شهادات ومذكرات
رمضان بن رمضان: في رحيل المفكر حسن حنفي

اطروحاته الفكرية واثرها في الحركات الاسلامية المعاصرة
1 – التكوين المزدوج: من فكر الاخوان الى الفلسفة
لقد مر الاستاذ حسن حنفي (1935 – 2021) من الكتاب القراني كبقية الاطفال المسلمين في كل البلاد العربية والاسلامية وكان هذا الفضاء اول احتكاك له بالقران الكريم وقد عاش فيه كبقية الاطفال صرامة المنهج التعليمي التلقيني وكذلك قسوة الامام المعلم. ترعرع في الاربعينات في اجواء مزاج عام متحمس للثورة ضد القصر وضد الانجليز وكانت الساحة السياسية المصرية تتقاذفها وقتها اربعة تيارات رئيسية وهي الوفد ويتضمن داخله تيارا يساريا والاخوان المسلمون ومصر الفتاة والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (تنظيم شبه ماركسي) ويحكي حسن حنفي ان الطلبة كانوا لا يميلون الى الوفد لانهم يحملونه مسؤولية التفريط في ثورة 1919 ويعتبرونه حزب قصور وباشوات ولا يصدقون حزب مصر الفتاة، كما كانوا تحت تاثير ما يشاع حول الماركسية من انها فلسفة مادية وملحدة فلا يتفاعلون مع التيارات ذات المرجعية اليسارية او الماركسية او شبه الماركسية، فلم يبق لهم الا الاخوان فانضموا اليهم وعاش الاستاذ حسن حنفي في هذه الظروف حيرة مع من يكون؟ وانضم الى حركة الاخوان باعتبارها خيارا مناسبا بنظره في ذلك الوقت .(انظر، محمد همام، في وداع حسن حنفي، الاخواني الشيوعي، الذي اصبح فيلسوفا، موقع afkaar (2)center، بتاريخ 25 اكتوبر 2021) ظل حنفي وفيا للاخوان المسلمين ولا سيما في صراعهم مع جمال عبد الناصر واعتبر اتهام الاخوان بمحاولة اغتيال عبد الناصر سنة 1954 بداية ماساة في التاريخ السياسي المصري الحديث، كان حسن حنفي يؤرخ لاحداث تلك الفترة التي عاشها ويتعاطف كثيرا مع الاخوان بل بانحياز كبير لهم واعتبر ما حصل عملا فرديا قام به شاب من تلقاء نفسه ولا علم لمرشد الجماعة حسن الهضيبي بذلك بل يؤكد ان المرشد كان ضد استعمال العنف واعترض على حل التنظيم وسجن قيادته واعدام المفكر القانوني المستشار عبد القادر عودة وكان يميل الى راي الاخوان في رفض اتفاقية الجلاء التي وقعها عبد الناصر سنة 1954 مع الانجليز وشارك في المظاهرات المناهضة لها. لقد كان الاستاذ حنفي يعيش داخل سياق سياسي قريب جدا من الاخوان في بداية تشكل ملامح شخصيته وستبرز في هذه الفترة شخصية اخرى ملهمة للاستاذ في حياته وفي طريقة صياغته لمشروعه العلمي وهي شخصية سيد قطب مما لا يعرفه عادة المطلعين على منجز الاستاذ حسن حنفي فما بالك بغير المطلعين (لمزيد التوسع حول هذه النقطة يمكن الرجوع الى موقع افكار سنتر afkaar center، مصدق الجليدي، " في وداع الفيلسوف حسن حنفي، الاخواني الشيوعي الذي اصبح فيلسوفا (3)، بتاريخ 29 اكتوبر 2021 ") دخل حسن حنفي الجامعة المصرية شعبة الفلسفة وهي المادة التيدرسها في عدد من الجامعات العربية والاسيوية والغربية كما تراس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، تحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا وذلك برسالتين قام بترجمتهما الى العربية ونشرهما في عام 2006 تحت عنوان " تاويل الظاهريات " و" ظاهريات التاويل " استغرق اعدادهما حوالي عشر سنوات. تقلد عددا من المناصب: نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية، والسكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية، حدث له تحول فكري حيث نفض عن نفسه فكر الاخوان، لكنه ظل موصوما بذلك الانتماء، فقد قال في في حوار تلفزي معه في برنامج العاشرة مساء على قناة دريم 2 : ان ملفه في وزارة الداخلية مصنف تحت عنوان " اخواني شيوعي " واكد على انه كان يدعو الى بعث يسار اسلامي وان الكثير من الاتراك والماليزيين والاندونسيين الاسلاميين استفادوا من افكاره واطروحاته. (موقع Wikipedia.org)، من اهم اعماله: التراث والتجديد (2012)، من العقيدة الى الثورة، (1988)، من النقل الى العقل، ثلاثة اجزاء، (2013)، اليسار الاسلامي والوحدة الوطنية، ثم مقدمة في علم الاستغراب، (2006).
2 - بعض ملامح المشروع الفكري لحسن حنفي
ان الثنائية التي قام عليها تكوينه الفكري وهي النهل من التراث العربي الاسلامي من ناحية والالمام بالنظريات الفكرية التي يضج بها الغرب من ناحية اخرى ظلت تحكم مشروعه الفكري، فالموروث الثقافي لا بد ان يقرا بل ان يتم تثويره او تجديده باليات المناهج الحديثة الغربية. اتسم مشروعه بالنزوع الى الاحاطة والالمام فهو يعمل على مسح فترات تاريخية ممتدة سواء في حضارتنا العربية الاسلامية او في الحضارة الغربية وقد يكون هذا التمشي على حساب الدقة في الطرح والموضوعية في التناول، في البداية حقق كتاب " المعتمد في اصول الفقه " لابي الحسن البصري في جزاين (دمشق ك1964) ثم التفت الى الفكر الغربي ليثري المكتبة العربية بترجماته التالية: " نماذج من الفلسفة المسيحية " (الاسكندرية 1968) و" رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا " (القاهرة 1973) و" تعالي الانا موجود لسارتر " (القاهرة 1977). ظلت هذه الاعمال المتنوعة مجرد تمهيد لامتلاك الاليات اللازمة لبناء المشروع الفكري الخاص به. يكشف هذا المشروع قناعة راسخة لدى صاحبه ظلت ملازمة له وهي ايمانه بالثورة الدينية اي بقدرة الدين على ان يكون محفزا للتغيير الاجتماعي والثقافي وان يكون قادحا لثورات تغير البنى الاجتماعية للدول وتحدث نقلة نوعية نحو الحداثة والتطور. فكتابه من العقيدة الى الثورة يرسم مسار هذا الانتقال المنشود وينسف كل العوائق المكبلة والحواجز المانعة من بلوغ الرقي المطلوب. ان هذا التصور للدين يكسر البراديغم القائم على ان البنى التحتية هي التي تتحكم بالبنى الفوقية وجوهرها ان تغير وسائل الانتاج يؤسس لوعي جديد يخلص الانسان من الاستلاب . ان تصور الدين على انه صرخة الجائعين والمظلومين والمقهورين في وجه الاغنياء والظلمة والمستبدين، هذه الصرخة ينبعث صداها من داخل النصوص التاسيسية للاسلام فتغدو مشروعيتها لا لبس فيها وغير قابلة للنقض .ان هذا التصور للدين يقتضي من صاحبه اعادة فهم العقيدة في ضوء هذا المنحى التغييري وهو ما يستدعي اعادة تشكيلها بعيدا عن كل ما يرتهنها للرؤية التقليدية الاشعرية والصوفية لذلك جاء عمله الضخم " من النقل الى العقل " وهو قراءة للموروث الفقهي والتفسيري والكلامي محكومة بنزوع عقلاني في فهم هذا الموروث باعتبار ذلك لبنة في بناء المشروع المنشود لذلك اضحى استحضار البعدين الاجتماعي والاقتصادي سواء في قراءة التراث او في فهم الظواهر الاجتماعية الحديثة امرا لا مندوحة لنا عنه. يؤسس حسن حنفي براديغم جديد ينسف ما تردد في الادبيات اليسارية منذ ماركس حتى غدا بديهة وهو ان " الدين افيون الشعوب " ويرى ان الدين اضحى ثورة ضد كل مظاهر الفقر والحاجة والتهميش وانه اعلاء لمنزلة الانسان في الوجود وانتصار لكرامته وتحرير له من كل اشكال الاستعباد.، تاتي الثورة الايرانية سنة 1979 لتعطي هذه الاطروحة زخمها والقها، رغم خصوصيتها المذهبية، الا ان تحقق الثورة الدينية يظل رهين الاستعانة باليات التحليل الماركسي لاماطة اللثام عن الاستغلال والاستلاب اللذين تمارسهما الانظمة شبه الراسمالية او الكمبرادورية ذات النزوع الاستبدادي مع التشبع بقيم حقوق الانسان في منظورها الكوني، لذلك كان اليسار الاسلامي بديلا عن الحركات الاسلامية المعاصرة التي وان رفعت مطالب الحرية وخاضت نضالات ضد انظمة دكتاتورية الا انها ظلت اسيرة الرؤية الفقهية للاوضاع ولم تعمل على خلخلة التصورات القديمة والانخراط في صياغة منظومة جديدة لحقوق الانسان تستانس بالمنجز الغربي نقدا وتجاوزا.
3 – اثر افكار حسن حنفي في ظهور " الاسلاميون التقدميون " بتونس
كانت " الجماعة الاسلامية " في تونس اواخر الستينات وبداية السبعينات تعيش مخاضا عسيرا ينذر بتحولات كبيرة ستطرا على بنيتها وعلى مشروعها الفكري والحضاري. كانت قيادتها متكونة من بقايا الزيتونيين ومن خريجي التعليم العمومي في اختصاصات متعددة كالفلسفة والهندسة والشريعة والعلوم والحقوق ...و كانت انتماءاتهم المناطقية تتوزع على رقعة الوطن شمالا وجنوبا، شرقا وغربا اضافة الى العاصمة. كان اسم " الجماعة الاسلامية " يضيق على المولود الجديد الذي ما فتىء يكبر يوما بعد يوم وتتسع احلامه ورؤاه بحيث لم يعد ذلك الاطار الذي حفت بظهوره اسباب التصدي للمنزع التغريبي البورقيبي، قادرا على استيعاب الخروج من رد فعل الى الفعل بصياغة مشروع بديل مستمد من قدرة الاسلام على خوض غمار التصدي للشان العام. ان اتساع القاعدة الشبابية للتيار الاسلامي سواء بالمعاهد الثانوية او بالجامعات، اضافة الى الاقدار- انكشاف الجهاز السري للحركة- عجلت بتسارع الاحداث لياخذ التاريخ منحى اخر وهو الخروج من السرية الى العلن والاعلان عن تحول الجماعة الى حزب سياسي تحت مسمى حركة الاتجاه الاسلامي في 6 جوان 1981. كان لهذه اللحظة تداعياتها على تماسك الجماعة، فخرجت مجموعة من المؤسسين نذكر منهم الاستاذ حميدة النيفر والاعلامي صلاح الدين الجورشي واسسوا ما يعرف باليسار الاسلامي او الاسلاميين التقدميين ويبدو ان مسالة الخلاف الاساسية الظاهرة كانت هي الانخراط في العمل السياسي وهو امر يخفي وراءه اختلاف في الرؤية والتصور للاسلام من ناحية وللواقع من ناحية اخرى، اسس هذا التيار مجلة فكرية وثقافية اسلامية شعرية اسمها : 15/21 صدر عددها الاول في نوفمبر 1982، لم تكن منتظمة في الصدور، صدر العدد الاخير وهو رقم 20 في جويلية 1990، ادارها احميدة النيفر وتراس تحريرها صلاح الدين الجورشي ومن بين المحررين فيها زياد كريشان ومحمد القوماني كانت مفتوحة للمفكرين التونسيين والعرب من غير المنتمين لليسار الاسلامي. صار نقاش حول التسمية بين " اليسار الاسلامي " و" المسلمون التقدميون " وكيف كان عنوان اليسار مرتبطا بالفكر الماركسي والنظرية الشيوعية وكيف كان الاسلام يحيل على الحركة الاسلامية فكان ترجيح تسمية الاسلاميين التقدميين لارتباطها بالفكر والتجديد والتنوير والبعد الاجتماعي للدين. لذلك تم التنصيص على ان مجلة 15/21 هي مجلة الفكر الاسلامي المستقبلي، كما ادارهذا التيار سنة 1989منتدى فكريا مفتوحا على كل التيارات هو "منتدى الجاحظ " تسمية تحيل على الاعتزال وفي ذلك اكثر من معنى . حاضر على منبره عدد من المفكرين منهم حسن حنفي ومحمد اركون وعبد المجيد الشرفي وهشام جعيط وعبدالسلام المسدي وابو يعرب المرزوقي...لقد راهن هذا المنتدى على اهمية الحوار المحلي والعالمي وعلى المساهمة فى دفع اتجاهات التجديد في الفكر العربي الاسلامي. ان ظهور هذه المجموعة كتيار كان على هامش الحركة الاسلامية، وقد تزامن خروجهم مع اعلان الحركة عن رؤيتها الفكرية والعقائدية التي تتاسس عليها وهو ما عمق الخلاف بين الفريقين لم تكن تلك الرؤية لتستجيب لما يتطلبه الواقع حيث غلبت عليها النظرة التقليدية في مستوى العقيدة وهيمنة النقل على العقل واجترار للاراء الفقهية القديمة وغياب كبير للقضايا الاجتماعية والاقتصادية.وجد تيار الاسلاميين التقدميين في اراء حسن حنفي وفي كتاباته مرجعية فكرية ستساعدهم على بلورة مشروعهم الفكري والثقافي ولا سيما كتابه " التراث والتجديد " الذي سيجدون فيه معالم تكرس اختلافهم مع اطروحات حركة الاتجاه الاسلامي. فحتى داخل اسوار الجامعة التونسية سيكون هذا الفصيل المنبعث من رحم الحركة الاسلامية اقرب لليساريين والقوميين منه الى طلبة الاتجاه الاسلامي. باعتماد نظريات جماليات التلقي في النقد الادبي نقول ان افكار حسن حنفي وجدت في تونس تربة خصبة للنمو والتفتح، فتقبلتها جماعة الفكر الاسلامي المستقبلي وعملت على الترويج لها، وهو ما حدا بصاحب كتاب " من العقيدة الى الثورة " الى الاسراع بزيارة تونس والالتقاء بالمجموعة التي مثلت النواة الاولى لفكر جديد يقطع مع الفكر الاسلامي التقليدي ويكون ارهاصا لبروز تيار اسلامي مختلف في الفكر والمعرفة والوعي .يقوم هذا الفكر على مجموعة من الثوابت حفلت بها مؤلفات حسن حنفي منها اهمية العقل في الفهم والتاويل، اسبقية العقل والواقع على النص والنقل، دور الفكر في التغيير الاجتماعي والسياسي، محورية الانسان في العقيدة الاسلامية واولوية القضية الاجتماعية على المطلب الايماني.ان هاجس الدين هو الانسان وليس الايمان بما يجعل من الفعل الديني سعيا للبحث عن حلول الارض وليس حلول السماء وان غاية الدين اسعاد الناس في عالم الشهادة لا اسعادهم في عالم الغيب . (نوفل سلامة، في تابين المفكر حسن حنفي، منتدى الجاحظ، 5 نوفمبر 2021)لقد ظل الانفتاح على موضوع العدالة الاجتماعية من غير المفكر فيه عند المسلم التقليدي وكذلك كل القضايا المرتبطة بها من فقر وبطالة وتهميش. ظل صدى هذه المبادئ يتردد في مختلف المقالات والدراسات التي حفلت بها مجلة 15/21 ولا سيما في افتتاحياتها التي يحبرها عادة الاستاذ حميدة النيفر تحت عنوان " الكلمة شراع " . فقد خصص القائمون على المجلة- على سبيل المثال- العدد 16 للسنة الخامسة الصادر في شوال 1408 / جوان 1988، لملف الماركسية العربية واشكالية الهوية، الدين والدولة، الدين والدولة في اوروبا، فقد كتب احميدة النيفر حول الدولة الاسلامية حديثة واكثر وكتب صلاح الدين الجورشي قراءة لازمة اليسار الماركسي في تونس، ومحمد القوماني الماركسية واليسار الاسلامي اية علاقة؟ .في اطار تقييم ما انجزه الاسلاميون التقدميون في مستوى بناء الافكار والتصورات، بعد ان ناوا بانفسهم عن الاهتمام بالشان العام ورفضوا التحول الى جماعة سياسية، فان لما انجزوه وبفعل التغذية المرتدة feed back كان له اثره في حركة الاتجاه الاسلامي والتي اصبحت فيما بعد حركة النهضة التي استفادت كثيرا من خلال احتكاك طلبتها في الجامعة وانفتاحهم على مختلف المشارب الفكرية اليسارية والقومية وكذلك على اليسار الاسلامي فكان لعملية التثاقف هذه اثرها البين على الحركة وعلى كوادرها الذين نهلوا من المشاريع الفكرية لحسن حنفي ولمحمد اركون ولعابد الجابري ولحسين مروة ولعبدالله العروي، ربما كان اثر ذلك على الحركة متاخرا بسبب ما عاشته من قمع مسلط عليها على امتداد اكثر من عقدين فقد كان هاجسها الحفاظ على الوجود ولكن بعد الثورة برز اثر ذلك في طروحات الحركة في المجال الاجتماعي والاقتصادي وكذلك في الدفاع عن الحقوق والحريات واسهامها الكبير في صياغة دستور الثورة وفي انفتاحها على مختلف المقاربات في مجالات الفكر وتفاعلها الايجابي مع من يختلفون معها بعيدا عن منطق الاقصاء والتهميش. ولعل اهم رجع صدى لتصورات الاسلاميين التقدميين داخل حركة النهضة هو التحاق الاستاذ محمد القوماني احد رموز " اليسار الاسلامي " بالحركة التحاق يشي بقدرة الحركة على تمثل كل القيم والرؤى والافكار التي دافع عنها الاسلاميون التقدميون في تونس.
***
رمضان بن رمضان