قضايا
عبد السلام فاروق: نحو تعليم يوازن بين الروح والآلة

لا ينكر عاقل فوائد التكنولوجيا في تسريع نقل المعلومة، أو تنمية المهارات التقنية، لكن الخطر كل الخطر أن تتحول الأدوات إلى غايات، وأن تختزل العملية التعليمية في «كفاءة تقنية» تفتقر إلى العمق الإنساني.
الحل – في رأيي – لا يكمن في القطيعة مع التقدم، ولا في الانغلاق على الماضي، بل في إعادة تعريف الفلسفة التربوية ذاتها: أي إنسان نريد أن نخرج للمجتمع؟
أولاً: علينا أن نفرق بين «التعليم» و«التدريب». فالتعليم الحقيقي يهدف إلى بناء الشخصية النقدية القادرة على التساؤل، والتحليل، والربط بين المعارف. أما التدريب فيقتصر على إتقان أدوات محددة. التكنولوجيا تفيد في الثاني، لكنها – دون وعي – قد تعيق الأول إن حولت الطالب إلى مجرد متلق سريع الاستجابة، لا مبدع يبحث عن المعنى.
ثانيًا: التوازن مبدأ جوهري. لماذا لا نخصص حصصًا للكتابة اليدوية التي تنشط الذاكرة، وتعزز التركيز، وتتيح مساحة للتأمل؟ ولماذا لا نستخدم التكنولوجيا في الوقت ذاته لمحاكاة التجارب العلمية، أو ربط الفصول بثقافات بعيدة؟ المشكلة ليست في الجمع بين القلم والشاشة، بل في غياب الرؤية التي تحدد متى نستخدم هذا أو ذاك.
ثالثًا: إعادة تأهيل المعلم. لا يكفي أن نزود المدارس بأحدث الأجهزة، أو نعيدها إلى الأوراق، إن ظل المعلم أسير المنهج التلقيني. التعليم الناجح يحتاج إلى مرب قادر على تحويل الفصل إلى «ورشة أسئلة»، سواء بوسائل بسيطة أو معقدة. التكنولوجيا – هنا – قد تكون عونًا إن سخّرناها لخدمة الحوار، لا لقتله.
رابعًا: مقاومة ثقافة «الاستهلاك المعرفي». إن إغراق الطالب بمنصات إلكترونية لا تنتج إلا جيلًا يعتقد أن المعرفة «وجبة سريعة» تستهلك وتنسى. أما الكتابة اليدوية، والقراءة الورقية، فتعيد له احترام «البطء» كشرط للفهم. لكن هذا لا يعني رفض العالم الرقمي، بل دمجه في إطار يحافظ على جوهر التعليم: صناعة العقل المتسائل.
خامسًا: الحل السياسي قبل التربوي. قرارات التعليم لا تتخذ بعيدًا عن ضغوط شركات التكنولوجيا، أو الصراعات الإيديولوجية. فكما دافع «روسو» عن تربية الطبيعة ضد تقاليد عصره، علينا اليوم أن ندفع باتجاه سياسات تعليمية تقلل من هيمنة «السوق» على المدرسة، وتجعل مصلحة الإنسان – لا الاقتصاد – هي المعيار.
التاريخ يعلمنا أن المجتمعات التي انتصرت هي التي جمعت بين «العقل الأداتي» و«العقل النقدي». فاليابان – مثلاً – تمزج بين أحدث الابتكارات وتقاليد «الزن» في التأمل. والسويد – بإعادتها للأقلام – تذكرنا بأن التقدم ليس مسارًا مستقيمًا، بل هو دائرة تبدأ بالإنسان وتنتهي إليه. فلنوقف معركة «الورق ضد الشاشات»، ولنبدأ معركة «كيف نحول التعليم إلى حياة».
نحو فلسفة تربوية جديدة
لا تحل إشكالية التكنولوجيا والتعليم بالوقوف عند حدود "الشاشة أم الورقة"، فهذه ثنائية تختزل سؤالًا معقدًا في إطار تبسيطي يخدعنا بوهم الحلول السريعة. إن جوهر الأزمة يكمن في تحول التعليم إلى ساحة للصراع بين قوى متعددة: اقتصاد السوق، وضغوط العولمة، وتراجع الفلسفة الإنسانية. فكيف نعيد بناء التوازن؟
لم يعد دور الأسرة في العملية التعليمية مقتصرًا على توفير الأجهزة أو مراقبة الدرجات. التحدي الحقيقي هو أن تتحول البيوت إلى فضاءات تكمل المدرسة: حيث يمارس الطفل الكتابة اليدوية، ويقرأ كتابًا ورقيًا، بينما يستخدم التكنولوجيا لاستكشاف الكون عبر منصات علمية. الأسرة التي ترفض أن تكون "حارسًا رقميًا" لأبنائها، وتشاركهم في تشكيل وعي نقدي، هي التي تنتج إنسانًا قادرًا على الاختيار، لا الاستهلاك.
أصبح الطالب اليوم غارقًا في كم هائل من المعلومات، لكنه يفتقد "خريطة المعنى" التي تربط بينها. التكنولوجيا تقدم له "المعلومة" كقطع منفصلة، بينما الكتابة اليدوية – خاصة في تدوين الملاحظات – تعزز الربط بين الأفكار عبر تشغيل الذاكرة البطيئة. هل نستطيع توظيف التكنولوجيا لبناء مشاريع بحثية تعيد للطالب إحساسه بأن المعرفة نسيج واحد، بينما نحتفظ بالورق كمساحة للتأليف الذهني؟
الوهم والضرورة
لا ينكر أحد أن الهواتف الذكية حولت الطلاب إلى كائنات مشتتة الانتباه، لكن الحل لا يكمن في مصادرة الأجهزة، بل في بناء "وعي رقمي" يدرك أن التكنولوجيا أداة تحرير لا أداة استعباد. كيف؟ بدمج مادتين في المناهج: فلسفة التكنولوجيا (كيف تعيد تشكيل وعينا؟)، والكتابة الإبداعية (كيف نعيد صياغة العالم بلغتنا؟).
الامتحانات مقبرة للإبداع
الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها التكنولوجيا في التعليم هي تعميقها لفكرة "النتيجة السريعة" عبر اختبارات محوسبة تقيم السرعة أكثر من العمق. والعودة إلى الورق – في حد ذاتها – لن تصلح الأمر إن ظلت الامتحانات تقيس الحفظ لا الفهم. الحل الجذري هو إعادة تصميم التقييم ليكون قائمًا على:
- مشاريع طويلة المدى تقيم التفكير النقدي.
- مناقشات جماعية تعيد الاعتبار للحوار الإنساني.
- ملفات إلكترونية وورقية توثق رحلة التعلم، لا لحظته الختامية.
لماذا لا نحول المدرسة إلى نموذج مصغر للمجتمع الذي نطمح إليه؟ حيث:
- تستخدم التكنولوجيا لتخطي حواجز الزمان والمكان (كالتواصل مع مدارس في قارات أخرى).
- وتستخدم الأقلام لكتابة رسائل حقيقية يرسلها الطلاب إلى أنفسهم بعد عشر سنوات.
- وتصمم فصول بلا شاشات أيامًا، وبلا أوراق أيامًا، ليتعلم الطفل أن الأدوات خادمة، لا سيدة.
الخوف من التكنولوجيا – كالانبهار بها – دليل عجز عن رؤية المستقبل. السويد التي عادت إلى الورق ليست نفسها التي دخلت عصر الرقمنة؛ إنها مجتمع اختبر الحداثة، واكتشف أن الإنسان يخسر إنسانيته حين يغادر جسده إلى العالم الافتراضي. أما نحن – في العالم العربي – فما زلنا نصارع للخروج من مأزق "اللحاق" بالآخر، دون أن نحدد: أي إنسان نطلب؟
لن ننجو برفض التكنولوجيا أو بعبادتها، بل بفهم أن التعليم الناجح هو الذي ينتج إنسانًا يستطيع أن يكتب قصيدته على الورق، ويحلل بيانات العالم على الشاشة، ويسأل في الحالتين: ما الذي أضعه؟ وما الذي أكسبه؟
أين المفر؟
لا تبحثوا عن "التقدم" في شاشة ذكية، ولا عن "التخلف" في دفتر مصفر. فالحضارة لا تقاس ببريق الأجهزة، بل بقدرة الإنسان على طرح السؤال المحرق، والتفكير النقدي، والحفر في أعماق المعنى. حين أعلنت السويد عودتها إلى الأقلام والورق في مدارسها، لم تكن ترفض التكنولوجيا، بل كانت ترفض شيئًا آخر: الاستسلام لفكرة خادعة مفادها أن السرعة تعني الفهم، واللمسات السطحية تعني الإبداع، واتساع الشاشات يعني عمق الرؤية.
هل ننسى أن سقراط رفض الكتابة ذات يوم؟ اعتبرها شكلاً من أشكال النسيان، لأنها تضعف الذاكرة وتقتل الحوار الحي. لكن التاريخ لم يتوقف، فالكلمة المكتوبة صارت جسرًا بين العصور. الفارق أن سقراط كان يسأل عن "لماذا" قبل "الكيف". وهذا بالضبط ما تفعله السويد اليوم: تسأل عن "لماذا" قبل أن تغرق في بحر رقمي لا قاع له.
علينا أن تتذكر أن القضية ليست معركة بين الحبر والإلكترونيات، بل بين "التعليم كصناعة بشرية" و "التعليم كسلعة استهلاكية". هل نريد لأطفالنا أن يصيروا مستخدمين بارعين للتطبيقات، أم مفكرين قادرين على اختراق السطح؟ الورقة والقلم قد يكونان تمردًا على ثقافة "التلقين السريع"، لكن التمرد الحقيقي يبدأ عندما نعلم الطفل أن يسأل: ماذا خسرت حين كسبت السرعة؟ وماذا كسبت حين خسرت الورقة البيضاء التي كانت تنبئ بفرصة البدء من جديد؟
في النهاية، لا معنى للحديث عن "العودة إلى الماضي" أو "الاندفاع نحو المستقبل"، إذا كنا نفتقد البوصلة التي تحدد: أي إنسان نريد؟ فالأقلام والورق ليست سوى أدوات، لكنها قد تكون فرصة لنتذكر أن أعظم التكنولوجيا هي تلك التي تطلق العقل بدل أن تأسره.
***
د. عبد السلام فاروق