قضايا
خالد اليماني: صيرورة الدلالة

تتشكَّل تجاربُنا في هذا العالم من خلال تفاعلنا مع الآخرين عبر اللُّغة، وهي أداة تطورت جنبًا إلى جنب مع الفكر الإنساني. لطالما ظن الإنسان أنَّ الكلمات تحمل معاني ثابتة ومحايدة، لكن الواقِع أكثر تعقيدًا، إذ تتغير الدَّلالاتُ عبر الزمن، متأثرة بالسياق والاستعمال والتَّأويل.
الكلمات تحمل أكثر من مجرد تعريفات مُعجميَّة، إذ تتشكل من خلال التَّجربة والاستعمال، وتكتسب أبعادًا تتجاوز معناها الظاهر. حين تُنطق أو تُكتب، فإنها تدخل في شبكة معقدة من العلاقات، حيث لا يكون اللَّفظ معزولًا عن السياق الذي وُلِد فيه، ولا عن التأثيرات التي تراكمت داخله عبر الزمن. لهذا، لا يمكن التعامل مع اللغة بوصفها أداة محايدة، فهي دائمًا مشحونة بدلالاتٍ تتجاوز المقصود المباشر، وتستدعي آثارًا من استخدامات سابقة قد تظل حاضرة حتى دون وعي المُتكلِّم بها.
وهكذا، فإنَّ المعنى لا يُستخلص من المُفردة وحدها، بل ينبثق من التفاعل بين الكلمات، ومن موقعها داخل البنية التي تحتويها. في كل استعمال، تنشأ إمكانية جديدة للفهم، حيث تتغير العلاقات وفقًا للسياق والنية والانطباعات المسبقة. ما يبدو واضحًا عند القراءة الأولى قد ينفتح على مستويات أخرى عند التأمل في طبيعة التَّراكيب المستخدمة أو في الدَّلالات التي تستدعيها الكلمة ضمن نص معين. ولهذا، يصبح الفهم عملية ديناميكية، لا تتوقف عند حد معين، بل تتطور مع كل قراءة جديدة.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، إذ لا تنشأ أي كلمة من العدم، فكل لفظ يحمل أثر استعمالاته المتراكمة، ويتحرك في فضاء لغوي تتداخل فيه الأزمنة والدلالات. عند استخدام مصطلح ما، يتجاوز معناه المباشر، مستدعيًا إرثًا لغويًا متجذرًا. وهو ما أسمِّيه: «طيفُ المعاني»، وهو يشير إلى ذات المعنى، لكنه أكثر وضوحًا وأدق من كلمة “الأثر” عند دريدا. يمنح هذا التراكم اللغة عمقًا وحيوية، ويفتح المجال لتعدد التأويلات، حيث يتشكل المعنى من تفاعل قصد المُتكلِّم وإمكانات الفهم لدى المُتلَقِّي.
على هذا الأساس، الألفاظُ ليست كياناتٍ ثابتة، فإن التعامل معها يقتضي وعيًا بحركتها الدائمة، وبالاحتمالات التي تنفتح من خلالها. كل نص يخلق شَبكةً من المعاني التي قد تتقاطع مع النُّصوص الأخرى أو تتعارض معها، مما يجعل أي خطاب امتدادًا لحوار مستمر بين الحاضر والماضي، بين القصد والتأويل، بين الدَّلالة الظَّاهِرة والاحتمالات التي تظل كامنة في بنية اللغة نفسها.
***
خالد اليماني