةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 51). فالعار كلَّ العارِ لمن يأمر بمعروفٍ ويفعل خلاف واقعه بعيداً عن تطبيق آثار النظام.

 وفي مشهد آخر ساخر من مشاهد العبث والتهكم الساخر الباعث على التأمُّل والطرافة نقرأ بتجلٍ وإمتاعٍ نصَّ قصَّة(مُساعدةٌ)؛ لِنتعرفَ على مضامين محتواه الاجتماعي برغم مأساة قصته، بيدَ أنَّه ينشر الابتسامة والضحك والمفارقة الجمالية المحبَّبة في تصوير الواقعة الحدثية للقصِّة:

"فِي سَرادقِ العَزاءِ، أَحدُ المُعَزِّينَ يَسألُ الزَّوجَ:- مَا سَببُ وَفَاةِ الزَوجةِ رَحمهَا اللهُ؟ -عَضَّةُ كَلبٍ- لَا حَولَ وَلَا قَوَّةَ إلَّا بِاللهِ.. أرجوكَ بَعدَ القِراءةِ دُلَّنِي عَلِيه!" (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 99).

 ونذهب إلى المجال الأدبي الإبداعي في قصة(اِحتيالُ)؛ لِنتعرفَ على جُزءٍ من مسروداتها وشخصية بطلها وفق الصورة التهكمية الساخرة التي رسمها الكاتب في تقانته السحرية الشيقة:

"الكَاتبُ الَّذي حَاولَ قَتلِي فِي رِوايتِهِ، بَاءَتْ مَحاولتُهُ بِالفشلِ. فِي غَفلةٍ مِنهُ، مَنحتنِي البَطلةُ قُبلَةَ الحَياةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 104).

 وفق هذا الأسلوب الأدبي الفعلي الجمالي في صنع سرديات البهجة لقارئه دون تكلُّفٍ أو تصنُّعٍ ظاهر لم تشعر معه بمظاهر الإملال النفسي أو الابتذال الروحي الساخر المباشر الممقوت نصيَّاً.

6- تَوظيفُ الدَّرامَا القَصصيَّةِ:

 من المتعارف عليه أنَّ ماهية مصطلح الدراما، تُعرفُ بأنَّها هي لون من ألوان التعبير الأدبي الذي يؤدَّى فعله الحدثي عملياً وإجرائياً على مستوى التمثيل المسرحي أو السيميائي أو التلفزيوني أو الإذاعي بصيغتيه التراجيدية والكوميدية المتناقضة. وقد تكون الدراما على شكل قصصٍ طويلةٍ منتظمةٍ تخضع لقوانين وآليات التمثيل البَصري المرئي المباشر الذي يعتمد على الحوار والسرد في وقت واحد. فالدراما إذاً هي التناقض الفعلي، غير أن َّاستخدام وتوظيف الصيغ الدرامية في كتابة الفنِّ القصصي القصير جداً أمر ليس سهلاً أو هيِّناً. وخاصةً إذا كانت الدراما خليطاً سرديَّاً من الجد والضحك المشترك، والخوف والحزن والفرح المرتبط بالواقع الحياتي الراهن المعيش.

 والحقيقة أن مثل هذه التوليفة الجمعية من الخلط بين المأساوي والفكاهي الأفراحي على مستوى السرد القصير جداً يُعدُّ من أصعب أساليب وألوان القصِّ التسريدي الذي يتطلَّب مَقدرةً فنيةً مَائزةً ومُوهبةً فًذَّةً في التَّحكُم القصصي الجامع لهذ المزج الحكائي الدرامي الفكاهي الكوميدي المُسَلِّي الَّذي يتناول جانباً مُهمَّاً من جوانب الحياة الإنسانية المتنوِّعة التي يظهرها القاص للمتلقِّي في بوتقة ثنائية موحدنة. وهو يضحك ويبكي من شدَّة الابتهاج أو الانشراح والتأمُّل أو الاستمتاع والفائدة المعرفية التجريبية والتوعوية وربَّما حماسة التجريدية التي تأخذ مساحتها الكبيرة في الفنِّ التمثيلي.

 لقد تمكن الكاتب والقاصُّ عبد الله الميَّالي من التوفيق الفعلي الرصين في هذه الخلطة السحرية الدرامية الفكاهية العجيبة أنْ يوظِّفها سرديَّاً في اشتغالات نصوصه القصصية القصيرةً جدَّاً توظيفاً جماليَّاً وفنيَّاً مُدهشاً حتَّى بلغ عديدها نحو(8) قصصٍ لعنواناتٍ حكائيةٍ مختلفةٍ يجمعها حقل دلالي دراميٍ واحدٍ بهذه الصيغ العنوانية القصيرة الهادفة التالية: (عَزيمةٌ، عُقوبةٌ، دُموعٌ، حِرمانٌ، صَفقةٌ، قرارٌ، يومُ الحسابِ، جُموحٌ)، ونصوص أخرى اشتملت على بعض اللَّمحات والمشاهد الدرامية.

 لقد استطاع الميَّالي بلغته السردية المُتقنة ومقدرته الفنيَّة المتطاولة من الإلمام بهذا اللَّون البصري الدرامي الذي يعتمدُ كثيراً على تقنية لغة الحوار بالدرجة الأولى. غير أنَّ هذه اللُّغة المحكية جعلته يقصَّ سرداً مختزلاً ومكتنزاً، ولا يحكي تمثيلاً درامياً طويلاً مُسهباً في مثل هكذا اشتغالاتٍ. وهذا الفعل هو ما تشي به نصوصه القصيرة جدَّاً المحتشدة بهذا المزج الفنِّي الدرامي الاغتباطي.

من أمثلة هذا الحقل نصُّ حكاية(دُموعٌ) التي تحكي قصَّة رجل ذاق الأمرينِ في سجل حياته الذاتية:

"أنهَى المُحقِّقُ اِستجوابِي.. أطلقُوا سَراحِي سَالمَاً بَعدَ تِلكَ اللَّيالِي الحَمراءِ. الفَرحُ لا يَسعنِي وَأنَا أمرقُ مِنْ زُقاقٍ إِلَى آخرَ. أمامَ بِيتنَا صَدمَنِي سُرَادِقُ العَزاءِ". (أراني أعصرُ حِبَرَاً، ص 26).

 وفي نصِّ(عزيمةٌ) الذي ينقل لنا فيه الكاتب الرائي جانباً اجتماعياً من جوانب الحياة الإنسانية للفرد، يأخذنا فيه بلغة الفرح والابتهاج والمسرة، وفي الوقت نفسه يستحيل هذا الفعل الدرامي إلى موقف تراجيدي يستحقُّ التأمُّل والتفاعل مع هدفه النبيل وبالأخصِّ في خاتمته الإنسانية بامتياز:

"يَفوزُ الطِّفلُ الحَافي بِسباقِ الرُّكضِ. يُكَرَّمُ بِحذاءٍ رِياضيٍّ. يُهديهِ لِشقيقِهِ وَيَستعدُّ لِسباقٍ جَديدٍ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص22).

 ويسوِّق الحال ذاته مع قصة (يَومُ الحسابِ) الدالة على وقعها الإنساني الحدثي الذي يسرد فيه الكاتب بشكلٍ تراجيديٍ لواقعٍ اجتماعيٍ يجمع فيه بينَ الجِدِ والهَزْلِ في هذه المصفوفة القصيرة جدَّاً:

"أقَامتْ جَارتِي كِرنفالَ بُكاءٍ، وَأنَا بَينهُنَّ شَاردةُ الذِّهنِ.. تَنبَّهتُ لِصوتِ النَائحةِ: (اِذكرُوا مَحاسنَ مَوتَاكُم).. تَناولتُ قَلَمَاً وَورقةً أُحصِي صِفاتِ زَوجِي".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 41). والملاحظ على هذا النص أنَّ الكاتب بقدر ما أخذنا بكمية الحزن في مُستهل قصته أخرجَنَا منها بسردٍ ضاحكٍ في ختامها.

 ونقرأ في هذه المجموعة قصة(صفقةٌ)، ونتأمَّلُ ما فيها من كمية الدلالاتٍ الرمزيةٍ والعلامات السيميائيةٍ والصور والكنايات البلاغية المضحكة والسارَّة، لكن سنصطدم بخاتمتها النصيَّة المؤثِّرة:

"تَقابَلَا ذَاتَ نَهرٍ. هُوَ يَحملُ فِي جَيبهِ بِئرَ نَفطٍ، هِيَ تَحملُ عَلَى رَأسِهَا بَرميلَ مَاءٍ.. أغراهَا بِعطرِهِ النَّفاثِ، أَغرتهُ بِعينَيهَا الخَضرَاوينِ.. أينعتِ الصّفقةُ وُرودَاً ذَابلةً". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 32).

 وقد سار الكاتب على هذه الشاكلة الدراميَّة في توظيف هذه الصيغ الجامعة للفعلين النقيضين في تسريد قصصه القصيرة جدَّاً وتسويقها بهذا السمت الأسلوبي اللُّغوي المتمايز إلى المتلقِّي والقارئ.

7- الحَقلُ الاِستدعائِي لِاستحضارِ وَقائعِ التَّاريخِ:

من الحقول اللُّغوية السردية والأنساق الثقافية الحديثة والقديمة التي وظَّفها الميَّالي في مركزية وحدة اشتغالاته القصصية، والتي جاءت ضمن مجموعته القصصية القصيرة جدَّاً، (أراني أعصر حبرَاً)، هو حقل استدعاء وقائع وحوادث التاريخ التراثي الغابر الزمني وإسقاط فعلها المؤثِّر ثقافياً وفنيَّاً وجمالياً على عقابيل معيش الواقع الحياتي المرتهن. وتمَّ له ذلك عبر سلسلة من الموضوعات والأفكار والتناصات وثيم النصوص التاريخية والأدبية والثقافية التحوليَّة التي تلامس نصوصها الجديدة المنتقاة حركة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي القائم بذاته الوجودية.

وعلى الرغم من أن الإسقاطات التاريخية واستحضار الرموز والشخصيات التراثية والحوادث التاريخية في مجمل القضايا الوطنية والسياسة والاقتصادية والأمنية والحياتية المجتمعية الكثيرة المعاصرة والمنفصلة عن سياقها النسقي لا تُعالج في الحقيقة الأوضاع والمشاكل القائمة بحدِّ ذاتها.

 غير أنها تشخِّص حركة الواقع الساخن الثائر، وتلفت الأنظار إلى المقموع والمسكوت عنه من فيض رهاناته المستقبلية التي تعكسها مرآة الكاتب السردية الكاشفة وتفضحها في فاعلية قَصِّهِ القصير جَّداً المكتنز. ودون أنْ يُحمِّلَ هذه النصوص السردية الجديدة المختزلة بآراءٍ ومقصدياتٍ كثيرةٍ، أو حمولات دلاليةٍ ثقيلةٍ تُرهِّل بنية النصِّ القصِّي وتفقده زمام السيطرة النوعية والإبداعية على وحدة اشتغالاته القصيَّة التكاملية المكثفة التي وظَّفها من أجل خلق نصٍّ قصي إبداعي مليءٍ بعناصر الإثارة والإمتاع الذهني والإدهاش النفسي الذي يجعل القارئ يتواصل معه ويرتاح إليه.

 إنَّ مثل هذا التحليق السردي الإبداعي الذي يتوخَّى قصديات الجمال الفنِّي نراه حاضراً في فقط في(4) نصوصٍ زيَّنت متن المجموعة بعنواناته،(جِلجامشُ، كَيدُهُم، الحياةُ، تَعايشٌ)، وبعض من النصوص الأخرى المشتركة مع الحقول التي تمَّ التمثيل لها آنفاً في هذه الدراسة التأملية الكاشفة.

 وإنَّ أوَّل هذه النصوص التاريخية التي أسقط وقائع حوادثها ورموزها الشخصية والأسطورية العجائبية قصة ملحمة(كلكامش) العراقية التاريخية المعروفة التي يبحث فيها كلكامش جادَّاً لصديقة البطل المُخلِّص أنكيدو عن عشبة الخلود التي تخلِّد اسمه ورسمه وفعله البطولي التاريخي وإسقاط حقيقته من خلال عتبة الواقع العياني الأني المرير الذي تعاني منه الأُمَّةُ بكلِّ أطيافها ومسمياتها:

"اِنبعَثَتْ مِنْ رَمَادِ مَكتبةِ التَّاريخِ. اِشتاقَ لِمحمَةٍ جَديدَةٍ، اِلتَهَمَ مَا تَبَقَّى مِنْ أُسطورةٍ قَديمةٍ، ذَاتَ رِبيع ٍلَمَ تَنفعهُ نَجدةُ (أنكيدُو)، غَاصَ يَبحثُ عَنْ قَبرٍ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 88).

 والنصُّ التاريخي الثاني الذي يتَّخذ استدعاءً من وقائع نصوص قصة شهرزاد مع الملك شهريار في مثيولوجيا الأدبي الشعبي العراقي قصَّة(كَيدهُم)الدالة على وقع وحدتها الموضوعية التاريخية، وكيف تمكَّنَ الكاتب الميَّالي من إسقاط إحدى الليالي التي انتهت عند حدها مدوَّنة(ألفُ لَيلةٍ وَلَيلةٍ) الشهيرة على مجريات وقع الحياة العصرية واليومي لحياة الناس في المجتمع الذي يعيشه هو ذاته:

"اِختفتْ شَهرزادُ فِي اللَّيلةِ الثَّانيةِ بَعدَ الألفِ. لِلترويحِ عَنْ سَيِّدهِ الحَزينِ، جَلَسَ (مَسرورُ) يَروِي حِكاياتِ سَيفِهِ". (أراني أعصر حِبْراً، ص 95).

 إنَّ المعادل الموضوعي بين شهرزاد بطلة العمل الأسطوري المخيالي (الألفية) وبين (مسرور) بطل قصته القصيرة الجزئية(كيدهُم)،هو عامل الرواية الشفوية الكيدية التي انطلت على فكر الآخر في كلا النصين القديم والحديث. وهذا هو خطُّ التماهي في التوافق المؤتلف وفي الاختلاف الزمني.

 أمَّا النصُّ الاستدعائي الثالث من نصوص الاستحضار التاريخي الجميل، فهو نصُّ قصة(الحياةُ) الدال على وقع عتبته العنوانية المرتبطة بصميم الواقع الحياتي للإنسان المديني الذي يحاول الهروب والخلاص من خطر تجلِّيات عقابيله والسقوط في هاويته التي ما عادت تستقرُّ زمكانياً:

"هَرَبَ مِنْ وَاقعهِ، تَجاوزَ الحُدودَ، تَاهَ فِي صَحراءِ أفكارِهِ، نَظرَ لِلنجُومِ، اِستعانَ، بِبناتِ نَعشٍ، سَمِعَ عَواءَ ابنِ آوَى، عادَ إِلَى سِجنِهِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 97).

 والرابط الموضوعي المثير بين التوهان في صحراء الفكر التي لا حدود متناهية لها والعودة إلى مكانيته الزمانية السجن في لوحة مفارقته الخواتيمية المدهشة، ذلك هو الضياع والتِيه والتشظي الذي أوصله بعينه إلى سُلَّمِ هذه المرحلة من التفكير المُجدي والقاصر بحق نفسه الإنسانية الحالمة.

 ويأتي النصُّ الرابع من استدعاء التاريخ والشخصيات التاريخية والثقافية العالمية النصُّ الأدبي (تعايشٌ) الذي يتحدث عن قصة أو رواية السيِّد(المسيح) لفرانس كافكا الأديب الألماني ذو الأصول التشيكية، والذي عُرِفَ عنه بكتاباته الفنتازية والعبثية والكابوسية ذاتَ الأثر النفسي التأمُّلي الكبير:

"قَرأتُ قِصَّةَ(المَسخِ). وَأنَا فِي العِشرينِ، صَدَمَنِي كَافكَا عِندَمَا حَوَّلَ بَطلَهُ إِلى صُرصارٍ. أنَا الآنَ فِي السِّتينِ، سَعيدٌ جِدَّاً لِقُدرَتِي عَلَى الاِندماجِ مَعَ مُجتمعِ الصَراصيرِ... حَافظتُ عَلَى جُثتِي مِنَ التَّفَسُّخِ". (أراني أعصرٌ حِبرَاً، ص 110).

 ولعلّ التماهي بين بطل رواية(المسخ) لكافكا، وبطل الميَّالي الرائي في قصِّة(تَعايشٌ) الدالة على صفة الاندماج، هو الاتحاد والتعايش السلمي والتوحدن الجديد وإنْ كان سلبياً مع مجتمع مغاير غير مألوفٍ لهما مثل، مجتمع الصراصير الحشراتي. إنَّه نوع من العبث في التحوِّل الحياتي لكلا البطلين وهروب من ضغوطات الحياة الواقعية القاتلة وحمولاتها الثقيلة المؤثرة الفاعلة مجتمعياً.

 هذه هي الحقول الدلالية السبعة ومجاوراتها الأكثرُ تَمظهُراً وتأثيراً في محتويات هذه المدوَّنة، والتي يمكن أن نضيف لها حقولاً أخرى في الرفض والحِجاج والكفاح السياسي والفقر المجتمعي والآمال والتطلُّعات التي يمكن أنْ تشكل دوالاً حيَّةً بتمثلاتها الموضوعية ووقائعها الحَدَثِيَّة الكثيرة.

أُسلوبيةُ الكاتبِ الميَّالي القِصصيَّةُ

 ومن باب تقييم أُسلوبية الكاتب والقاصّ عبد الله الميَّالي في هذا المضمار الإبداعي من التجنيس القصصي لهذا الفنِّ الحاذق الضارب في الأعماق، والكاشف للآفاق البعيدة والقريبة، نودُّ أنْ نُشير إلى أنَّ هذا اللَّون من التجنيس السردي القصصي الإشكالي المُعَقَّد يعدُّ لوناً فنيَّاً صعباً عن سواه من الأجناس السردية الأخرى؛ كونه يعدُّ سرداً مِهمازياً فاضحاً ومُعرِّيَّاً لبنية خاصيَّة الصوت الأخر.

 وعلى وجه الخصوص يكون مثل هذا الفعل السردي الجالد لذات غيره من نتاج وفعل الكاتب الفذ الحاذق الذي يمتلك مَلكةً فكريةً وموهبةً قصصيةً سرديةً حقيقيةً متقدةً ومكينةً، والتي تُوجب عليه أنْ يكون كالقابض على جمرة النصِّ المُستعِر شرراً وتوقِّداً، فإنْ مَسَكَهَا اكتوى بِلسعتِها، واحترقَ بلظاها المُلتهبُ جَمرةً واشتعالاً، وإنْ تركها لشأنها حُرَّةً سقطَ في هوى متاعها المخيِّب للآمال، وبالتالي يقع بالفشل في إتمام مهمته الموضوعية والإبداعية التي أُنيطت له في هذا النوع من الأدب الجمالي الحداثوي المتميِّز عن غيره من الألوان السردية الأخرى في صناعته شكلاً ومضموناً.

 ومن أجلِ أنْ لَّا نقفُ خارج مديات النصِّ، ولا نُجانب إلَّا الحقيقة النقدية الموضوعية في إثبات ماهيتها الوجودية القائمة بذاتها الانطلوجية القارَّة في وضع الأمور في نصابها الحقيقي الثابت جذراً،وهي أنَّ القاصَّ الكاتب السيِّد عبد الله الميَّالي في هذه المدوَّنة القصصية(أراني أعصرُ حِبْرَاً) المائزة إيقاعاً وأسلوباً وإنتاجاً قد امتلك جمالياً أدواته الفنية التعبيرية والاحترافية المؤهِّلة في القيام بالمهارة والإبداع الفنِّي المغاير في مركزية اشتغالاته الحكائية في النصِّ القِصصي القصير جداً. والذي تحسُّ من خلال تضمينه البنائي السردي أنَّ لكلِّ قصِّةٍ من قصص المجموعة في داخلها قِصَّة أُخرى صغيرة تُماهيها شكلاً وتُفارقُها معنىً ودلالةً،هذا ما يُميِّز فنُّ القصيرةِ جدَّاً عن مثيلتها.

 كما تمكن الكاتب من تطويع لغته السردية وتوظيفها بحسب الغرض أو الحقل القصصي والدلالي الذي يتطلَّبه البناء النصُّي بشكلٍ ينسجم تماماً مع تطلعاته الفكرية والجمالية والموضوعية في تأثيث النصوص وتشكيل معمارية هندستها اللُّغوية الموائمة لتجلِّيات وعناصر السرد الأساسية التي أُقيمَ عليها هيكل البناء السردي. أي ما يتطلَّبه من اقتصاد لُغويٍّ مُكثفٍ، واختزالٍ لفظي ودلالي مكتنز السياق، وإضمار نسقي، وإيحاء رمزي وإشاري، وغموضٍ فنيٍّ لا بدَّ منه. فضلاً عن عنصر الإمتاع والبساطة اللُّغوية في التركيب الجُملي في توخي وإصابة غائيات الهدف الفعلي المقصود.

 هذا على المستوى البنائي السردي الفنَّي، أمَّا على المستوى الفكري والموضوعي القصصي، فقد جال الميَّالي في فاعلية تقصيصهِ الخوضَ والاكتسابَ والغَرفَ من أنهار وشطآن وجداول المعارف والعلوم النفسية والاجتماعية والفلسفية السوسيوثقافيةالمؤثِّرة الأخرى التي حفلت بها ثيمُ مجموعته. ولم يتغافل عن تدوين ثقافة الحرب وتأثيراتها الذاتية والجمعية، وَذكَرَالطبيعةَ وعناصرَها الزمكانية والغربة ومسبباتها الحقيقية. أمَّا المرأة في معجمه السردي القصير فتكاد تكون المُهمَّشةَ والمُعدَمةَ.

 لقد استطاع الميَّالي عبد الله الإنسان الرائي والكاتب وصاحب المشروع السردي الثقافي من إنجازَ مهمته التسريدية الإبداعية وفق هذه الكيفية السياقية المتساوقة من إنتاج وتخليق وتسويق الجماليات اللُّغوية المُبدعة في فنِّ القصة القصيرة جداً إلى المتلقِّي مُستنداً في مشغل تجريبهِ الإبداعي إلى خلاصة تجربته النثريَّةوباعه السردي الفنِّي الطويل في ممارسة فنِّ الرواية والقصَّة القصيرة قبلَها.

 والتجربة الجريئة التي خاضها الميّالي في ميدان فنِّ القصِّة القصيرة جدَّاً، ذلك الأدب الومضي الانفعالي الحديث المُفارق بهزته البَرقيةِ اللَّافتةِ، والتي تُسمِّى بأدب الصدمة الّذي ظهرت بوادره الأُولى في أواخر القرن العشرين يمكن أنْ يكون إضافةً أدبيةً نوعية إبداعيةً مُهمَّةً وارفة الظلال وحيَّةً لرفوف مكتبة السرديات العراقية والعربيَّة الورقية والألكترونية السريعة والمعصرنة على حدٍ سواءٍ. في مثل هذا الضرب الفنِّي الأدبي الحديث الهادف الكتابة في ميدان القِصَّة القَصيرة جدَّاً التي أخذت في الأونة الأخيرة من عصرنا الثقافي الرقمي المتهافت الوصول لهدفها بإيجاز شديد الكلمات وخاتمةٍ إدهاشية مروِّعةٍ مؤثرةٍ بالنفس. ومن الانتشار السريع في محافل أدبنا السردي النثري الإبداعي، وإنْ تجد لها موضع قدم راسخٍ عَلِيٍّ بين فُنُون الأدب وأجناسه الإبداعية الأخرى.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

في المثقف اليوم