قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: مسرحية (كريستال) تواصل موضوعي وتأكيد خطاب مسرح الشارع
قدم مركز بغداد الثقافي للفنون عرض مسرحية (كرستال) يوم الجمعة ١٩/ ٤/ ٢٠٢٤ تأليف جبار القريشي، اخراج كريم خنجر.
إن الخروج من مسرح العلبة إلى الفضاء المفتوح لتقديم العروض المسرحية يتطلب مضامين على قدر من الجرأة والوضوح، وتتجلى في خطابه المواجهة المباشرة بين المؤدي والمتلقي، إذ لا حدود تفصل بين مساحة الأداء ومكان المتفرجين، ولا ضوء على المؤدين ولا عتمة تحجب المتفرجين الذين يعتمد مدى متابعتهم وتركيز انتباههم على توفر وسائل الجذب في العرض، وتيسير المشاهدة لذا " تعتبر الدائرة أنسب الأشكال لمشاهدة اي عرض مسرحي في الهواء الطلق، والقيام بالتمثيل للجماهير في كل الجوانب امراً محتملا لكنه ليس بالشيء اليسير، حيث يستلزم ذلك القيام بعملية دوران مستمر لكي يشاهد كل المتفرجين ما تقوم به، ولذلك يستخدم الممثلون ثلاثة أرباع دائرة مع وجود الأدوات والمعدات خلف الممثل "(1) وهذا ما عمل عليه فريق عرض مسرحية (كريستال) وهم مجموعة من المتحمسين الفاعلين في مسرح الشارع، عندما قدموا رسالة درامية توعية المجتمع، محورها مخاطر المخدرات، ومحاربة شيوعها في أوساط بعض الشرائح الاجتماعية، وبلا شك هي رسالة مهمة ويفترض تناولها وتداولها والتأكيد عليها عبر مختلف الفنون والآداب والوسائط الإعلامية، وقد تناولها المؤلف القريشي سابقا وأخرجها المخرج (كريم خنجر) نفسه، يمكن تصنيف العرض على أنه رسالة تهدف إلى استنارة الوعي الجمعي بآفة المخدرات والتبعات التي تلحق متعاطيها. وهو رسالة تأكيد أكثر مما يتضمن شكلا فنيا مغايرا لما سبق تقديمه في عرض مسرحية (كوكايين) للمخرج نفسه، ونوع من التواصل مع موضوعة ذات تأثير اجتماعي واسع.
تستلزم طبيعة الدراما -عادة- وجود طرفي صراع، ودرجة من التعقيد والتأزم، في عرض مسرحية كريستال غاب طرف الصراع المضاد من الحضور العياني / الملموس، واكتفى المؤلف / المخرج بالإيحاء بوجود المعاناة والقهر والخيبات التي يتعرض لها المدمنين على المخدرات قبل إدمانهم مما يدفعهم إلى التعاطي كنوع من الهروب من الواقع، وفي الوقت نفسه في لحظات الوعي يحرض احدهم الآخر على مواجهة الواقع والتصدي لسلبياته بدلا من الاستسلام والخنوع.
لقد حضر طرف صراع واحد في العرض، أما الطرف الآخر فقد كان غائبا عن العين، ماثلا في الوجدان، من خلال علامات وإشارات وضعها المؤلف واعتمدها المخرج، وكلها تدل على تدهور المستوى المعيشي -ظهر المؤدون بملابس رثة ووجوه متعبة حتى ان احدهم لم تفارق يده قطعة الخبز الكبيرة - يعد غياب أحد طرفي العرض خروجا البنية التقليدية للنص/ للعرض، وبذات الوقت عمل الاخراج على اثارة مخيلة المتفرج ليتصور هذا الطرف السلبي/ الشرير الغائب.
قدم العرض رسالته عبر سرد خطابي ذي اتجاهين: الأول موجه للجمهور المحيط بالمؤدين مباشرة (من المؤدي إلى المتلقي)، أما الثاني: من المؤدي الى المؤدي، وبدء ذلك من محاورة بين الشخصيات حول العقل وأهمية الحفاظ على الوعي.
تضمن العرض:
1. موضوعة المخدرات، ويفترض ان لا محور غيرها وهذا يتضح من عنوان العرض (كريستال)
2. التذمر من أوضاع الخدمات المقدمة للمواطن (مثل: الكهرباء، والماء …)
3. الابتزاز بأنواعه (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاليكتروني )
إن طرح ثلاث (ثيمات) لها ثقلها في مسرحية لا يتجاوز زمن عرضها أكثر من ثلاثين دقيقة يصعب إشباعها من الناحيتين الموضوعية والفنية، لاسيما ان عروض الشارع لا تحتمل تفرعات قد تشتت انتباه المتلقي وتبعد تركيزه عن القضية المحورية للعرض وهي (كريستال) وهنا تبرز الحاجة إلى الحضور الدراماتورجي كضرورة لمشاركة فريق العرض بالإمساك في دفة العرض وتوجيهها.
ينتهج مسرح الشارع سبلا عدة لجعل المتلقي مشاركا فاعلا في مجريات العرض المسرحي، وذلك من خلال جمع فنون متعددة في هذا النوع، منها الغناء والموسيقى والحركات الإيقاعية والتعبير الجسدي فضلا عن عماده الأساسي (الدراما المسرحية الحوارية) لقد عمد هذا العرض إلى الموسيقى والغناء المسجل بصورة مختزلة مما جعله يفقد شيئا من خطوط المشاركة، إلا أن الموضوع المحوري الحيوي وأسلوب الأداء بات معادلا فنيا تعويضا لحالة التوتر والترقب لما سيؤول إليه مصير الشخصيات.
لقد تم حساب توزيع حركة الممثلين بالصيغة الدائرة بدقة وعدم انحياز الحركة على كتلة الأمامية من الجمهور التي غالبا ما يقع فيها الإخراج الحركي في مسرح الشارع، حين يتعامل مع الحركة على وفق الاعتبار في المسارح التقليدية وهذا ناتج عن خبرة د.كريم خنجر الواسعة في تقديم عروض مسرح الشارع.
المشهد المفصلي في عرض (كريستال) والذي ختم به العرض مشهد المرأة التي تتعرض لابتزاز بتهديدها بنشر صورها، رغم عن وجود الصلة المباشرة بموضوعة العرض الأساسية (المواد المخدرة) إلا أن مشهد ابتزاز المرأة حاز على التركيز الأعلى لعدة أسباب:
* رمزية قطع شيء من جسد المرأة من قبل مجموعة الرجال (عمد المخرج إلى ذهاب المرأة إلى رجل تتوسل اليه واذا به ينزع عنها شيء من القماش الذي يغطي جسدها وهكذا تذهب إلى رجل ثان وثالث ورابع … ) لكنهم يستدركون فيما بعد وينزعون عنهم قمصانهم ليغطوا جسد المرأة بها
* الأغنية ذات البعد الديني - رغم قصرها - عقدت صلة بين العرض والمتلقي ودفعته للمتابعة، بسبب من روحانيتها وتوفيرها لحالة من التنوع الصوتي، وكسر حالة الإلقاء الخطابي / السردي.
شكل المخرج كريم خنجر والمؤلف ثنائي متناغم في طروحات مسرح الشارع وسجلوا حضورا متميزا باضطراد العروض بفعل هاجس تقديم ما يعتمل في الشارع عبر مسرح الشارع.
مبارك لفريق العرض جميعا: وأخص بالذكر المؤدين الهواة بحماسهم واندفاعهم، والممثلة (شوق) التي وضعت بصمة جميلة في هذا العرض.
***
د. حبيب ظاهر حبيب
.....................
بيم بيسون: مسرح الشارع والمسارح المفتوحة، تر: حسين البدري، القاهرة، ١٩٩٧، ص١٢٨.