قضايا

فالح الحمــراني: دور الثقافة في حياة الفرد والمجتمع.. التداعيات والآفاق

ساهمت الثقافات من جميع أنحاء العالم في تشكيل المجتمعات بشكلها الحالي. ولا تعكس الثقافة ظلالها على القيم والمعتقدات فحسب، بل وتؤثر أيضًا على السلوك الفردي والجماعي. وهناك انعكاسات مختلفة للثقافة على المجتمع، فضلا عن تعددية وجهات النظر في فهم وتقدير التنوع الثقافي. والثقافة ركيزة أساسية للمجتمع، تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة، من الاقتصاد إلى التعليم وسوق العمل. ومن خلال الاعتراف بالتنوع الثقافي وتقديره، يمكن للمجتمعات الاستفادة من رؤى جديدة ومبتكرة، مما يعزز تنميتها وقدرتها للبقاء على قيد الحياة.

إن النشاط الحياتي للمجتمع متعدد المجالات من بينها العمل، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق، والقيم الجمالية، والقانون، والأسرة، والدين، إلخ، وكل مجال من مجالات حياة المجتمع يتناسب مع مستوى معين من الثقافة التي حققها المجتمع كميزة نوعية لنشاطه الحياتي. ويتمثل ذلك، قبل كل شيء، في أن الثقافة تعمل كوسيلة لتراكم وتخزين ونقل الخبرة الإنسانية. وكما أشار اندرييف في كتابه" الشخصية والثقافة": إن الثقافة هي التي تجعل الإنسان شخصية. ويغدو الفرد عضوًا في المجتمع، شخصية، بقدر ما يكون اجتماعيا، أي يتقن المعرفة واللغة والرموز والقيم والمعايير والعادات والتقاليد الخاصة بشعبه ومجموعته الاجتماعية وكل البشرية. ويُحدد مستوى ثقافة الفرد من خلال التربية الاجتماعية –  وامتلاكه لناصية التراث الثقافي، فضلاً عن درجة تطور قدراته الفردية. وترتبط الثقافة الشخصية عادة بالقدرات الإبداعية المتطورة، والمعرفة، وفهم الأعمال الفنية، والطلاقة في اللغات الأصلية والأجنبية، والأناقة، واللباقة، وضبط النفس، والأخلاق العالية، وما إلى ذلك. ويتحقق كل هذا في عملية التربية والتعليم

والثقافة ترص صفوف أعضاء المجتمع وتدمجهم وتضمن وحدة المجتمع. ولكن من خلال توحيدها بعض الناس على أساس بعض الثقافات الفرعية، فإنها تضعهم في معارضة مع الآخرين، وتقسم المجتمعات والطوائف. وقد تنشأ داخل هذه المجتمعات والطوائف نزاعات ثقافية. وعلى هذا النحو، يمكن للثقافة أن تؤدي أيضا وظيفة تفكيكية، وغالبًا ما تؤدي هذه الوظيفة بالفعل في سياق إضفاء الصفة الاجتماعية على القيم.

ويرى ارنولد ارنولدوف في دراسته عن علم الثقافة إن المُثُل والمعايير وأنماط السلوك تغدو جزءًا من الوعي الذاتي للشخصية. فهي تصوغ سلوكها وتنظمه. وبميسورنا القول أن الثقافة عموما تحدد تلك الأطر التي يمكن للشخص أن يتحرك ضمنها. فالثقافة تنظم سلوك الإنسان في الأسرة والمدرسة والعمل والحياة اليومية وما إلى ذلك عن طريق وضع نظام من التوجيهات والمحظورات. ويؤدي انتهاك هذه التوجيهات والمحظورات إلى فرض عقوبات يضعها المجتمع وتدعمها قوة الرأي العام وأشكال مختلفة من الإكراه المؤسسي. والثقافة، كنظام إشارات معقد، تنقل الخبرة الاجتماعية من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر. وبصرف النظر عن الثقافة، ليس لدى المجتمع آليات أخرى لتركيز ثروة الخبرة التي راكمها الناس. لذلك، ليس من قبيل المصادفة أن الثقافة تعتبر الذاكرة الاجتماعية للبشرية.

إن الثقافة، التي تركز على أفضل الخبرات الاجتماعية لأجيال عديدة من الناس، تكتسب القدرة على تجميع أغنى المعارف حول العالم وبالتالي خلق فرص مواتية لاستكشافها وتطويرها. يمكن القول إن المجتمع يكون مثقفًا إلى الحد الذي يتمكن فيه من الاستفادة الكاملة من أغنى المعارف الموجودة في الجينات الثقافية للبشرية. وتختلف أنماط المجتمعات التي تعيش على الأرض اليوم بشكل كبير، أولاً وقبل كل شيء، على هذا الأساس. وتؤثر الثقافة في مجال العمل، والحياة اليومية، والعلاقات الشخصية، والثقافة، بطريقة أو بأخرى، على سلوك الناس وتنظم تصرفاتهم، وحتى اختيار بعض القيم المادية والروحية. إن الوظيفة التنظيمية للثقافة مدعومة بأنظمة معيارية مثل الأخلاق والقانون. وكما أوضحت آنّا ماركوفا في دراساتها فإن الثقافة، باعتبارها تمثل نظامًا إشاريًا معينًا، تفترض المعرفة بهذا النظام وإتقانه. ومن دون دراسة أنظمة العلامات المتقابلة، فمن المستحيل إتقان إنجازات الثقافة. فاللغة (الشفوية أو المكتوبة) هي وسيلة للتواصل بين الناس. وتعتبر اللغة الفصحى بكل تجلياتها ومجالات استعمالها الوسيلة الأهم لإتقان الثقافة الوطنية. إن فهم عالم الموسيقى والرسم والمسرح يتطلب لغات محددة. للعلوم الطبيعية لديها أيضا أنظمة علامات خاصة بها. إن الثقافة كنظام معين من القيم تشكل احتياجات وتوجهات قيمية محددة للغاية لدى الإنسان. وفي أغلب الأحيان، يحكم الناس على درجة ثقافة شخص معين بمستواه ونوعيته. ويشكل المضمون الأخلاقي والفكري، كقاعدة عامة، معيارًا للقيم المتقابلة. ونستنتج من كل ذلك إن النظام الثقافي ليس معقدًا ومتنوعًا فحسب، بل إنه أيضًا متحرك للغاية. إنه عملية حية، ومصير حي للشعوب، في حركة دائمة، وتطور، وتغير. الثقافة جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع ككل وموضوعاته مترابطة بشكل وثيق: الأفراد والمجتمعات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية.

إذا لم يكن لدى الشعوب التي تسكن منطقة جغرافية معينة ماضيها الثقافي والتاريخي المتكامل، أو حياتها الثقافية التقليدية، أو مقدساتها الثقافية الخاصة، فإنهم (أو حكامهم) يواجهون حتمًا إغراء تبرير وحدة دولتهم بكل أنواع المفاهيم الشمولية، والتي تصبح أكثر قسوة ولاإنسانية كلما قل تحديد سلامة الدولة بالمعايير الثقافية. الثقافة هي الشيء المقدس للشعب، والشيء المقدس للأمة.

إن قيم أي مجتمع متجذرة بعمق في ثقافته، وهي تُشكل الأساس الذي تُبنى عليه المعايير والسلوكيات المقبولة. على سبيل المثال، تُقدّر العديد من المجتمعات الغربية الفردية والحرية الشخصية، مما يؤثر على جوانب مثل التشريع والتعليم، وحتى سوق العمل. في المقابل، تُركز الثقافات الجماعية على الانسجام والتضامن الاجتماعي، مما يُوجه التفاعلات الشخصية وهياكل المجتمع.

وتلعب الثقافة دورًا محوريًا في التنمية الاقتصادية للمجتمعات. فالشركات التي تُدرك الممارسات الثقافية المتنوعة وتُدمجها تميل إلى أن تكون أكثر ابتكارًا ومرونة. بل إن التنوع الثقافي داخل فرق العمل يُعزز الإبداع وتبادل الأفكار، مما يؤدي إلى حلول أكثر ابتكارًا وأداء مؤسسي أفضل إن ثقافة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص هي أساس النجاح وتحاج دائما إلى تعزيز ثقافة الشمول والاحترام، مما يحفز النمو والتنمية المستدامة.

وفي محاضراته عن البعد الثقافي في أنشطة المجتمع يعتبر سكلوف إن التعليم هو المجال الذي يتجلى فيه تأثير الثقافة بشكل واضح. فكثيراً ما تعكس أنظمة التعليم القيم والأولويات الثقافية للمجتمع. على سبيل المثال، في البلدان التي يُركّز فيها التركيز على المنافسة والنجاح الفردي، يميل النظام التعليمي إلى تقدير الأداء الأكاديمي والتصنيفات. من ناحية أخرى، في الثقافات التي يُعدّ فيها التعاون والمساعدة المتبادلة أمرين أساسيين، تُعطى الأولوية لأساليب التدريس الشاملة والتعاونية.

الثقافة في مكان العمل. وفي عصر العولمة، تتزايد تعدد الثقافات في المجتمعات. ويمثل هذا التنوع تحديًا وفرصة في آنٍ واحد. ولجني ثمار هذا التنوع، من الضروري تعزيز ثقافة الشمول التي يشعر فيها كل فرد بالتقدير والاحترام. وعلى الشركات والمؤسسات التعليمية والحكومات جميعًا دورٌ في بناء مجتمعات شاملة وعادلة.

وينغي على الدولة أيضا دعم كافة أشكال المؤسسات في مسيرتها نحو الشمول. وتعاون خبراءها في مجال الموارد البشرية بشكل وثيق مع الإدارات لتطوير استراتيجيات إدارية تعزز التنوع والشمول، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً وازدهاراً.

***

د. فالح الحمــراني

في المثقف اليوم