قضايا

خالد اليماني: أسر الثقافة

لا يولد الإنسان في عزلة عن محيطه، بل يفتح عينيه على عالم مشبع بمعانٍ مسبقة، وأفكار جاهزة، ومفاهيم مغروسة في اللغة والسلوك والعلاقات. منذ لحظاته الأولى، يدخل في نسيج من القيم والتصورات التي لا يختارها، بل يرثها كما يرث الاسم والجسد. هذه الشبكة التي تحيط به وتوجه إدراكه وتكوّن مشاعره، ليست شيئًا منفصلًا عنه، بل تشكّل جزءًا من تكوينه الداخلي.
إنها الثقافة، الحاضرة بصمت، كاللاوعي الجمعيّ، وروح الجماعة التي تؤثر فينا أكثر مما نتصور.
الثقافة لا تسكن في الكتب ولا في الشعارات فقط، بل في ترتيب الأولويات، في نوع الخوف الذي نشعر به، في شكل الطموح الذي نركض إليه. لهذا يصعب الخروج منها، لا لأنها تقيدنا بالسلاسل، بل لأنها متغلغلة فينا بعمق لا نراه. قد يظن المرء أنه تحرر من ثقافته، لكنه لا يدرك أنه فقط بدّل ترتيب قناعاته ضمن السياق نفسه. حين تقول “أنا مختلف”، فأنت في معظم الحالات تقولها بلغة ثقافتك، لا بلغة آخر.
ومع ذلك، هنالك من يجرّب الخروج. يعلن انفصاله عن الدين، أو عن التقاليد، أو عن مفاهيم ترسخت في مجتمعه منذ قرون. لكن حتى هذا الفعل نفسه، لا يتجاوز ثقافته تمامًا. فالإلحاد - مثلًا - لا يولد من لا شيء، بل غالبًا ما ينشأ كردّ فعل. وغالبًا ما لا يكون موجّهًا إلى “الإيمان” كحالة وجودية، بل إلى النسخة التي عاشها المرء في بيئته: نسخة قاسية، أو متحجرة، أو مثقلة بالتناقضات. فيتخذ موقفًا منها، لا من الإيمان ذاته، ويرفع صوته في وجهها، دون أن ينتبه أن صراخه ذاته يستمد لغته منها. الموقف إذًا، قائم داخل الدائرة، لا خارجها.
هذا لا يعني أن لا أحد يمكنه التفكير خارج الصندوق، لكن الصندوق أحيانًا يكون شفافًا. نتحرك، نظن أننا أحرار، لكن الخطوط ما تزال ترسم حدود رؤيتنا. وعليه، فالحكمة ليست في ادعاء التحرر الكامل، بل في فهم محدوديتنا: في أن نعي أن الانتقال من قناعة إلى أخرى، لا يُخرجنا من الحاجة إلى الإيمان بشيء، بل فقط يغير اسم الشيء الذي نؤمن به.
ليس العيب في أن نتبنى أيديولوجيا، بل في أن نظن أنها الخلاص. الإنسان بطبعه كائن يبحث عن معنى، عن بنية، عن طريق يضع فيه نفسه. وكل أيديولوجيا، مهما بدت شاملة، لا تحيط بالحقيقة كلها. فكل منظومة فكرية تحمل في داخلها نقصًا ما، أو زاوية ظل لا تصلها الكلمات. وهذا لا يقلل من قيمتها، بل يجعلها أداة جزئية في فهم العالم، لا مرآة كاملة له.
لذلك، فإن كثيرًا من محاولات “التحرر الجذري” التي نشهدها ليست سوى تعبير آخر عن رغبة دفينة في التمركز. فالخروج من دين، أو من تقليد، لا يعني الخروج من الحاجة إلى الانتماء. وبدلًا من البدء من العدم، من المجازفة بصنع فكر من الصفر، يمكن للمرء أن يبدأ مما لديه. من الثقافة التي نشأ فيها، من اللغة التي شكلت وعيه، من المفاهيم التي شبّ عليها، وأن يعمل على تنقيتها، تهذيبها، رفعها إلى مستوى يرضي عقله ويطمئن قلبه.
أن تحافظ على ثقافتك لا يعني أن تستسلم لها، بل أن تنضج معها. أن تنظر إليها بعين ناقدة، لا أن تخلعها كما يُخلع الرداء. فالثقافة ليست لباسًا خارجيًا، بل نسيجًا من الداخل. وإن جاز القول: الحكيم لا يترك ماضيه، بل يفهمه، ويصالحه، ويعيد صياغته بما يليق بكرامته العقلية والوجدانية.
وفي النهاية، فإن المرء لا يخسر حين يبقى في ثقافته، بل يخسر حين يظن أن الخلاص في النفي وحده. إذ ليس كل ما يُهدَم يستحق الهدم، ولا كل ما يُبنى من الصفر يكون أفضل. البعض ينشغل طوال عمره في محو ما تلقّاه، وينسى أن يضيف عليه ما يُضيئه.
***
خالد اليماني

في المثقف اليوم