قضايا
صباح خيري: الغش الأكاديمي من انحراف فردي إلى ممارسة ممنهجة تقوض مبدأ العدالة التعليمية
يعد الغش الأكاديمي من أخطر الظواهر التي ابتلي بها التعليم المعاصر لأنه لا يمثل مجرد خطأ عابر يرتكبه طالب تحت ضغط الامتحان بل هو انعكاس لانهيار منظومة قيمية تمتد جذورها في بنية المجتمع كله فحين يفقد التعليم رسالته الأخلاقية يصبح الغش ممارسة مبررة ومقبولة وكأنها جزء من اللعبة الاجتماعية التي تحكمها المصلحة والأنانية والبحث عن المكسب السريع قال تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فالغش هو صورة من صور هذا اللبس الذي يحيل الصدق إلى زيف والاجتهاد إلى مظهر والعدالة إلى قشرة خاوية
في البداية كان الغش سلوكا فرديا يختبئ صاحبه من العيون ويشعر بالذنب لأنه خان نفسه قبل أن يخون قلمه أما اليوم فقد صار ثقافة تتسع لتشمل بعض المؤسسات التي تغض الطرف عنه وبعض الأسر التي تراه حيلة مشروعة لتحقيق النجاح وبعض الطلاب الذين يرونه ذكاء ودهاء لا عيبا ولا جرما وهنا تتبدى الذروة الأخلاقية للأزمة حين يصبح الغش منهجا مقننا تقوده أدوات التقنية وتبرره ضغوط المجتمع فيتحول التعليم من رسالة إلى صفقة ومن بناء للعقل إلى صناعة للواجهة
تتجلى خطورة الغش الأكاديمي في كونه تواطؤًا على الحقيقة، إذ يُقلب معيار الاستحقاق إلى محاباة، ويُستبدل الجهد بالتحايل. إنّ المشكلة لا تكمن في فعل الغش ذاته فقط، بل في القبول الاجتماعي الضمني له، حين يراه البعض "ذكاءً" أو "حيلة مشروعة"، وحين تتغافل المؤسسات عن مكافحته بدعوى "الظروف" أو "الضغوط".
قال تعالى: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42]، وهذه الآية تُجسّد عمق الأزمة، إذ يتحول الخداع إلى لبسٍ بين الحق والباطل، فيضيع العدل، ويُسفَّه الجهد، ويُكافأ المتقاعس بقدر المجتهد.
وفي الذروة الفكرية للمشكلة، يصبح الغش الأكاديمي مؤشّرًا على انحراف المعايير القيمية في المجتمع بأسره؛ إذ يتربّى الطالب على أن "الغاية تبرّر الوسيلة"، وأنّ النجاح يُقاس بالنتائج لا بالنزاهة، في حين أن القرآن يربط بين العلم والأمانة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
فالغش خيانة للأمانة العلمية، وخروج عن خط التكليف الإلهي الذي يجعل العلم مسؤولية لا امتيازًا.
إن المشكلة الحقيقية ليست في الفعل وحده بل في القبول به والتبرير له فالمجتمع الذي يبرر الغش يزرع في أبنائه بذور الفساد المستقبلي لأن من يغش في الامتحان اليوم سيغش في العمل غدا ومن يتهاون في الأمانة العلمية سيتهاون في الأمانة المهنية قال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والغش هو خيانة صريحة لهذه الأمانة التي هي أساس العدل وميزان التفاضل بين الناس
تتعدد صور الغش الأكاديمي باختلاف الأزمنة والوسائل. ففي الماضي كان يتمثل في نقل الأجوبة أو سرقة الجهود، أما اليوم فقد أصبح أكثر تعقيدًا مع تطور التقنية والذكاء الاصطناعي، وتفشي ثقافة (الإنجاز السريع) و(النتيجة بأي ثمن).
تظهر الدراسات التربوية أنّ أكثر من 60% من الطلبة عالميًا اعترفوا بارتكاب شكل من أشكال الغش الأكاديمي مرة واحدة على الأقل خلال مسيرتهم التعليمية. هذا الرقم يعكس ليس فقط سهولة الوصول إلى وسائل الغش، بل أيضًا تطبيع السلوك في ثقافة المجتمع.
يمكن تحليل الظاهرة من ثلاثة مستويات:
1. المستوى الفردي:
حيث ينبع الغش من ضعف الوازع الذاتي، وفقدان معنى الأمانة، فيتحول التعليم إلى سباق خالٍ من القيم.
قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (القيامة: 14)، فكل غاشّ يدرك في قرارة نفسه أنه يخون ميثاقًا أخلاقيًا بينه وبين الله قبل أن يخون مؤسسته.
2. المستوى المؤسسي:
حين تضعف الرقابة أو تغيب العدالة في التقييم، تصبح المؤسسة نفسها بيئة ميسّرة للغش. فإذا لم يُحاسَب الغاشّ، تهاوت ثقة المجتهد بالنظام. هنا يتحقق قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).
3. المستوى المجتمعي:
في هذا المستوى، يصبح الغش نتيجة لتساهل المجتمع وتناقض خطابه؛ فهو يُمجّد التفوق، لكنه قلّما يسائل عن وسيلته. وهكذا يتكوّن جيل يبرّر الفساد الصغير لأنه يرى الفساد الكبير معفيًّا من الحساب.
وتكشف هذه النماذج أن الغش الأكاديمي ليس سلوكًا عارضًا، بل منظومة قيمية مختلة تحتاج إلى معالجة فكرية وروحية متكاملة، لا إلى عقوبة شكلية فحسب.
وعند تحليل الظاهرة من منظور نفسي نجد أن الغش يعكس خوفا من الفشل وضعفا في الثقة بالنفس فبدل أن يكون التعليم مجالا للنضج والتحدي يتحول إلى ساحة للهروب من المواجهة أما من منظور اجتماعي فإن الغش هو نتيجة طبيعية لثقافة تقدس النتيجة أكثر من الطريق وتحتفي بالشهادة أكثر من المعرفة وتربط الكرامة الشخصية بالعلامة الرقمية لا بصدق السعي والجهد ومن منظور مؤسسي نرى أن ضعف الرقابة واللامبالاة في ضبط الامتحانات وتهاون بعض الأساتذة في متابعة الأمانة العلمية يكرس هذه الممارسة ويمنحها غطاء من الصمت المؤسف.
إن القرآن الكريم حين جعل العلم نورا وربطه بالخشية إنما أراد أن يحرر الإنسان من عبودية الغاية إلى حرية الصدق فقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فالعلم لا يكون نورا إلا إذا كان صادرا عن ضمير طاهر ونية خالصة أما العلم الذي يبنى على الغش فهو ظلمة تظلم القلب والعقل والمجتمع
وفي عرض النماذج المعاصرة يمكن أن نرى كيف يتحول الغش الأكاديمي إلى ممارسة مؤسساتية حين تنتشر خدمات إعداد البحوث الجاهزة وشراء الرسائل العلمية ونسخ المقالات من الإنترنت هذه الأشكال الحديثة تمثل مستوى جديدا من الفساد العلمي لأنها تقتل روح البحث وتضعف الثقة بين الأستاذ والطالب كما تفرغ الجامعات من معناها الحقيقي بوصفها بيئة للصدق والإبداع فيتحول المتعلم إلى مستهلك للمعرفة لا إلى منتج لها قال تعالى ولا تبخسوا الناس أشياءهم فالغش بخس لحق المجتهد وعدوان على جهد المخلص
ومن زاوية معرفية فإن الغش في الوسط الاكاديمي يقوض قيمة العلم لأنه يفصل بين المعرفة والعمل ويجعل الشهادة رمزا زائفا للعلم في حين أن القرآن يربط الرفعة بالعلم الحق (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فليس كل من تعلم حروف العلم صار عالما ما لم يتحل بصدق النية وعدالة السلوك
إن الحل لا يكون في تشديد العقوبة فقط بل في إعادة بناء الوعي الأخلاقي داخل المؤسسة التعليمية فالعدالة التعليمية لا تتحقق بالمراقبة وحدها بل بزرع معنى الأمانة في الضمير وبتحويل التعليم إلى عهد بين الإنسان وربه قبل أن يكون التزاما بين الطالب والجامعة قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فالإصلاح يبدأ من داخل النفس قبل أن يفرض من الخارج
ولكي تستعيد المنظومة التعليمية نزاهتها لا بد من ترسيخ ثقافة تربوية تجعل الصدق قيمة مركزية وتربط بين التفوق والجهد لا بين النجاح والمظاهر كما يجب تطوير أنظمة تقييم شفافة تمنح المجتهد حقه وتحرم الغشاش من ثمرة جهده وإلا أصبحنا في عالم يقاس فيه العلم بالعلامة لا بالحقيقة وفي ذلك انحراف عن مقاصد التعليم وغاياته العليا
الخلاصة القول أن الغش الأكاديمي ليس مجرد سلوك فردي منحرف بل هو مرآة لأزمة قيمية عميقة تضرب جذور العدالة التعليمية حين يختل ميزان الأمانة تضيع الثقة في المعرفة ويتراجع الإيمان بالحق ويحل محله منطق المنفعة والمصلحة الآنية ولذا فإن مواجهة الغش ليست معركة في قاعة الامتحان بل هي معركة في ضمير الأمة كلها فإذا انتصرنا فيها استعدنا للعلم قدسيته وللعدل مكانته وللإنسان قيمته.
يبقى التعليم مرآة لضمير الأمة؛ فإذا صلح العلم صلح المجتمع، وإذا فسد ميزان الأمانة، انهارت القيم وتحوّل الإنسان إلى أداة. قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11)، فلا رفعة بلا صدق، ولا علم بلا أمانة، ولا عدالة بلا مقاومة للغش في كل صوره.
***
ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي






