قضايا
شهرزاد حمدي: التَفْكِيرُ الجَزَائِرِيُّ فِي زَمَنِ الْأَزْمَة.. رُؤْيَة نَقْدِيَة

مُفْتَتَحْ إشْكَالِي: لا تثبُت الحياة الإنسانية على حالٍ واحِد ولا على وضعية مُستقِرة دائِمًا، إنّمَا تشهدُ تقلّبات من حوادث وكوارث وأزمات، فالأزمة مُرتبِطة بالإنسان ولَصيقة به ومُرافِقة لوجوده، بل هي أكثر من ذلك مَلْمَحًا جوهريًا من ملامح هذا الوجود. وتأتي أهميّة الأزمة في ولادة الهمم وإزالة للتعتيم والكشف عن مواطِن العطب وكيفيّات الإصلاح، ولهذا فهي لحظة أو لحظات فارِقَة في صُنع عَمَلية التغيير. وللأزمة فُروع كثيرة نَظَرًا لإمكان تفجّرها في أيّ مجال، تتطلّب الوعي النقدي بها من حيث أسبابها أوّلاً ثُم نتائجها بعد اقتراح الحُلول واستشراف المُستقبل. وترتبِط الأزمة بالتفكير؛ أيّ بطبيعة التفكير خِلالها من قِبل المأزوم، وما يتبع ذلك من إجراءات، فلكلّ شعب وحُكومة طريقة تفكير مُعيّنة في خضمّها وذلك على حَسَب عديد الاعتبارات سواءً في وجودها أو في عدمها كالوعي، الإرادة، المُمتلكات (...). ضِمن هذا المَنْحَى يُمكنُنا الحديث عن التفكير الجزائري في زمن الأزمة، الذي استدعى مِنَا واقعه مُحاولة القيام برُؤية نقدية له في ظِلّ تعامُله معها، الصِحّية منها وأزمة المُواصلات.
فمَا طبيعة هذا التفكير؟ وكيف يتصرّف الجزائري في حال حُدوث أزمة؟ ولِمنْ تُعزى مسؤولية تأزّم الأوضاع ووقوع خسائر بشرية ومادية؟
1- صِلَة الفلسفة بالأزمة
للفلسفة علاقة وَثيقة وصِلَة عَميقة بالأزمة على مَدَار تاريخها؛ إذ لَطَالَمَا أبان التّاريخ عن تواشُج الأواصر فيمَا بينهُمَا، تواشُجًا وظيفيًا ونَفْعِيًا. وتتجلّى هذه العلاقة القويّة في كون الأزمة بأحداثها ومُعطياتها وتغيّراتها تُشكِّلُ حقلاً خِصبًا للتفكّر الفلسفي بالتّحليل والنّقد، فالفلسفة تبحثُ عن العِلَلّ الفاعِلَة في حُدوث الأزمات وتنظُرُ في النتائج وتقترح الحُلول الناهِضَة التي تُمثِّلُ الانفراج، وعلى إثر كلّ ذلك تستشرِفُ حال المُستقبل. وتتميّز الرؤية الفلسفية للأزمة بالعُمق والتغلّغُل وعدم الاكتفاء بتصديق ما هو ظاهري مطروح، بل تخترقُه وتبحث وتنبُش عن الحقيقة. وتُعنى الفلسفة عِناية فاحِصَة بالأزمة بمُختلف فُروعها ومجالاتها كالأزمة السّياسية، الأزمة الأخلاقية، الأزمة الاجتماعيّة، الأزمة العِلمية والأزمة الفلسفية ذاتها كأزمة مبادئ الحداثة أو أزمة المنهج، بالتالي تكون الفلسفة سَبَبًا في تفجّرها وسَبَبًا في حَلّحَلَتِهَا.
إنّ الحديث عن تفكّر الفلسفة في الأزمة يقودنا إلى إثارة النِّقاش حول دور المُثقف، بالتحديد المُثقف الذي ينتمي إلى تخصّصها؛ أيّ المُثقف الفلسفي، في اهتمامه بِمَا يجري وحِرصه الجادّ على الوعي النقدي بأسباب ونتائج الأزمة وما يُؤرّق مُجتمعه ويبعث على تشكيل هُمومه، وهذا بالضَبطّ ما يُسمّى ب: "المُثقف العُضوي". ولهذا سنُحاول قدر الإمكان أن نكون كذلك، في أن ننظُر تحليليًا ونقديًا في طبيعة التفكير الجزائري خِلال الأزمة.
2- حديثٌ عن الواقع اليومي للجزائري
بعُموم القول، الواقع اليومي الجزائري تقريبًا مُستقِر، حياة روتينية كلّ واحد يعيشها على حسب مُستواه المادي والعِلمي. وبالمُجمل فإنّ مُعدّل المَعيشة الجزائرية مُتوسِّط، وأمّا عن حالها، فالمُدن الكبرى والدوائر مَيّسُورة العيش وذلك لتوفّر المرافق الضرورية كالمُستشفيات، المدارس والمُواصلات، في حين هُناك بعض البلديات ما تفتقِر إلى ذلك أو على الأقلّ تُعاني من نُقص على صَعيد توفّرها كمَا يجب، وهُناك كذلك ما يُسمّى بمناطق الظِلّ والنائية التي يتكبّد سُكانها العَنَاء والشَقَاء كثيرًا بسبب انعدام شُّروط الحياة، مِمَّا يضطرُّ بهم لقطع مَسَافات طويلة من أجل التنقّل إلى حيث يُراد التنقّل من دِراسة أو عَمَل أو حتى شراء المُستلزمات اليوميّة من أكل وشُرب وغاز. ومن ناحية ثانية، نلحظُ تحسُّن المَعيشة، فالجزائر من البُلدان السائِرة في طريق النمو مِمَّا جعل الظُروف تتحسّن وتتيسّر مُقارنة مع سنوات ماضية. هذا بطبيعة الوضع، فلقد خرجت البلاد من أزمتين تمثّلتَا في استعمار فرنسي غاشِم وفي عُشرية سوداء دموية.
3- الجزائر بلد الخيّرات دون استثمارات
تُعدّ الجزائر من بين البُلدان الغَنية التي تحتوي على خيراتٍ كثيرة من ثروات طبيعية وغِطاء نباتي ومَسَاحَات واسِعَة، فهي تجمع بين زُرقة البحر واخضرار الطبيعة والصحراء الشاسِعَة. فهي فَضَاء مُناسِب للاستثمار ولجذب السُّيّاح لِمَا تتمتّع به. بيد أن واقع الحال يُظهِرُ عدم استغلال كافٍ لهذه الخيّرات ولا كيفيّة رشيدَة للاستفادة منها أشدّ استفادة، فالجزائر كمَا هو معلوم تعتمِد بالدرجة الأولى على تصدير المحروقات، هذه الطاقات من بترول ونفط غير مُتجدِّدة.
4- الأزمة مُناسَبَة للفَضَحْ: جائحة كورونا وحادثة سُقوط الحافلة في الوادي أنموذجين
إنّ الأزمة أو تضييق الوضع هي مرحلة من الانسداد ترجُّ الأوضاع القائِمة وتُفقِدها صِفة الاستقرار والثبات، أو هي مرحلة من التشكيك في صلاحية المَعْمُول بِه على مُسْتوى العديد من الأمور. وهي مُناسَبَة حقيقية للفَضَحْ وكشف المستور وإزالة البراقِع الحاجِبَة وتبيين السّياسات العرجاء. وهي تُوضِّحُ على الجانبين استعداد الدول لزمن الأزمة أم لا؟ ومَدَى جاهزيتها من حيث العُدّة والعتادّ؟ والحديث عن الأزمة إنّمَا هو حديث شامِل لكافّة أنماطها، ولعلّ ما كشفته الأزمة الصِحّية الوبائية وأزمة النقل والمُواصلات "حادثة السُّقوط" في الجزائر مِحكّين للنَظَر في طبيعة عَمَل الأزمة الكاشِف والفاضِح. فلقد شَهِدَ العالَم بِمَا في ذلك دولة الجزائر أزمة فيروس كورونا في نِهاية سنة 2019م الذي تسبّب في العديد من الوفيات والمرضى وهَدّد المَصير وجعل الحياة خانِقة وأجبر الكائن البشري على التنازُل عن بعض حُرّيته والتزام الحجر الصحّي، وما يَهُمّنَا ربّطًا بسياق الموضوع، فإنّ في تِلك الفترة كشفت هذه الأزمة الصِحّية في الجزائر عن عدم جاهزية كافية من البلاد من حيث استعداد المُستشفيات رُغم تجنيد الطاقم الطبي والشبه الطبي الذي قام بالواجب على أكمل وجه، وعن بعض القرارات المُتسرّعة للدولة آنذاك من عدم غلق المطارات. كمَا كشفت عن سوء تصرّف وتدبير ونُقص وعي من الكثير من أفراد الشعب وذلك حينمَا لم يلتزموا بسّياسات الوقاية كارتداء الكمامة والتعقيم والتباعُد والبقاء في المنزل. وغير ببعيد فلقد تلقيّنا فاجِعَة أليمة في الخامسة عشر من شهر أوت الجاري تمثّلت في كارثة سُقوط حافلة لنقل المُسافرين بوادي الحراش بالجزائر العاصمة ما خلّف وفاة ثمانية عشر شخصًا والعديد من الجرحى. لقد كانت الحافلة في حال مُهترئ والطريق غير مُعبّدة بل مُنكسِرة وغير مُستوية، وعدد الركّاب يفوق عدد المقاعد الموجودة وقيل أن السُرعة كانت زائدة. إذن، تكشِف هذه الأزمة هَشاشة وسائل النقل والمُواصلات وعدم صلاحية الكثير منها بسبب أنها قديمة، وحال الطُرق المُحفّرة، وغياب الرقابة الصارمة خاصّة على أصحاب الحافلات من حيث حشّدهم للرُكّاب من أجل قبض ثمن بخسّ. وكذلك الشعب أو من يستقِل هذه الحافلات، نُقص فادِح في الوعي والإدراك والتنظيم؛ إذ كيف له أن يقبل الصُعود إليها والوقوف لِمَسَافات وتِلك الوضعية من الازدحام الداخلي!.
5- خصائِص التفكير الجزائري في زمن الأزمة
للآسف نلحظ أن خصائص التفكير الجزائري بالعُموم سواء تحدّثنا عن الحُكومة أو الشعب، يتّصِف بالارتجالية والتسرّع أكثر شيء أو لنقُل قرارات حينيّة تُرمِّمُ الوضع وتردِم الهُوّة، وكذا الهُروب من الاعتراف بالخطأ إلى تحميل الجوانب الماديّة السبب وهذا ما يحدُث من طرف الشعب، فبدلاً من رفض الصُّعود إلى الحافلة وهي مُمتلِئة عن أخرها حينمَا تحدُث الكارثة يُبرّرون ذلك بحال الحافلة والطريق، فصَحيح هي أسباب ولكن أيضًا للإنسان إرادة الاختيار وتقرير الصّواب. ومع ذلك ما يُثير الإعجاب في الشعب الجزائري هي التفافِه وتآزره مع بعضِه البعض، فقد أظهرت حادثة سُقوط الحافلة هُروع أفراد الشعب إلى مُساعدة رجال الحماية المدنية في إنقاذ الجرحى واستخراج الموتى.
إضافة إلى كونِنَا مُجتمع نُفكِّر فيمَا بعد "تفكير ردّ الفِعل"، نعم هذه هي خاصّيتنا. بعد الأزمة، بعد الكارثة، بعد الموت نحيَا! نُعلِنُ حِداد أو نُعوِّض ضحايا بثمن يزيد من حُرقة الفُقدان، إلى متى ستستمِر العقلية الجزائرية في حصد العديد من الخُسران البشري والمادي؟ لماذا لا تلتِفت الحُكومة إلى شعبها وحاله؟ ثُمّ لها أن تُعِين غيرها.
6- من يتحمّل المسؤولية؟
هل نقول أن هذه الكوارث والحوادث الأليمة التي تُزهِقُ الأرواح وتتسبّب في خسائر مادية أنها قضاء وقدر؟ أم نُحمِّل الدولة المسؤولية في الإهمال وسُوء التدبير والتسيير؟ أم نُقدِّر الوضع على أنه نتيجة جهل الشعب وانعدام رَشَادِه؟
في حقيقة الأمر، المسؤولية شامِلة ومَعْنِي بِها الجميع من الفرد إلى المُجتمع إلى الدولة، فلكلّ جهة جُزء مِمّا حدث ويحدث، شعبًا فردًا وجماعة وحُكومة وعن إيمانِنا بالقضاء والقدر خيره وشرّه نقولُوا: نعم قَدّر الله وما شاء فعل، وهو من أركان الإيمان.
7- اقتراحات تدبيرية
- ضرورة تهيئة البِنى التحتية والمُنشآت وإصلاح الطُرق والاستعداد لهذه الأزمات الوارد حُدوثها.
- القيام بحملات توعويّة تثقيفيّة للشعب بأن يكون واعيًا مُتآزِرًا في زمن الأزمة وقبلِها تفاديًا لحُصولِها.
- الاستفادة من التجارب السابِقة وأخذ العبر واستخلاص الدروس.
- التفكير الشامِل المُركّب قبل وبعد الأزمة، قبل بالجاهزية وتقويّة البِنى القاعدية وإيقاظ الشعب من مرقدِهِ وبعد عن طريق إيجاد حُلول ناجِعة تمنع من حُدوث الأزمة مُستقبلاً بالكيفية ذاتها أو على الأقلّ ضَمانة وقّعِها الطفيف.
- استدعاء النُخب والأساتذة الباحثين من الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس وغير ذلك من التخصّصات لبحث أسباب غياب الوعي ونُزوع الشعب إلى الاندفاع والفوضى، وخُبراء لبحث تقرير سّياسات اقتصادية مَتينة وبرامج واستراتيجيات للتعامُل مع الأزمة أثنائها وبعدها.
- الاعتماد على وسائل تكنولوجية حديثة والتخلّص من الوسائل القديمة البالية.
- الابتعاد عن الخِطاب الخشبي وسّياسة الترقيع والانخراط بجدّية وفَعّالية في حلّ الأزمة.
- الإقرار بالأسباب الحقيقية لحُدوث الأزمات والكوارث ومُحاسَبة المُتقاعسين عن أداء عَمَلهم كمَا يجب.
- تفعيل مُراقبة صارِمة ومُعاقبة من ينتهك القانون.
خاتمة
في خِتام هذه الأسطُر المُركّز موضوعها حول إقامة رُؤية نقدية للتفكير الجزائري في زمن الأزمة من خصائص وأفعال ورُدود أفعال، نَصِلُ إلى استنتاج أن ما يُميّز هذا التفكير أنه ارتجالي وبعدي؛ أيّ بعد ما تقع الأزمة وأن مسؤولية ما وقع وما يقع يتحمّله الجميع من أفراد وجماعة ودولة، ولذلك فإنّ إصلاح الأوضاع تقتضي إصلاح ما يَتّصِل بهذه الشرائح الثلاث؛ بمعنى إصلاح البنية التحتية من مُنشآت ومصانع وطُرق والبنية الفوقية من أفكار وعقائد ووعي وإدراك.
***
د. شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر
تخصّص: الفلسفة العامة